السنونو يرحل جنوبا
محمد باقي محمد
ولمّا أطلق القطار صفّارته الأخيرة إيذانا بالانطلاق ، امتصّت ّالفضاءات الوسيعة الظمأى عويله المترع برعشات الوداع ، فانكمش جوان على نفسه ، وأغلق عينيه ؛ منسحبا نحو الأعماق القصية للنفس ، يتمترس بجدرانها الكتيمة ، على أمل الهرب من التفاصيل المحكومة بلوعة الغياب ، فيما انسربت أفكاره خلف الأيام الهاربة والأحلام الموؤدة بالقلق و الخوف !
فجأة علا صوت قرع على الباب ، فانتزعه من معتكفه المبهظ بالصمت ، وتراجعت الهواجس - التي كانت تنغل في رأسه كقرية نمل - إلى حين ، و مع تدافع الصوت المحايد الرتيب :
-التذاكر ياشباب .
ارتفعت عيناه المسبلتان على أشجان كانت قد ثوت في القاع كما ظلمة كثيفة ، وإذ شرع صوت القطار يتوحّد بوجيب القلب ، امتدت أصابعه الراعشة الى جيبه ، ثمّ انسلّت تجرّ بين السبّابة والإبهام ورقة مهترئة الأطراف ...
( الاسم والشهرة : جوان محمد
اسم الأب : محمد ،اسم الأم : خنسي )
وعلى الزاوية العليا منها ، إلى اليسار ، انزوت صورة قديمة ممهورة كتب تحتها (خاص بالأجانب ) !
( المادة الخامسة عشرة :
1- لكلّ فرد حقّ التمتع بجنسية ما .
2- لايجوز حرمان شخص من جنسيته تعسّفا ، أو إنكار حقّه في تغييرها.
الميثاق العالمي لحقوق الإنسان )
تأمّل الشرطيّ الورقة الغريبة بحيرة ، وقال :
سأعرضها على رئيس الدورية ليبتّ بصلاحيتها (1)
تقلقل القطار متحركا ، بينما أنشأ إحساس حاد بالانكسار يمور في الأحشاء كحرف نسلة، يرض ّالنفس المكروبة ، يجرحها..
( إلى أين أيّها الكرديّ المتعب ، الطالع - بحسب الآخرين – من باطن الأرض كفطر سام ، الهابط من مجرّة أخرى – ربّما – كيما يصابوا بالدهشة أو الامتعاض من وجودك المقلق !
( مقام اللجنة المركزية للإحصاء : مقدّمه جوان محمد ابن محمد ، من أهالي قرية تل حبش ، التابعة لناحية عامودا.... علما بأن والدي كان يقيم في هذه القرية ، كما كان جدّي _ من قبل - مقيما فيها ، وتوجد في حوزتنا سندات تمليك تعود إلى أيام العثمانيين ... لكلّ ما تقدّم أرفع إلى مقامكم طلبي هذا راجيا إعادة النظر في وضعي ، وإدراج اسمي في لوائح المواطنين ، أسوة بغيري منهم .
ولكم الأمر سيّدي المستدعي / الطابع والتوقيع )
( غريب أنت ، والمحطّات موصدة في وجهك أو مرصودة ، فكيف تتدبّر المبلغ المطلوب ؛ مقابل أن يدرج اسمك في خانة المواطنة ، وأنت العاطل أبدا ، المتبطل بالإكراه ؟! ليس ثمّة دراهم ، إذن ليس ثمّة مواطنة ! معادلة عجيبة ! إذ هل للمواطنة أن تعامل كاللبن أو العصفر أو الصابون ! ولكن أنت لست نيزكا هوى من سموات قصيّة ، ولا كائنا مجهولا لفظه كوكب بغيد نحو هذه البسيطة ! ثمّ أنّ الحجارة لاتلد بني آدم ، فلماذا يوهمونك – مع كلّ خطوة –بأنّك غصن اجتثّ عن أصله !؟ )
( إلى المستدعي جوان محمد ...لإبراز مايثبت بأنّك غير محكوم ، وبيان قيد من السجل المدني؛ مدوّن فيه عبارة عربي سوري منذ أكثر من خمس سنوات .
مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل الخاتم والتوقيع )
( ومن اجتثّ من جذوره ؛ لن يتسنّى له أن يبرز ما يثبت بأنّه" غير محكوم" ، لأنّه – أساسا – لايحمل " بيان قيد " يمنحه شرف الانتماء إلى بلد جبل ترابه بعرقه ودمه ودموعه ، بلد منحه خبزه وزيتونه ونبض الأرض ، فلم يبق له إلا غربة داخليّةتصلب الروح إلى متونها، ولو أنّ هذا الاجتثاث جاءك من الأتراك لعذرتهم ، ذلك لأنّهم لايعرفونك جيدا!
الملغز في الأمر أنّه جاءك من الأشقاء العرب ؛ الذين اقتسمت معهم الرغيف وعشب البرية وضريبة الدم ! والأكثر إمعانا في الالتباس أنّ ما وسم بمروحة اليسار في البلد لم يضعك في مغازيه ، ولاكانت معضلتك – يوما – على سلّم أولوياته! هناك في ما يسمّى بالعالم المتحضر ينسبون الكلاب إلى أروماتها ، ويمنحونها هويّة ، بينما تنكرك السجلات في بلدك ككائن أجرب ، فلا تساويك – حتى – بماشية رعاتها التي تدوّنها كشرط لحيازة المراعي !أما أن تسقط أسماء أدى أصحابها خدمة العلم – سهوا أو عن عمد – في خانة اللاجئين أو مكتومي القيد ،فتلك كانت المعادلة التي تذهب بالعقل إلى حافات الجنون ! وتظلّ الأسئلة المحيّرة فأسا معلّقة فوق الرأس ؛ أن لماذا تعمد الحكومة إلى تغيير أسماء القرى الكردية !؟ لماذا وضعت يدها الثقيلة على الشريط الحدودي ، ووهبت كثيره للفلاحين الذين استقدمتهم من حوض الفرات الأوسط، غبّ أن غمرت مياه السدّ الكبير أراضيهم !؟ و لماذا عمدت أجهزتها إلى فصل الطلبة الأكراد من المدارس والمعاهد ، وهم في مقتبل الدرب مايزالون !؟ أيمكن لشباب غضّ التجربة أن يشكّل خطرا على أمن بلده!؟ وأيّ نوع من الخطر !؟ حسنا ، أين يذهب هؤلاء بأنفسهم ، وأيّ مستقبل مبهم ينتظرهم في غد قريب !؟ وبعد ! ؟ لماذا حينما ينادى محمد ب : " ممّ " ينبض الغضب في الشرايين ، حتى لكأنّ مايعطيه اللّه للإنسان يحق لأخيه الإنسان أن يحرمه منه !؟ أهذا كلّه لأنّك ولدت كرديا ! ولكن هل تضع الفرس آلا فرسا !؟ أليس هذا في طبيعة الأشياء؟! فإذا تململت ، أو بدا عليك ما يشي بالتذمّر ؛ لاحقتك التهم الجاهزة ، يلصقونها بك كيفما شاؤوا ، فيداخلك الإحساس بأنّك وحيد وأعزل في مواجهة أجهزتهم وشرطتهم ومخبريهم السريّين ! ألهذا أدمنت الصمت ، أم أنّك التجأت إلى عبّه لتتجنّب الكلفة الباهظة للكلام ؛ تاركا نفسك لخراب الدورة الدمويّة ، وتحوّل الأشياء ، وهي تمسخ إلى كمّ بيولوجيّ رثّ ومهمل !؟)
( المادة الخامسة : لايعرّض أيّ إنسان للتعذيب ولاللعقوبات القاسية أو الوحشية الحاطة بتالكرامة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان )
( قد يكون استيلاد هراوات من الأشجار ، أو حفر أنفاق في الجبال ، أو تغيير مجاري الأنهار ، أو – حتى – تجفيف الينابيع في حدود الإمكان ، لكنّ الكردي سيظلّ – إلى أبد الآبدين – كرديا ! و حتى إذا حاول إخفاء جذوره، فانّ لغته المكسورة ، وسحنته التي تلازمه كوشم ، ستكشفانه ! )
خببا كانت المشاهد تتوالى ، وفي الحدقتين- اللتين كانتا تريان ولاتريان – انعكس الخرّوب والصرّ متناثرا على المفارق ، مغيّبا التربة الصفراء الباهتة . كان القطار قد تجاوز مدينة الحسكة ،ومن خلل الروابي التي راحت تتقهقر إلى الوراء بسرعة ، انبثق وجه زوجته المسكون بأسى ذاهب في المسام ...
