حديث الإسكافي
قصة: عبد الله عيسى سلامة
" قصة حقيقية، حصلت في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي . قد يصدقها فريق من الناس ، وقد يشك بصدقها فريق آخر، وقد ينبذها فريق ثالث جملة وتفصيلا ..إلا أنها حصلت على سبيل اليقين . وبعض شهودها ما يزالون على قيد الحياة ".
قال الإسكافي :
غادرت بلدتي الصغيرة ، كعادتي في كل عام ، متجولا ًفي القرى والأرياف أقيم ليلة هنا وليلة هناك ،
أصلح أحذية الناس ،لأعود إلى أسرتي بشيء من المال يقيها من ذلّ الحاجة والفقر .وكانت إحدى محطاتي ، في جولتي هذه ، مضافة الشيخ احمد الفرج ، شيخ قبائل " البوشَعـْبان " . وبالقرب من المضافة ، وضعت عن دابتي حملها ، وربطتها ودخلت المضافة .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نهض الشيخ من مجلسه ، قرب موقدالقهوة ، وقال مرحّباً والبشر يعلو وجهه السمح : وعليك السلام ورحمة
الله وبركاته .تقدّم مني وصافحني ، ودعاني إلى الجلوس بالقرب منه ، وهو يرحّبُ بي ، ويبتسم في وجهي .
كان وحده في المضافة ، وكان الوقت قريباً من الظهر ، وكان النهار شديد القيظ ، كثير العجاج .
تريث قليلا ً ، ثم نهض باتجاه خابية الماء ، وملأ الطاسة ، ثم قدّمها إليّ قائلا ً : لا بدّ أن تكون عطشان ،
فهذا الحرّ يجفف الحلوق ويحرق الأبدان داخل البيوت، فكيف يكون الحال، وأنت تتجول تحت الشمس ليس بينك وبينها حجاب.تناولت الطاسة من يده وأنا أقول متضاحكا ً :
إي والله، الحق معك ياشيخ احمد، كأن الشمس لها ثأر عندي وعند دابتي، فما وصلنا إلى هنا حتى كدنا نهلك من شدّة الحرّ.
شربت نصف الماء الذي في الطاسة والشيخ واقف أمامي، ينتظرني حتى أفرغ من الشرب، ليعيد الطاسة إلى مكانها.
قلت له بشيء من الحياء والحرج : ياشيخ ، إنك تخجلني والله !فمن أنا حتى تخدمني بنفسك ؟ تفضل اجلس يرحمك الله، وأنا أخدم نفسي .
قال الشيخ، والابتسامة تعلو وجهه، ملاطفاً مداعباً:
وَ لْ..وَ لْ..يا أبا رزق ! منذ متى جاء تك هذه الشطارة بالحكي !؟ ألا تعلم أنك تكرمني حين تقبل خدمتي لك ؟
قلت له مباسطا ً متودداً: ياشيخ أنا لست ضيفاً كما تعلم . فقد مضى عليّ أكثرمن ثلاثين سنة ، وأنا أتردد إلى هذه المضافة العامرة ، منذ كنت طفلا ً
في العاشرة من عمري .قال الشيخ ممازحاً: تقصد حين كنت ولداً شقياً ، يحلق لك أبوك شعر رأسك بالموسى ،ويبقي لك غرّة تتدلى على جبهتك ؟
قلت : وهل تذكر تلك الأيام ياشيخ ؟
قال مداعباً : وكيف أنساها يامنحوس ،أقصد يامسعود !؟
ضحكنا معاً ، وقال الشيخ متابعاً: لاتؤاخذني ياأبا رزق ، إنّ ذِكر والدك -يرحمه الله –ذكـّرني بلقبك القديم ‘ حين كان يقول لي :
ياشيخ أحمد ،إ ن ولدي هذا عفريت . وقد أخطأت في تسميته حين سميته "مسعود " وكان الأولى أن أسميه
"منحوس" . وقد تركتُ له هذه الغرّة لأني صرت أخاف من أن يغضبني يوماً فأخلع له إحدى أذنيه ، فتركت له هذه الغرّة كغرة الجدي ، حتى أشدَّه منها عند الضرورة ، حين يحتاج الأمر معه إلى كفين أو ثلاثة على خدّيه الخبيثين ..وتابع الشيخ أحمد ذكرياته قائلا : وحين سألته عن سبب وصفه لخديك بالخبث ، أجاب بحرقة : لأنه كان ينفخهما بالهواء ويصفر في أذن الحمار ،
فيجفل المخلوق ، ويسقط الخُرج عن ظهره ويهرب .ضحكنا أنا والشيخ احمد طويلا ً لهذه الذكريات ، وهو مايزال واقفا ً ، وأنا لم أنتِه من الشرب بعد . شربتُ بقية الماء ، وحاولت النهوض لإعادة الطاسة إلى مكانها ، فقال الشيخ مداعـباً : هات الطاسة ياولد ، وإلآ شد د تك من الغرّة .
