هواجس شــخصية

هواجس شــخصية

محمد باقي محمد

[email protected]

· بــداية النهـاية :

     إذن فهي النهاية يا حسن ! وها أنت تقف في حضرة الموت عجوزاً متداعياً و سقيماً ، فيا لها من نهاية  ! سبعون عاماً ! سبعون عاماً تشكّل خطاً مستقيماً  بين قطبي الولادة والموت ، وعلى حواف هذا الخط تناثرت الرغبات والأحلام المنكسرات ، فيماتناهبت الخط نفسه الهواجس والأحزان الصغيرة ، سبعون عاماً من الإقدام الإحجام ، من الاندفاع والانتظار والترقب ‍! وهاأنتذا بعد سبعين عاماً ‘تفاجأ بأكثر الحقائق ثباتاً في حياتك :

    الموت !

    ردح مديد من الزمن ليكتشف المرء – في آخر المطاف – أن النصر ترب الهزيمة في معركة كهذه!  

    أية حماقة يا رجل ، وأية عذابات ! ؟ فأن تحمل صليبك من سـورية إلى فلسطين ، ومن فلسطين إلى العراق ، إلى ايران ، لتعود في النهاية إلى سورية ، من غير أن تنسى المرور بتركيا ، حماقة ما بعدها حماقة ! وإلاّ فما الاسم الذي تقترحه لمعركة تستمر سـبعين عاماً في سبيل رغيف من الخبز ، وينأى ! ؟ أن تشتد قامتك للنهوض مع بداية قرن ، وهاهي تكاد تناطح نهايته ، ثّم ربي كما خلقتني  !

   حسناً ! بمَ تجيب السائل عن هذه الرحلة !؟

   أتقول : في واحدة من  لحظات الغفلة تكاثر الأولاد ، وانفتح عليك ألف باب !

   رباه ! وأي أولاد !؟ في الدراسة وما أفلحوا ، ولم يثبت أحدهم في عمل أكثر من أشهر معدودات ، وحين انكسرت فقرات العمر ، وألجأتك الحاجة إليهم ، ما وجـدت فيهم معيناً ! حتى الوحيد الذي نجح في الدراسة ، حمل شهادته ، ومضى بعيداً ! فيما لم توفر – أنت – عملاً من أجلهم ! فكم مرةٍ خاطرت فيها بحياتك أيام ( العصمنلي ) مع تبغٍ مهرّب ! وكم تحملت برود الإنكليز وجشع اليهود عتالاً في حيفا ! وكم مر بك عرب وعجم لتخدمهم في فنادق حلب ودمشق وبيروت ! وكم فجرٍ نديّ آنَسَك على الدروب (حواجاً) وضيعاً ! ثمّ لا تسل عن مسح الأحذية في بيروت وبغداد ودمشق ! و .. أوه … ماذا تتذكر لتتذكر !

   أم تقول : خذلني زمني !

   وهل انتصر أحد على الزمن !؟

   حتى الذين خالوا أنهم انتصروا ، اكتشفوا – في النهاية – بأنهم واهمون !

   وتردف بمرارة :

   هاتوا دلّوني في أي جذرٍ النخر يكمن !؟

   وسيقول لك البعض :

   هكذا كُتب عليك وقُدّر !

   وسيقول لك آخرون :

   أخذت الأمور بجدّ فأخذتك بهزلٍ !

   أخذتها بجدّ فأعطتك فرطاً في التوتر الشرياني ، وتضخماً في القلب ، والتهاباً في البروستات ، وقصوراً في الكليتين ، وارتفاعاً في نسبة السكر و ( الكوليسترول ) ، وقرحة في المعي الغليظ ، وأولاداً كثراً ، وخلافه ! وأخيراً ، هاهي النهاية تأزف ، وزهد الشيخوخة التي تستعد للموت يحلّ ، ولا أحد ! الأصدقاء تفرقوا – فرادى -  على مراحل ! الذين كانوا يحيونك امتنعوا عن التحية ، والذين التقوا على مائدتك مراراً يجدونك اليوم مبذراً ، كلّ نقائصك تجلّت  للعيون اليواقظ المفترسة ، وأكثرهم بلاهة كان يتنبأ لك بهذه النهاية ، فلقد أفلست ، وآنَ للجحود النافذ الصبر أن ينكأ الجراح ! ثم إذا كان أولادك الذين تحدروا من صلبك يتصرفون على هذا النحو ، فما الذي تتوقعه من الآخرين !؟