والآن يا جوان !
لاجواب ..
(ولكن أنت مطالب بالدفاع عن أنثاك أيّها الكردي ، انّه ارث الأجداد ، فكيف لك أن تفعل ، وأنت عاجز عن التحصّل على عمل ! أيّ عمل !؟)
عبر الوجنة تحدّرت دمعة حارقة كابرت طويلا ، ربما لأنّ صورة بعينها أخذت تضغط ! كانت تلك صورة ابنه الوحيد الذي انخرط في نشيج حاد ، بعد إذ أفلتت يداه الغضتان – عنوة – ركبتي أبيه!
( المادة الثالثة والعشرون :
لكلّ شخص حقّ في العمل ، وفي حرية اختيار عمله ، في شروط عمل مرضية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان )
( إذن هي الأزمنة الممضّة تحلّ ، والوجوه الأنيسة المشغولة من شغاف القلب وشغف البراري ظلّت وراءك ، بعد أن كان فراقهم - في وهمك – معادلا للموت ! فهل ستعود إلى المحطات الأليفة ،الحبيبة إلى القلب !؟ وهل تلقاهم – الأحبة – ويلقونك ، ليعود إلى المحيط - المسرف في استنزاف مشاعرك – انتظامه !؟ وهل تمنحك –بيروت – هذه مامنعه عنك بلدك، أم أنّك ستعجز عن إيجاد زاوية للنوم فيها ؛ تماما كما كانت الحل مع فنادق حلب أو دمشق ، آن كانت ظروفك تضطرك للسفر ؛ في ظلّ لاهوية !؟هل تسيء حقا إلى سوريا – التي تعشقها بلا حدود- عندما تسمّي الأشياء بأسمائها الكردية !؟ ولكن أوليس الكردي بعاشق للأرض والمرأة ، فكيف لعاشق أن يسيء إلى الأرض ، وهي صنو المرأة والكرامة ،!؟ الا أن ّمن لم يقيّض له أن يتملّى وجه عذراء كردية ، مجبولة بالدم والكبرياء والأقاحي البرية وخبز التنور وغسق البحر ودهن اللوز ، لن يتسنّى له أن يفهم ! وبعد أيها الكرديّ المتعب ! أيظل الخوف يغشاك ، وأنت تحتفي بعيد النوروز!؟ أتظل ذكرى تلك الغرف الباردة المعتمة ، التي تحاول أن تتّشح بأنفاس بشرها الفرحين و الخائفين بآن ماثلة في الذهن ،تلاحقك أنّى كنت ، إلى جانب أخيلة البشراللاهثين المتسللين تحت جنح الظلام نحو مرتفع ما لإضرام نار !؟ لكم هي بشعة" السرانية " ! أتظلّ تتلفّت حولك وأنت تسر ّبكلماتك الكردية مخافة أن يسمعك الآخرون ، الذين يضعونك - سلفا – على لائحة الاتهام، لالشيء إلا اّلاعوجاج في لسانك! ترى أكانت الحال تختلف لو أنّك أدرت ظهرك لسورية وتركيا ، ويممت وجهك نحو إيران ، أم هي الحكومات تتشابه في كل شيء ، تتدفق أو تختصم ، إلا في ما يخصك ، ذلك أنها - آنئذ- تتحد في سطر واحد !؟ ولكن لماذا يحشرونك في مضائق الموت ،ليضعوك على مدار الكراهية نحو بشر أحببتهم بكلّ مافيك من قوة !؟ المهم في المسألة أن تغادر جلدك ، أن تستعير جلد الآخرين ! ليس ثمّة تثريب إن شعرت بالبرد ، أوبدوت مضحكا أو منفّرا ، فليس هناك من يكترث ! ثمّ ماذا لو أردت أن تدافع عن بلدك المضرج بوحل الهزائم، إذ ليس من المعقول أن تجثم فوق حطامه ، وكأنّ الأمر لايعنيك!؟ لاتقل - مثلا – بأنّك ستتلقّى جوابا من وزارة الدفاع ؛ تأسف فيه لرفض طلبك بسبب ممّا ذكر أعلاه ! يا اللّه أهذا ممكن !؟أيحولون بيتك وبين شرف الذود عن الأرض التي ارتبطّت بها بحبل السرة !؟ البلاد التي تركض على أمل الإمساك بالشمس ستتركك- إذن – رهين إحصاء جائر ، إحصاء قامت به حكومة وُسمت – في ما بعد من قبل الحكومات المتتالية – بالانفصال و الرجعية، ليرين على المستقبل ثوب من القلق و الإبهام!وليضَيّق عليك – من ثَمّ –في كلّ جانب ، فلا بطاقة تموينيّة تتيح لك أن تشتري جعالتك من السكر و الرز وخلافه بالسعرالمخفّض، ولا فرصة واضحة لعمل كريم ، أو للاستفادة من قانون الإصلاح الزراعي في التحصّل على قطعة أرض ، ويبدو – واللّه أعلم – أن لاأمل في الخلاص من معاملات الترخيص السيّئة الصيت (3) العجيب أن ّهذه الحكومات المتتالية لم تتفكّر في رفع مالحق بك من غبن ! ناهيك عن الانتهاك المضمر لحقك في أن تشغل منصبا هاما ، أو تحتلّ وظيفة ذات حساسية سياسية، اللّهم ألا إذا تماهيت في الآخر ، وهاهي لغة أخرى تفرض سياقها عليك بذرائع شتّى ، مرة سعيا وراء وظيفة تنأى ، ومرة لأداء فرض دينيّ ، ومرات للتفاهم مع الآخرين ! وها أنت ترى في ما ترى شهابا يهوي فلا يعود لك – مابين اعتكار الدم المحرور ، والبلاد التي ما عادت لك- سوى ذاكرة تلوب في البحث عن النديّ من الأخيلة ، وتسقط في الرجعى ، تكتظّ الجمجمة بدماملها ، ومن الأعماق تنهض صورة الزوجة والابن باهتة ، فلا تتبيّن إن كان ما يعلو الملامح ابتسامة تسليم عاجز ، أم عتاب متفهّم ، بينا أذيال الصغير الكالحة تنكأ الجراح ، فتضرب جدار العربة بقوّة ! ربما لأنها الطريقة الوحيدة للتعبير عن الغضب الأعزل والألم ، حينما لايكون ثمّة سبيل آخر ! )
الرأس تدور ،والقطار يدور، والعالم يدور ....
تفضّل ، لابأس !
مدّ الشرطي ّيده بالورقة ، وبهدوء أعادها جوان إلى جيبه . عبر الزجاج كان العشب البري يتّصل بالمزارع و الحقول المتناثرة على ضفاف الفرات ، يتخلّله – هنا و هناك –شيء من ورد الخذراف ، و هربا من الأسئلة العنيدة الضاغطة ، وضع رأسه على حافة النافذة ، و ضغط جبهته على زجاجها بشدّة .
الهوامش:
(1)الإجراءات المتخذة بحق أكراد سوري غبّ إحصاء 1962 ، ليست معروفة في المناطق السورية كافة ، لاسيما تلك التي تخلو منهم .
(2) كانت الدوريات التي تدقق في تذاكر السفر ، وبطاقات الهوية مشتركة بين العاملين في مؤسسة السكك الحديدية ورجال الشرطة أو الأمن .
(3)تحال معاملات الأراضي الزراعية ، التي تتضمّن تسويات داخل حدود الأسرة ، كأن تتنازل الأم- بعد وفاة زوجها- عن حصّتها لصالح أولادها، إلى وزارة الدفاع؛ على أساس أنّ الحسكة محافظة حدودية ، لكنّ معاملات الأكراد تعاد دائما مقترنة بالرفض ، لالشيء ! بل فقط لأنّهم أكراد ، ما يعطي هذه المعاملات بعدا سياسيا .