ضحكنا معاً ، وأخذ الشيخ الطاسة ، وأعادها إلى مكانها ، ثم عاد فجلس في مكانه قرب موقد القهوة .
كانت القهوة ساخنة ، والبخار يتصاعد من دِلالها . وكنت أختلس النظر إليها وقد منعتني هيبة الشيخ من أن أمدّ يدي إليها فأصبّ فنجاناً وأشربه ، كما منعتني من أن أطلب منه أن يسقيني فنجاناً بنفسه ..
وظللت دقائق على هذه الحال ، ولم أنتبه إلى أن الشيخ منتبه للأمر ، ويتجاهله عامداً لأمر في نفسه .
نهض من مجلسه ، وغاب دقائق قليلة ، ثم عاد وعلى وجهه علائم همّ دفين يحاول أن يخفيه بابتسامة ودود . ثم جلس وهو يقول ملاطفاً : اطمئن على دابتك ، فقد شربت ماء حتى ارتوت .. لقد سقاها الأجير ، وأخذها إلى الاسطبل ، بدلا ً من الظل ّ الخفيف الذي ربطتـَها فيه .
قلت : يا شيخ جزاكم الله عنا كل خير . لكن يبدو أن نظرية والدي صحيحة ، حين كان يقول لي : لا فرق بينك وبين هذا الحمار ، إلا ّ أنه نافع وأنت ضار. ضحكنا معاً ، وسألني الشيخ مداعـبا ً : وما الذي أكد لك الاّن نظرية أبيك ؟
قلت ملمِّحا ً: أكد لي هذه النظرية، أنني والحمار شربنا ماءً، ولم أزد عليه بشيء آخر مما يشربه الناس.
قال الشيخ ، وهو يداري همه الدفين بملاطفة محببة ودعابة ودود:
أعلم ياعفريت أن عينك على القهوة منذ دخلت. لكن ..
سكت الشيخ ، وتنهّـد بعمق ، ثم قال بعد صمت قصير ، وبصوت يملؤه الهمّ
والحزن : أنت يامسعود مثـل ابني، فقد كان أبوك يرحمه الله أخي وصديقي. ولا يخفى عليك ما يعانيه الناس في هذه السنة من جفاف وقحط ومحل . وقد تريثتُ في تقديم القهوة لك ، حتى أقدّمَ لك شيئاً من الزاد ، وأنت تعرف عادتي هذه منذ زمن طويل . لكن .. حسبنا الله ونعم الوكيل . ولا حول ولاقوة إلا ّبالله العلي ّ العظيم .أحسست أن الشيخ طعنني بخنجر مسموم في صدري . إنّ الرجل يحمل همّاً لاتطيقه الجبال .
