شجرة التين

شجرة التين

  قصة: نزار ب. الزين

مغترب من أصل سوري

 موقع : www.FreeArabi.com

بريد : [email protected]

لا أدري لِمَ تتزاحم الذكريات في رأسي هذه الأيام كأنها سيل دافق ؟!

لا أدري لِمَ يطوف شبان يافعون في مخيلتي قضوا قبل أن يبلغوا عتبة الرجولة ؟

لا أدري لِمَ يحوم عوني و فريد و نضال داخل جمجمتي مع أنهم مضوا بعيدا بعيدا ، منذ أكثر من اثنتي و عشرين حولا ؟...

ترى هل هي وطأة القهر المتواصل ؟

أم هي وطأة تقدم العمر ؟

* * *

-1-

فريد ، كان إبن جاري ، عرفته صبيا في المرحلة الثانوية ، هادئا ، خجولا ، جادا ، لا شاغل له غير همه الدراسي ، ثم حصل على شهادته الثانوية بيسر ، فأرسلته منظمته في بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفييتي .

غاب عني سنوات أربعا ، ثم شاهدته عائدا يحمل شهادته الجامعية جزلا ، لم يتغير فيه شيئا عن طفولته غير شارب صغير زيَّن شفته العليا ، و نظارات سميكة غطت عينيه ، ثم اختفى ...

-2-

عوني ، إبن صديقي و قرة عينه ، قدم إلى حضن والديه بعد ثلاث بنات ، فرحوا به ، أحاطوه بعنايتهم ، حموه حتى من النسيم ، دللوه ، غذوه ، علموه ، و لكنه ظل ضعيفا رغم كل أصناف العناية ، ظل يعاني من مرض أسموه ( تكسر الدم ) أصابه مبكرا ، فأبقاه ضعيف الجسد ، إلا أن مخه ظل سليما ، فترفع حتى نال الثانوية العامة بيسر ، ثم اختفى .

-3-

نضال ، شقيق جارتنا في الطابق العلوي ، لم يكمل دراسته ، التحق بإحدى مجموعات الفدائيين ، تدرب ، برَّز ،حتى نال مركزا قياديا ، ثم اختفى ...

* * *

كل صيف ، يسافر أبو عوني ، في إجازة طويلة ، مع أفراد عائلته إلى عين الحلوة حيث تعيش والدته ؛ فيقضي معظم و قته تحت شجرة التين .

كانت التينة تغطي بظلالها الوارفة معظم ساحة الدار، هناك كان يتناول فطوره ، ثم يبدأ بارتشاف أنفاس أرغيلته ( شيشته ) ، و هناك يستقبل ضيوفه الكثر و خاصة الأقارب منهم ، عزوته كلها هناك مذ هاجروا من قريتهم في الجليل ، و هم يعتبرونه مختارهم لأنه أكبرهم سنا فينادونه " يا مختار " فتنتفخ أوداجه زهوا !

بدأت أم عوني تقلق على ولدها ، فقد دئب مؤخرا على مغادرة البيت مبكرا و العودة إليه متأخرا ، أعربت عن قلقها لحماتها ، فتوجهتا كليهما إلى ( أبوعوني ) مناشدتين :

- تحرك يا رجل و تقصى أخبار فلذة كبدك !

يجيبهما و قد قطب جبينه :

- عوني صار رجلا يا أم عوني ، عوني لم يعد ذلك الطفل الذي يقبل أن يظل في حضنك يا أم عوني ، أين يذهب – برأيكما - في مخيمنا الصغير هذا ؟ إنه حتما مع أبناء عمومته و أصحابه يتسامرون !

يستبد القلق بالأم و الجدة ، تبدءان بالبحث عنه ، تصيبهما الدهشة إذ تعلمان أنه يتدرب على حمل السلاح !

تعودان إلى البيت باكيتين :

"- هل يقوى ولدي على حمل بندقية ؟

- هل يقوى حفيدي على محاربة نملة ؟

- إنه مريض ..

- إنه ضعيف .. ضعيف !

- عد بنا يا يا (أبو عوني ) إلى الكويت حالا .. أغنانا الله عن الإجازة و عن شجرة التين .. "

أما أبو عوني فيظل صامتا ، يرتشف الأنفاس من أرغيلته !

