الهجرة العلنية
الهجرة العلنية
د. عبدالهادي دحاني *
أكثرتم من الحديث عن الأسرار، وليس لدي سر، فهجرتي معروفة لدى القاصي والداني، والرائحة تفوح بالبطالة، والفقر يصارع الكفر والظلم، فهل يعجبكم غلب هذا لذاك؟.. أنا منذ وقفت أمام أمواج البحر، ما فكرت إلا في زورق أنيس وسط الظلمات، فهل تعتبرون هذا سراً؟.. ولقد عدت بعد التفكير المغرق إلى حارتي التي ضاقت بي ذرعاً،.. فتذكرت بأن البحر يسعني ولو كان مغرقا من غير تفكير، .. سئمتني دروب حارتي لأن رجلي طالما خطت بها لام ألف.
طوفت في الأحياء الصناعية في مدينة مترامية سموها داراً بيضاء، فوجدت الدار صغيرة والأيادي سوداء، فما هذا البخل يا داراً كبيرةً بيضاء، أما علمت بأن اختلاط الألوان يتلف الأبصار؟ من علمك البخل؟ أأمريكا السوداء أم تل أبيب الزرقاء؟ .. آه قد تكون هذه الرقطاء هي رأس البلايا ومصدر الشرور والرزايا.. فكم حذرني أبي رحمه الله من أن أكون "أزرق" في الدراسة منذ التحقت بالمدرسة، ومن أن أكون "أزرق" في التفكير وفي العمل..، فلماذا صار العالم أزرق في الاقتصاد وفي السياسة؟ .. كان أبي رحمه الله يقول لي دائما محفزا ومحذرا : كن يا ولدي مجتهدا تفلح، ولا تكن "أزرق" فتخسر دينك ودنياك.. وكان ينهاني عن مجالسة اليهود، زوار الحي، الذين ينصبون خيامهم الصغيرة والقصيرة في ثنايا الدروب، يحترفون مهنة الإسكافيين، يصلحون أحذية الساكنة... أليس هذا هو السر منذ زمان الغفلة؟؟؟ .. فلماذا تشتغلون بسري المكشوف، وتتركون الأسرار الزرقاء التي تغيب فيها الحقائق كما تغيب الرؤية في زرقة البحر الممتدة..، كثيرا ما نسمع عن الصراع بين السود والبيض، وقلما تتجه الأنظار إلى "الأزارقة" المتوارين خلف السواد والبياض، وهل علمتم بأن النزاع بين الأوس والخزرج كان وراءه أزرق من بني سلول؟..
ولماذا تتهمونني بالأسرار ، وأنا الذي تعلمت في مدارسكم في بلادي، ولا تدرون أين تعلم أولئك الأزارقة الغرباء؟ .. وأنا الذي تخرجت مجازا عاطلا من "شتاتكم"، عفوا من جامعاتكم، ولا تدرون من أين تخرجوا؟.. أنا الذي تعرفني أشجار حارتي التي صنع منها المعلم عصا عجيبة كانت لا تفارقه، وبها كانت يقرع رؤوسنا، وبها كان يحقن السادة المعلمون أناملنا المتجلدة من شدة البرد القارس، وخاصة عند السابعة صباحا داخل الفصل.. ويا ويل من لم يجمع أنامله في يده ليجد المعلم لذة الضرب بالعصا كل من عصاه فلم يفهم عنه، فإن هناك زبانية يكبرون أقرانهم سنا بشهور قليلة، ولا يفقهون شيئا غير هذه الخدمة التي يقدمونها للمعلم الجلاد، يطيعونه في كل شيء حتى في توبيخهم وجلدهم، إذا ما جاء دورهم، هؤلاء هم الذين يناديهم فيهرعون إليه من غير تردد، لأنهم لا يملكون لأمره دفعا، يقول لهم: خذوه، وفوق الطاولة اطرحوه؟؟!!.. فينزعون حذاءه بشدة، وإن حصل أنه يرتدي الجوارب، مزقوها لضيق الوقت ومن كثرة الصراخ الذي يرهب الجلاد والزبانية الصغار، ويملأ المكان رعبا وتوجسا، فكل العيون تدور في الرؤوس، ويخشى أصحابها أن تدور عليهم الدائرة، ثم يهوى الزبانية الصغار على الرجلين المتسختين، واللتين تنبعث منهما رائحة الجوارب "الزكية" ورائحة المشي "الطيبة"، والتي زادت انتشارا من كثرة الأميال التي تقطعها ذهابا وإيابا أكثر من أربع مرات في اليوم الواحد..، ويحكمان القبضة، ثم يفسحان المجال لسيدي المعلم كي ينهال عليهما بالعصا المفلقة، وكلما هوت على الرجلين المجتمعتين والمقيدتين بالقبضة الشديدة للزبانية الصغار، تركت على صفحتيهما خطا أزرق، يعطي شحنة كهربائية يترنح لها الجسم الممتد فوق الطاولة، فيضطرب ويعلو الصراخ، وباقي التلاميذ ينظرون في وجوم واعتبار، فالويل لمن سلك المسلك الذي يؤدي إلى هذا المصير.. فلماذا تتهمونني بالأسرار، والعصا تجلو مني كل شيء، وتبلو مني الأخبار، وتنفي عني كل خبيئة.. إن آثار أقدامي في الرمل لا زالت شاهدة، ولو غابت عنهما آثار العصا في السنين الخوالي.
