الديك الفصيح لم يعد يصيح
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
بدأ الديك الذي صار اسمه مرادفاً للفصاحة الخطابية وللفلسفة ولنظم الشعر ، يشعر بثقل الالتزام بمسؤوليته ، وكثيراً ما خضع للنوم القاهر ، رغم سطوع الشمس واحمرار قرصها، فتوقفت الساعات وتجمدت الدقائق وكادت تقع مصيبة للبشر، بأن يكون يوماً "مفركشاً" لأن الديك لم يَصْدَح صوته استقبالا للفجر الجديد.
ولكن تاريخ الديك المجيد في رئاسة مجلس الدجاج البلدي، حرك همم الرفاق الديوك من الحارة القريبة، وحتى من حارات بعيدة، لم يعرفوا الديك شخصياً، إنما وصلتهم أخباره وفصاحته الخطابية ، فبدأوا يتقاطرون أفرادا وجماعات لِشَدَّ أزره ولتخفيف مسؤولياته داخل الخم حتى لا يحدث المكروه، فينقص إنتاج البيض ويجوع أولاد صاحب الخم، وعندها ، حتى لو تدخلت الأمم المتحدة، لن تحل المشكلة. وقد يواجه الديك الفصيح، خطر الذبح حسب الشرع، إذا انفضح عجزه وصار عالة على الخم. كانت المشكلة في إيجاد من يحل محله في رئاسة المجلس البلدي ألدجاجي، بحيث يرتاح الديك من التزامات المسؤولية وأثقالها ، ويقوم بالمهمة ديك نشيط، تحت اسم وإشراف الديك الفصيح، الذي يبقى متمدداً بين الصحو والنوم . ولا يظهر إلا ساعات الشدة، مثل المنقذين العظام في التاريخ البشري.
زيارة الديوك ساعدت، وعززت مكانة الديك الفصيح، فألقى قصيدة بنت ساعتها مرحبا بالزوار الديوك، الذين هبوا لمناصرته في محنته الصعبة، وأثبتوا أن الديوك لبعضها وقت الشدة ، حتى الخلافات والمشاكسات أجلت من أجل المصلحة القومية والشخصية ، وألقيت الخطب والتصريحات ، وتكاتف الديوك في دبكة وطنية أمام الجماهير التي تصفق مغلوبة على أمرها ، خوفا من عيون المراقبين وعقاب المتخلفين عن إظهار السعادة والرضاء والشكر للديوك والرب الخالق على هباته الكريمة .. وهكذا استقر الوضع واستتب النظام !!
الديك الشاب يعمل ولا يقصر، والبيض يتزايد...وصاحب الخم على آخر انبساط، فصحن البيض المقلي بزيت الزيتون صباح كل يوم..هو الوجبة المفضلة لديه ولدى أبنائه الصبيان. أما بناته، فعقلهن افتل مثل أمهن، لا يتنازلن عن صحن الزعتر واللبنة المكدرة بزيت الزيتون.
لم
يحدث خلل في إدارة الخم، ولم يؤثر قضاء الديك الفصيح ليله ونهاره ممددا مرهقا أو
دائخا ، وحتى لو تكاسل عن مهمته الاسمية ، بإعلان ظهور فجر يوم جديد، فالديك الشاب
متنبه لكل التفاصيل ، ويقوم بالمهمة مقلداً صوت الديك الفصيح وحركاته، حتى لا يميز
احد من الجيران أو من ديوك الجيران، أن الصوت ليس صوت الديك الفصيح بل صوت الديك
البديل الوارث الموعود لمسؤوليات الخم بعد عمر طويل .
الراحة جعلت الديك الفصيح يتنشط، خاصة وهو يرى الفراخ الجديدة بألوانها الزاهية،
وتغنجها في مشيتها. وبدأ ديكنا الفصيح يشعر بالملل. فانشد مطلع قصيدة يتذكرها من
أيام شبابه وإبداعاته الشعرية التي صارت حديث الخممة في الشرق والغرب:
- تطاول هذا الليل واسود جانبه
وارقني أن لا خليل ألاعبه.
دَبَّت الحماسة في الديك الفصيح لأن يبدأ باستعادة مجده الغابر ولو في السطو على الدجاجات المتغنجات. أعلن ذلك في اجتماع الخم البلدي. وكاد أن يقع الخلاف مع الديك الوريث الشاب، الذي شعر أن مكانته تتهدد وحقوقه تنتقص ولكن الفصيح أعلن أن المسألة اصغر من الرغبة في العودة إلى الصدارة بمفهومها العملي التطبيقي، فهو عاف هذا العمل. وكل ما يطلبه بعض الملذات التي لا يمكن للحياة أن تستمر بدونها، واستذكر أقوالا تراثية تقول "إن النكاح مثل الجهاد"!!