   أي فوات !؟

   أن يخسر المرء معركة فلا بأس ، ولكن أن يخسر حياة كاملة ، ولا يشعر بتلك الخسارة إلاّ بعد فوات الأوان ، فتلك مصيبة ! والآن ! لمن تترك هذه الزوجة التي رافقتك زمناً يربو على نصف قرن !؟ هذه الصابرة التي جاعت كي يشبع الأولاد ، وعرت كي يلبسوا ، وسهرت كي يناموا ! أي صمتٍ سيرين على غرفتها !؟ وأية لقمة مغموسة بالذل والهوان تنتظرها فيما أنت عاجز وأعزل !؟

  · انكسار الحلم :

   أية حياة هذه التي نحياها !؟

   طفولة موسومة بالنقص والحرمان !

   وشباب مترنح بين مقاعد الدراسة الباردة ، وقصور الأهل الأبدي وفرص العمل النادرة ، فهل هذه حياة!؟

   ثم – يا أخي – ماذا ترك لنا أهلونا !؟

   وحيدين تركونا في هذا التيه القاتم والعدواني المسمى مدينة ، حيث كل فرد يحمل مؤشره الخاص ، ولا أحد يشعر بمن حوله ، أو يدري من أين تأتي الأشياء ، وإلى أين تذهب ! وها سنوات العمر تتبدّد من غير منفرج ، فيما لم يورثني أبي من الدار وقطعة الأرض الصغيرة إلاّ فراشاً ولحافاً !

    لماذا !!!؟؟

   لقد أكملت دراستك – قالوا – ولست بحاجة إلى شيء سواها ! طبعاً أنا أستطيع أن أطعن في وصيته ، بيد أن الموضوع كلهّ ليس بذي جدوى !

   ولكن هل تظن بأن أشـقائي كانوا عوناً لأمهم بقية أيامها !؟ حتى شقيقي الأصغر الذي انتقل للعيش معها، عاملها بدءاً بالحسنى ، بيد أن عيوبها تكشّفت دفعة واحدة لزوجتـه ، مع آخر قرش نهباه منها! فهل حرّك البقيـة ساكناً  !؟ واليوم ! هاهي العيون المعاتبة تطالعني بالسؤال :

   لِمَ لا تحضر أمك لتعيش معك !؟

   حسناً ! أليس من حقي أن أتساءل ، بأي منطق يطالبونني بذلك !؟ بمنطق أنني درست ، وان أشـقائي لم يفعلوا !؟ اللعنة ! لقد سرقت هذه الدراسة خمساً وعشرين سنة من عمري ، فيما استولت خدمة العلم على ثلاث سـنوات أخرى ! وها أنا بعد ثمانية و عشرين عاماً لا أملك من هذه الدنيا شيئاً خَلا هذا الراتب الذي يكاد لا ينهض بأعباء الأيام العشرة الأولى من الشهر !

   فمتى يكون لي بيت مثلاً !؟

   ومتى أتزوج مثل بقية الناس !؟

   أنت تعلم أن أية فتاة – في هذه المدينة – لا تقبل بأقل من طبيب زوجاً ، أو مهندس ، ولا تسل عن أحلامها في بيت كامل الأثاث ، وسيارة ! فماذا نملك نحن من كل هذا !؟ ما الذي لنا في هذه المدينة الملعونة غير الحسرة والأحلام التي لا تجد لنفسها سنداً في الواقع !؟ كتباً ! أشعاراً ! أمسيات من الثرثرة حول الوطن والثورة والثقافة والتجارة ،لنكتشف في النهاية أننا حالمون ! مهزومون من قبل أن نبدأ ! وأن حياتنا مُختزلَة إلى مجرد انتظار للإخفاقات المتكررة !؟

   يا للأهل الذين أمضوا حياتهم في التراب ! في التراب وُلدوا ! وفي التراب عاشوا حياتهم ، وقضوا في التراب ، من غير أن يتفكّروا – يوماً – في مستقبل الأبناء الذين أنجبوهم ! فإذا داهمهم الكبر من قبل أن يحسبوا له حساباً ، أنشأوا يذكرونك بما صرفوه في تربيتك من عرق ودموع ونقود ! متناسين أنهم هم الذين أنجبوك !