اتصل بي صديق مجاز قديم، يسألني هل وجدت عملا فقد وجد عملا، فهنأته، لكنه ما قبل تهنئتي، لأن رائحة الأزبال والنفايات "الملونة" والملوثة التي يعمل بها منذ طلوع الفجر، غيرت مزاجه، فصارت تصدر منه تصرفات لم أعهدها فيه من قبل انشغاله في مصلحة النظافة. إنه يجري وراء شاحنة لونها أزرق هي الأخرى، لكنه أخذ يبهت شيئا فشيئا من شدة الأوساخ التي علقت بها من جراء عملية الشحن والإفراغ التي يقوم بها العمال وهم يركضون في خفة ونشاط، ومعهم صديقي، وهو آخذ في إتقان عمله يوما بعد آخر، وإلا فلن يضمن الاستمرار في هذا المنصب، إذا لم يتقن الركض والرمي السديد لعلب النفايات السوداء في آن.. معه مسؤول يجري وراءه دائما يحثه بكلمات واحدة: أركض..وارم، ثم اركض ولا تبالي، فالشاحنة لا تتوقف، ولا تعرف الملل، ولاتنتظر أحدا.. ومن فاتته فاته النصيب والنصَب..
عدت إلى الحارة، وجمعت الزاد الذي بعت من أجل جمعه مكتبتي، وهي ما أملك دون شئ آخر، بعتها بدراهم معدودة وكنت فيها من الزاهدين، وكلي حسرة على ذهابها مني رغماً عني..، أنا ما فرطت فيها، ولكن إجازتي فرطت فيها، فأجازتني منها.
اتهموني بالسرية في هجرتي، والرمال تكذبهم، والبحر والسماء والهواء، والشمس الساطعة التي لا تخفي ظلمة الأسرار.. ألم أستأذن الأمواج العاتية، فأذنت لي بالركوب على ظهرها، وكانت بي رحيمة .. ألم أستأذن السحب العالية بأن ألتحف السماء، فسجتني بسخاء..، وكشرت عن أنيابها الوزارات، وأوعدتني بالعصا التي تخلصت منها منذ أيام المعلم الجلاد ذي الوجه الكالح، والذي لايزال كذلك، لاشئ يتغير في ذلك المسكين التعِس، والذي لم تسعفه الأقدار، وعافته الأوزار.. لم يكن يلقننا غير العصا لمن عصى، فهاهم المسؤولون عن الشباب يسيرون على خطى صاحبنا في منهج العصا ويزيدون على ذلك بأن يغلقوا في وجوهنا الأبواب.. ولقد أوعدونا، فتنكروا للوعد وما أخلفوا الوعيد، وأخرجوا لنا عصا غليظة، وكلفوا وزارة العصا، وقالوا لها: أدبيهم، وأعيدي تكوين كل واحد منهم، فإن شواهده لا تعكس حقيقة ما تعلم من أساتذته الأبرار.. علميه آداب الاحتجاج والاعتصام أمام الأبواب والمقرات، فإنه لا يحسن ذلك مع كل أسف شديد..، فلا زال ينقصه التكوين..، علميه دروسا في الانضباط والطاعة، فلا زال سلوكه لم يتحسن..، ولولا أن أنفك منك وإن كان أجذع، لأدبت الوزارة التي سلمته الشواهد، وأضاعت فيه أموال الشعب.. فإنها لا تجيز خريجيها عن جدارة واستحقاق، وإنما تجيزهم عن جسارة واسخفاف، وهذا عيبنا في مسؤوليتنا جميعا عن تكوين هؤلاء الحمقى والمجانين، فهم لا يحسنون سوى المطالبة والاحتجاج، والاعتصام والإضراب، فمن أين استمدوا هذا القاموس الغريب في تكوينهم الذي كلفنا الغالي والنفيس؟؟ !!..
نعم، كنت حريصا على متابعة التكوين في مدرسة البطالة بعد الإجازة، وهي التي أفادتنا بتلقين هذا القاموس غير المرغوب فيه، وكم هي الدروس التي تلقاها المعطلون من المقرر "المستدرك" على أطوار التعليم، وكم هي الثغرات التي تتبين لك بوضوح في نظام هذا التعليم من خلال جميع مراحله، ولكنها تسد في هذه المرحلة العجيبة، مرحلة التعطيل والبطالة، فهي نعم "المستدرك"، ولولاها لبقي تعليمنا ناقصا، يشكو من هذه الهفوات..، غير أنك عندما تستكمل التكوين، وتسد كل الثغرات، لا تلبث أن تتخرج خارج السدود المنيعة، ولا ينفعك يومها إلا إيمانك بالذي بيده مفاتيح كل باب، وهو الخالق مقسم الأرزاق ومجري الأسباب، (وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبْ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله ِفَهُوَ حَسْبُهُ).