كان النقاش حاداً.. واستمر حتى ساعات الفجر، لدرجة ان الديك الشاب أطلق صوته، آمراً الشمس بالظهور، فلا خوف عليها. وهنا نظر الديك الفصيح حوله، وكتب بطاقة دفعها إلى الديك الشاب يطمئنه بها على مكانته. جاء فيها بيت شعر يقول:
- إن الإناث رياحين خُلِقنَ لنا
وكلنا يشتهى شم الرياحين.
واتبع بيت الشعر جملة تقول :
- فما الداعي لهذا القلق من نزوة في آخر العمر؟!
فقال الديك الشاب:
- هذه حلها عندي.
فانفرجت الأسارير، وذاب التوتر.
عرضوا على الديك الفصيح دجاجة يتسترون عليها في الخم لجمال ريشها، كي لا تصاب بالعين، وكي لا تقع سكين صاحب الخم الشره عليها شهوة للحمها. كانت يافعة، متناسقة الألوان. وكأن رساماً موهوباً رسمها بريشته السحرية... تمشي مشية غنج، تثير الشهوة. فسر الديك الفصيح بما عرضوا عليه. وشعر بان فتوَّته تعود إليه.
وهمست دجاجة فصيحة:
- إنها رشوة!!
ولكن الخوف لجم الألسن. ونفقت الدجاجة الفصيحة من مرض مجهول.
اختلى الديك الفصيح، الذي طعن في السن، مع دجاجته الفتيه، التي أسكرته بدون خمره.
حاول الليل بطوله حتى أرهقه التعب، فغط في شخيره. هذه الحالة تكررت خلال الشهر الأول، حتى بدأت الدجاجة تشكو همها وتنفر من ملازمته .
طلب الديك الفصيح فوراً عقد مجلس استشاري سري، يمنع حضوره إلا لزعماء الخممة ذوي التجربة.
انعقد المجلس بناء على الطلب الطارئ للديك الفصيح. وقف الديك متردداً، ثم قال:
- أعزائي، نحن في الهم إخوة، وما يفشل فيه احدنا يسجل ضدنا جميعاً. كما تعلمون تزوجت من دجاجة فتية ساحرة، نفسي بها ولكني لم انجح بإيصالها إلى قمة اللذة، فتكاثرت شكواها، وهذا الأمر يثقل على حياتي معها. وأخاف أن يثقل على ضميري ... فما العمل يا إخواني الديوك؟!
بعد مشاورة سريعة، قال رئيس الجلسة :
- عليك أيها الأخ العزيز، وبما انك طعنت في السن، وحتى لا يحدث المكروه، أن تجند ديكاً شاباً، تماما كما جندت واحدا لرئاسة الخم .. يقف فوقكما إثناء احتضانك لدجاجتك، ويحرك جناحيه، ليتحرك الهواء ويلطف الاحتضان. وعندها يحصل ما تتمناه".
وهذا ما كان. عاد إلى الخم، واختار احد الديوك الشباب، الكثيف ريش الجناحين. وفسر له مهمته، ووعده بان يجعله مستقبلاً من الوارثين له. وبذلك ارتفع عدد الموعودين بالزعامة إلى اثنين !!
تحمس الديك المجند، ووقف من المساء حتى صباح اليوم التالي وهو يحرك جناحيه فوق الديك الفصيح والدجاجة التي تنوَء بثقل الديك الفصيح وتبكي نصيبها الأسود!!
ولكن الحالة لم تتغير...
عاد الديك الفصيح شاكيا همه وباكيا حظه العاثر إلى المجلس الاستشاري، طالباً حلا مع دجاجته النضرة.
طالت المشاورة، وعندما انتهت قالوا له:
- لا تجزع لكل مشكلة حل. الآن يجب تغيير الأدوار. الديك الشاب الذي جندته ينام مع دجاجتك النضرة. وأنت تقف فوق رأسيهما ملوحاً بجناحيك، ولنرى ما يحدث؟!
بصعوبة ، ومغلوبا على أمره ، نفذ الديك الفصيح وصية المجلس الاستشاري. الديك الشاب اخذ الدجاجة النضرة بين أحضانه، والديك الفصيح وقف فوق رأسيهما يلوح بجناحيه ويحملق بعينيه رافضاً أن يصدق، ولكنه ملتزم بقرار المجلس الاستشاري.
كانت الدجاجة النضرة تتأوه بلذة، وتقرقر فرحة حتى سمعها الخم كله.
- يا للفضيحة . قال الديك الفصيح لنفسه .
واصل الديك الفصيح التلويح بجناحيه، كان يلوح متوتراً هائجاً تعباً. وعندما انتهى الديك الشاب من مهمته الرسمية واستلقى على يساره دائخا من اللذة ، والدجاجة النضرة استكانت بلا حركة محملقةً في السماء السابعة، نظر الديك الفصيح شذراً للديك الشاب وصرخ به:
- يا ابن القحبة، أنت لم تلوح بجناحيك بشكل صحيح، كان يجب أن تلوح مثلي هكذا.
وانطلق الديك الفصيح يلوح بجناحيه...وإذا بضحك الدجاجات يفجر الصمت في الخم.