   ثم أن المشكلة – أساساً – تكمن في المسافة بيني وبين أمي ، في الطريقة التي ينظر كل واحد مناّ بها إلى الأمور ، وهي – في وهمي – مسافة غير قابلة للتخطي ! فأنا أحاول أن أقتنص من هذه الحياة الملعونة ما يتاح لي من لحظات ، كأن أسافر قليلاً ، أو أقرأ شيئاً من الشعر ، وقد يعن في البال قدح من الخمر ، فتكفهر الأجواء بيننا ، وتظل تذكّرني بالحلال والحرام ! وربما زارتني صديقة ، لكن أمي امرأة متزمتة ، تشكل عبئاً على حركتي ! كنت أتمنى أن تكون المشكلة (محض) مادية ، إذن لكنت أسهمت مع أشقائي في مصروفها ، على ما يشكله هذا الإسهام لي من عنت ، بيد أن هذه الأمنية -كغيرها من أمنياتي -لن تتحقق !

· الشاهدة :

    هل هانت عليك العشـرة حتى تركتني هكـذا وحيدة و مهجورة !؟ ولمن !؟ الأولاد وتفرقّوا من قبل وفاتك ! ليتهم  -فقط – حضروا جنازتك ! ليتهم اجتمعوا من حولي معلنين – ولو كذباً- أن لا شيء في حياتي سيتبدل بعد موتك ! أو تساءلوا عنّي بين الفينة والفينة !

   فهل كان ثمة تقصير منّي في تربيتهم !؟

   أما حملتهم على صدري أطفالاً صغاراً !؟

   أما سهرت الليـالي الطويلة بجانب أسرّتهم ، أسقيهم الدواء ، وأغطيهم إن تكشفّوا كي لا يطالهم البرد !؟

   إذن ! فهل لك أن تفسر لي صمت ابننا الأصغر حيال تذمّر زوجته من عيوبي ! أنت تذكر ولا شكّ أن ابننا – هذا – تأخر في المشي ، وأنني بذلت في العناية به أضعاف ما بذلته لأشقائه ! ولو أن الأمر اقتصر عليه لهان ! طبعاً أنت لن  تصدّق بأن ابنتنا الكبرى اعتذرت عن عيادتي متذرعة بأطفالها وزوجها ، فيما ادعت الصغرى بأنها مريضة أكثر منّي ، وأنها تحتاج إلى من يعتني بها ، فكيف لها أن تعتني بالآخرين ! تصّورْ ! الآن فقط أصبحنا آخرين !

   قالوا : القسوة من سمات الذكورة !

   ولكن ماذا عن البنات !؟

   قالوا : لا بأس !

   ولم نكن نملك إلاّ أن نهزّ رؤوسنا بأسى !

   وقالوا : إنهم جهلة ، فماذا نقول لهم !؟

   ولكن هل كناّ نفك الحرف يوماً !؟ ثم هل اختلفت الحال مع المتعلّم فيهم !؟ ستكذّبني إن قلت لك ، إنه يتهمنا بالجهل والتخلف ! ويدّعي أننا لم نكن نفكّر فيهم ، ولم نترك لهم شيئاً يواجهون به العالم ! فهل كان علينا أن نلتفت إلى أنفسنا حتى ننفي عناّ صفة التخلف !؟ لقد ضحينا في سبيله بلقمتنا ، فكيف نسي ليالي الشتاء التي كان يفاجئنا فيها ، ليمتص ما في جيوبنا من نقود ، ويسافر في صبيحة اليوم التالي ، فإذا طلبنا إليه البقاء يوماً أو بعض يوم كي نشبع من رؤيته ، احتج بدروسه !؟

   إنه يشعر بالعار من انتمائه إلينا يا حسن ! فهل ثمة ما هو أقسى من شعور كهذا !؟ أهناك ما يجبره على الإقامة في المدينة ، في حين أنه يُعلمّ في قريته !؟ أنت لن تصدقني إذا قلت لك بأنه يضّن عليّ بلحظات يزورني فيها بعد دوامه !

   ولكن بالله عليك لماذا لا ترد عليّ !؟ أنت لم تُفاجأ كلياً بما أنبأتك به ، أليس كذلك !؟ إنهم أولادك ، وأنت تعرفهم جيداً ، فإذا تفكّرت قليلاً أمكنك التنبؤ بشيء من هـذا القبيل ! ربما تساءلت مستنكراً : أإلى هذه الدرجة!؟

     إذن ماذا لو خبرتك عن البرد الذي ينخر عظامي ويفتّتها !؟ ماذا لو كلمتك عن الصمت الذي يجلّل أيامي بالوحشة !؟ ماذا لو حدثتك عن الوحدة التي ترين على لياليّ الطويلة ، وتشيع فيها المرارة والخواء !؟

   ولكن أي جدوى !؟ فلقد فات الأوان ! نعم ،  فات !