تحت شجرة التين

* * *

و في الكويت ، كانت الأفراح تعم الكبار و الصغار ، فقد وصل فريقهم لكرة القدم إلى نهائيات الدوري العالمي المقام في إسبانبا ، و كانت إذاعاتها و تلفازها و صحفها و كل من فيها ، يتفاخرون بهذا الإنجاز الرائع ، فأخذ الجميع يرقصون على أنغام السمبا الخليجية في مغناة أطلقوها :

" إنه جملنا ، جملنا المحبوب Our camel , lovely camel "

فقد كان الجمل شعار الفريق ...!

* * *

تدب الحياة بمآذن عين الحلوة في غير موعد الصلاة :

" - العدو يجتاز الحدود !

- المدنيون يتوجهون إلى الملاجئ في الحال ..

- الفدائيون يلتحقون بوحداتهم في الحال ..

- إنها ليست مجرد غارة ، إنه اجتياح ! "

--------

و تبدأ الجحافل العدوة اجتياز الجنوب من عدة محاور في عملية أسموها ( سلام الجليل )

كان فريد ضمن حامية صور ، يتربص لهم مع مجموعة صغيرة في ضواحيها الشمالية ،

كان فريد قد اتقن استخدام الآر بي جي ، تدرب هناك في الاتحاد السوفييتي على استخدامه ، كان يدرس و كان يتدرب في آن معا .

كانت المقاومة عنيفة ، مجموعات صغيرة انتشرت خلف الصخور و الأشجار و الحفر

و كان فريد ضمن إحداها ، فكان من نصيبه أربع عربات مجنزرة تمكن من تدميرها بمن فيها قبل أن تصيبه شظية قنبلة عنقودية فترديه شهيدا في الحال ...

* * *

عندما تكشفت العملية عن اجتياح كبير ، تحرك الطيران السوري ..

إصيبت بعض طائراته بالصواريخ قبل إقلاعها ، و بعضها أثناء إقلاعها

كان ثمت مرصد في أعلى قمة جبل الشيخ ينذر العدو عن أي تحرك عسكري سوري .

و كانت ثمت طائرة أواكس في عرض البحر من اسطولهم في البحر المتوسط ، وضعها أصدقاؤهم في خدمة ( سلام الجليل ) ، قادرة على القيام بمائتي عملية رصد و توجيه في آن معاً ، مكنت العدو من تحييد الطيران السوري خلال ساعات .

* * *

أما في الكويت فظل الناس يرقصون السمبا الخليجية على أنغام :

" إنه جملنا ، جملنا المحبوب Our camel , lovely camel "

متابعين أحداث النزال الكروي في إسبانبا ...

بينما ظلت الجمعيات الخيرية تدعو الناس للتبرع بالمال و الثياب لصالح المجاهدين الأفغان في كفاحهم ضد الحكم الشيوعي .

.و تدعو القادرين على التطوع لمشاركة إخوانهم الأفغان في جهادهم ...

* * *

اشتدت وطأة الحصار على المقاتلين في قلعة الشقيف ، كانوا يقصفونهم من البر و الجو ، عندما قرر قائدهم نضال الانسحاب ، أمرهم بذلك رافضا أي اعتراض ، فقد قرر أن يحمي انسحابهم بنفسه ، تسللوا عبر نفق جهزوه قبلا ، و بقي نضال يقاتل حتى أصابته قذيفة دبابة ...

* * *

يشتد القصف على عين الحلوة ، ينتشر الدمار ، و يظل المقاتلون في مواقعهم يتربصون ،

عثرت ( أم عوني ) على ولدها في أحد المواقع :

" – ليس لنا غيرك يا ولدي

عد معي إلى الملجأ يا قرة عيني "

يجيبها :

" – أنا حفيد ضرار بن الأزور ..

- و لا أقبل إلا أن أكون مثله ..

- كان يقاتل عاري الصدر ، فأسماه الأعداء ( الفارس العاري )

- أتدرين لِمَ يا أماه ؟

- كان يعلم أن الموت يأتيه حتى لو كان في بروج مشيدة !

- و أنا اؤمن يا أماه أن الموت يأتيني حتى لوكنت في الملجأ !..

- أليس أشرف لي و لك يا أماه أن أموت مناضلاً ؟ "

* * *

أما في الكويت فظل الناس يرقصون السمبا الخليجية على أنغام :

" إنه جملنا ، جملنا المحبوب Our camel , lovely camel "

متابعين أحداث النزال الكروي في إسبانبا ...

وظلت الجمعيات الخيرية تدعو الناس للتبرع بالمال و الثياب لصالح المجاهدين الأفغان في كفاحهم ضد الحكم الشيوعي ...

وتدعو القادرين على التطوع لمشاركة إخوانهم الأفغان في جهادهم ...