لماذا فكروا في إصلاح التعليم ولم يفكروا في إصلاح "المستدرك"، فالمتخرجون من "المستدرك" يتخرجون في خضم "إصلاح جديد"، وبمنهج جديد، يرتكز على شعار جديد قوامه العصا لمن طالب بحقه فعصى..، قد تطالعك الرؤية الجديدة لوزارة العصا، وهي تستدرك على وزارة التعليم في مجال تكوين المواطن الصالح الذي لا يعصي إلا في دمعه العصي...
ومن العصا فررت لأن جلدي لم يعد يحتمل، فقد تغير لونه من جراء كثرة الابتكار الذي عم كل شيء، حتى المقابر والأكفان. ولما كرهت أن يظن ظان بأنني رجل أزرق، فأكون كالمنبث الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، عزمت على أن أحتفظ بظهري وأهاجر من أرضي، فدخلت متسللا ميناء لمدينة صفراء، والتويت نحو مرسى السفن، فوجدت به سفينة حمراء، فلعنت كل مجرم يزرع الفتنة في الشيشان وفي أفغانستان أو في كل مكان، سواء كان من العلوج الحمر أم الصفر، فخاطبت نفسي: إلى أين ستبحر هذه السفينة الحمراء؟ هل إلى بلدها أم إلى غيره من البلدان؟ فرجعت في نفسي فقلت: لتلق بي أينما حلت أو ارتحلت، وليهن بعد ذلك الهوان.. وربطت زادي، وحزمت متاعي القليل، وأعددت النفَس الذي يلحقني بحبال السفينة، ثم قفزت في الماء.. فلما أخرجت رأسي إلى الهواء، وتعلقت يدي بحبل من حبال الأمل، فوجئت بيد غليظة تنتشلني، وتزرع في وجداني الخيبة والفشل، فانهارت قواي التي استجمعت من قبل، ووجدت العصا، مرة أخرى، في انتظاري لا تغادرني، ولا تتركني لأهاجر، فكأنها من الشوق تعشقني، وحيث لا عشق لي فهي لا تريد مفارقتي.. عندها علمت من سوء الحظ أن ليس هناك سر عند من يقرع بالعصا، وإنما السر عند من يملك العصا.. ويستعمل العصا في بلوغ مأرب من مآربه، فلا غرابة ألا ينجو منها أحد ولو كان أعمى تحميه حقوق الإنسان في القرن الواحد والعشرين..
مثلت أمام مسؤول في العدل، قد يكون قاضيا،.. بادرني بالسؤال : لم أقدمت على هذه الفعلة التي تسيء سمعة البلاد والعباد؟ وأجبته على الفور، وبدون تردد: لأنني لم أجد عملا في البلاد، ولم تسمح لي به بعض العباد، فعزمت على الهجرة من أجله، لأنفذ من أقطار النفاذ إلى حيث السداد.. نهرني القاضي بشدة، وكشر عن أنياب أبانت خلو بعض المحاكم من الصواب، وأن العدل منها قد غاب.. ولكن التفاصيل بعد هذا الرد مملة، ورغم ذلك فقد أسلمتني إلى الجواب عن كل "جواب"، وتصرفت إلى نصح خارج عن الموضوع.. قال القاضي : يا ولدي عليك بالبحث عن عمل داخل بلدك مهما كلفك ذلك، وعليك بالصبر على ذلك، وهذا أفضل لك من ذلك...
كان هذا النصح البارد مؤذنا بالإفراج عني من بين الجدران.. و من أول خطوة خطوتها خارج الباب كعصفور انفلت من قفص، تراءت أمام ناظري لوحة ربعي بن عامر، وقد كتب عليها : ( جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة )، فانتبهت فإذا العباد يعبد بعضهم بعضا من دون الله، وإذا هناك تابع ومتبوع، ولمَّا يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، وإذا المتبوعون يتحكمون في سعة الدنيا ويضيقون منها... أيها المعترضون للسبل،لمَ تمنعونني هجرتي؟، وما أنا إلا مهاجر إلى ربي الذي قال : ( أَلَمْ تَكُنَ ارْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا )، فلم تضيقون ما وسع الله؟، ولم تسلبون العباد ما منحهم الله ؟؟؟... ولكن، وعلى الرغم من ذلك يا ربعي، يا مهاجرا إلى الله، طب نفسا، فإنهم لن يصلوا إلى سعة الأخرى، فمتاع الدنيا قليل، (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
* رئيس شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب- الجديدة