قلت برفق ظاهر وحزن عميق كاد يفجّر الدمع من عـينيّ : يا عم ّ ، أنت بمنزلة والدي ، وهذا البيت بيتي، فأنا لست غريباً ، ولست ضيفاً . تكفيني كسرة خبز يابسة ، وقدح من اللبن الحامض . فالكرم هو كرم النفس قبل كرم اليد ، وأنت سيد العارفين . وكرمك بحمد الله يعرفه القاصي والداني . والمثـل يقول : " الجود من الموجود " . والله سبحانه وتعالى ماكلف نفساً فوق طاقتها . فلا تحزن ياعمّ، رعاك الله، والدنيا ما تزال بخير مادام فيها أمثالك .
تنهّد الرجل ، وقد خفّ عنه بعض ما يعانيه من هم وحزن ، وقال :
بارك الله بك يامسعود ، فقد أرحتني قليلا ً . وما أكتمُك أنني ، حين خرجت من هنا قبل قليل ، سألت زوجتي عن طعام أقدّمه لك ، فأخبرتني أنه ليس في البيت شيء يؤكل ، سوى بعض الأشياء التي ذكرتها أنت قبل قليل ، أي بعض كسرات من الخبز اليابس ، وشيء يسير من لبن حامض ، فاستحييت من أن أقدم لك هذا الطعام ،أما الآن وقد عرفتَ الأ مر،فأنت مخيّربين أن تأكل من هذا الزاد البسيط ،وتحمد ربّـك ، وبين أن تظل ّ جائعا ً . ولو علمتُ أن في أحد بيوت القبيلة طعاماً أفضل منه ، لأتيتك به ، لكنّ القحط عمّ الجميع ، وما يملكُ الناس إلا ّ انتظار فرج الله ورحمته .
قلت : ياعم ، الطعام البسيط في بيتك هذا ، بيت الجود والكرم ، أفضل وأهنأ من أيّ طعام آخر ، مهما كان شهيّا ًأو فاخراً . فالحقني بزاد ك يرحمك الله ، فإني جائع من ناحية ، وأحب ّ أن أشرب القهوة من ناحية ثانية..
تبسّم الشيخ وقال مداعـبا ً : ما تزال كما عرفتك يا مسعود ، طيب النفس خفيف الدم . فأبشر بالطعام وبالقهوة بعده.
نهض الشيخ من مجلسه ونادى الأجير غزوان ، وأمره بإحضار الطعام قائلا ً له :
اذهب ياغزوان وأحضر ما في البيت من طعام ، وعجّـل، فإن ضيفنا جائع .
صمت الاسكافي قليلا ً ، ثم عاد إلى الكلام وابتسامة رضيّة مشرقة تعلو وجهه ، قال : ما أكرم الله وما أعظمه .. لقد رأيت الأمر بنفسي ، ولم أكد أصدّقه .. فكيف يستطيع تصديقه من لم يره ، ولم يأكل من الزاد الجديد الذي أكلت .. صمت الاسكافي مرّة أخرى ، ثم تابع بهدوء :
خمس وعشرون سنة مرت على تلك الحادثة ، بل على تلك الأ كلة اللذيذة ، وما تزال ذكرى الحادثة تعيش معي حتى الساعة ، كأني عشتها بالأمس .. وما تزال ذكرى الأكلة ماثـلة في فمي كأني أكلتها بالأمس .. إنها ليست كسرة الخبز اليابس وقدح اللبن الحامض .. لا.. أكلة أخرى ألذ وأطيب وأعجب :
لقد أكلت كسرة الخبز التي جاء بهاغزوان ، وشربت معها قدح اللبن الحامض، ثم شربت بعد ذلك فنجانين من القهوة المرّة الساخنة .. ثم استأذنت الشيخ أن أضطجع قليلا ً ، بعد أن حلّ عليّ التعب والنعاس ، فأذن لي ، وانتحيت ركنا ً بعيدا ً قليلا ً عن مجلس الشيخ ، واضطجعت ..