* * *

يتقدم رتل من الدبابات ، نحو حي الأسدية المدمر ، مدافعها و رشاشاتها تمشط الخرائب ،قدمت الآن بضع مروحيات اثنتين منها على الأقل من طراز كوبرا ، أخذت تمشط الحي بدورها .

بعد أن توقف القصف اقتربت المروحيات حتى كادت تلامس الأرض ، ثم أخذت تلفظ ما في جوفها من جنود مدججين ،فوجئوا بالمقاومة تجابههم من جديد ، كانت معركة شرسة ، سقط خلالها الكثيرون من أفراد العدو ..

كان عوني يقف بطوله غير هياب ، فيطلق صلية من رشيشه ، ثم يتراجع مسرعا نحو جدار خرب يحتمي به .

و في آخر مرة ، ما أن انتصب ليطلق صلية أخرى ، حتى صاح به من الخلف جندي اسرائيلي ، و قد وجه نحوه سلاحه و يأمره بالاستسلام ، ثم ساقه مع آخرين خارج المخيم ...

* * *

يخرج أبو عوني من الملجأ ،

لم يمسك سلاحا بيده طوال عمره ، و لكن أحد أقاربه ، أعطاه ذات يوم فكرة سريعة كيف يستخد م الرشيش و كيف يستخدم القنبلة اليدوية ، و يبدو أن ذلك الدرس الشفهي ظل راسخا ..

ضايقه المكوث في الملجأ ، كان يزداد توترا مع كل صيحة امرأة أو طفل فيشعر أنه امرأة أو طفل ، مشى بين الخرائب على غير هدى ..

شاهد رشيش شهيد ، فانتزعه من بين أصابعه بصعوبة .، ثم شاهد رمانتين ( قنبلتين يدويتين ) مع شهيد آخر فتناولهما ثم وضعهما في جيبي سترته ...

توجه نحو بيت والدته فوجده يبابا ،

فيما عدا شجرة التين التي ظلت صامدة ،

جلس خلفها و تحت ظلالها متربصا ..

يسمع لغطا عبريا ، يستعد ، يمد رأسه ، يشاهدهم ، ينتظرهم حتى يقتربون ، يسحب أمان رمانته الأولى ثم يلقيها بين أقدامهم ، تنفجر ، يعالجهم بالثانية ، تنفجر ، يطلق عليهم صلية رشيش فتصيب أهدافها ، كان متعجبا من دقة تصويبه ، عندما سقطت قنبلة فدمرت شجرة التين و ابتلعت ( أبو عوني ) في جوفها.

* * *

يعلن العدو استيلاءه على مدينة صيدا و مخيم عين الحلوة ، تحضر الممثلة جين فوندا مؤتمرا صحافيا أعلنوا خلاله الخبر

تعبر جين فوندا عن سعادتها البالغة بهذا الانجاز

تحضر جين فوندا عملية نقل الأسرى

وضعوهم جميعا في شبكة كبرى

علقوها بحوامة

ثم ارتفعت الحوامة بحملها الآدمي

صفق الصحافيون الأجانب طويلا و صفقت جين فوندا

تكدس الأسرى فوق بعضهم بعضا ، و كان عوني في أسفل الكومة

فما أن بلغت الحوامة معسكرا أقاموه عند رأس الناقورة

حتى كان عوني قد لفظ أنفاسه اختناقا ..

* * *

و في الكويت توقفت رقصة السمبا الخليجية ..

فقد انسحب الفريق احتجاجا على تحيز الحكم ..

حتى حكامهم بتحيزون ؟!!

و في الشوف ، يجتمع شيوخ العقل ، يتناقشون ، يتشاجرون ، ثم يقررون : " الحياد "

و في بحمدون يطلق عملاء العدو غاز الأعصاب على معسكر للجيش السوري

و تمر الدبابات العدوة – من ثم – نحو بيروت بيسر ...!

* * *

بعد عشر سنوات

في مخيم عين الحلوة

نمت شجرة التين من جديد

فألقت بظلالها الوارفة فوق ساحة الدار التي أعادوا بناءها

و فوق قبر الشهيد ابو عوني

و فوق أطفال كثر يلعبون ،

هم أحفاد الشهيد أبو عوني ،

و في هدأة الصباح

كانت أم عوني تسمع حفيف أوراق شجرة التين تردد :

" - عوني

- أبو عوني

- شهداء بالملايين

- و لكن ..... راجعين ... راجعين ....راجعين "

الهامش:

*مغترب في الولايات المتحدة الأمريكية من أصل سوري