لم أدر ِ كم نمت ، وما أحسبني نمت طويلا ً .. ربما مرت علي ساعة أو ساعتان وأنا نائم .. لست أدري . كل ماأدريه أنني أفقت على صوت غزوان
وهو ينادي عليّ : أبا رزق .. أبا رزق .. انهض فقد أقبل علينا ضيوف كثر وليس مناسباً أن تظل ّ نائماً ..نهضت ُ من رقدتي ، واتجهت صوب الباب ، لأرى من جاء إلى الشيخ في هذه الساعة ، فرأيت سُربة من الخيالة ، تقارب العشرين رجلا ً على ظهور خيولهم ، مقبلة نحو المضافة . كان الشيخ أحمد مضطجعاً أمام المضافة ، على مسافة تقرب من عشرين خطوة ، أو ثلاثين ، بجانب صخرة صغيرة ان يجلس الشيخ فوقها، أو بالقرب منها، حين يحبّ أن يخلو لنفسه ويراقب ويتأمل ويفكـّر . أمّا الآن فقد غلبه النوم أو الهم ّ ، لست أدري ، فاضطجع واضعاً يده تحت رأسه ، دون أن يعرف من يراه ، أهو نائم أم مستيقظ ..
اقتربت سربة الخيالة من الشيخ ، فناداه أحدهم ، وهم ما يزالون على ظهورخيولهم : ياعمّ .. ياعمّ ..
رفع الشيخ رأسه قليلا ً ونظر إليهم مستفهماً دون أن يتكلم ، فقال له أحدهم :
نحن غرباء ياعمّ كما ترى ، وقد جئنا قاصدين الشيخ احمد الفرج ، فهلا دللتنا على مضافته !؟
قال الشيخ بهدوء ، وهو يمدّ يده باتجاه مضافته : إنها هناك .. تلك التي أمامكم ، فاذهبوا إليها ..
لم يكن أحد منهم يعرف الشيخ ، ولاعرفَ هو واحدا ً منهم .. إنهم من مكان بعيد ..
اتجه الخيالة إلى المضافة ، وحين وصلوها ترجلوا عن خيلهم ، فأسرع إليهم غزوان وأمسك بأعنـّة الخيل وباشر بربطها ، بينما دخل الرجال إلى المضافة وجلسوا ينتظرون ..
فرغ غزوان من ربط الخيل ، وجاء مسرعاً إلى الضيوف ، ليقدّم لهم الماء ويرحب بهم ، بانتظار قدوم الشيخ .. سأل أحدهم عن الشيخ ، فقال له غزوان : سيأتي حالا ً ، ولن يتأخر إن شاء الله .
لم يكن غزوان بحاجة إلى تنبيه الشيخ لمجيء الضيوف .. ولا كان الشيخ كارها ً لضيوفه متثاقلا ً عنهم .. إنما كان هناك همّ آخر ، لا يستطيع معرفته ، أو تذوق مرارته، إلاّ الشيخ نفسه ..
قام الشيخ برصانة وهدوء ، وتسليم بقضاء الله وقدره ، وهو يتمتم بصوت خفيض ، لا يسمعه إلاّ من كان قريبا ً منه : يارب ّ .. عوّدتنا على الكرم ، فلا تخيّب أمل الناس فينا، ياأرحم الراحمين ..
دخل الشيخ المضافة ، فسلم على ضيوفه ، وجلس بالقرب من موقد القهوة ، والضيوف ينظرون إليه ، دون أن يعلموا ما إذا كان هو القهواتي أم أحد أجراء الشيخ ، أم أحد أفراد القبيلة العاديين . وما خطر في بال أحدهم، أن هذا هو الشيخ أحمد الفرج ، الذي سمع بصيته القاصي والداني ، والذي ساروا ليالي وأياما ً ليحلـّوا ضيوفا ً عليه ..
نظر الشيخ بهدوء إلى غزوان الواقف قريباً منه ، وقال له : لعلّ الضيوف عطاش ياغزوان ، فالجو ّ حارّ كما ترى ..
قال غزوان : لقد سقيتهم ماء ياشيخ ..
نظر الرجال إلى الشيخ غير مصدقين أنه هو ، ونظر بعضهم في وجوه بعض ، وظلوا صامتين ، وفي أعماق كل منهم أسئلة حيرى ، لايستطيع الإجابة عليها ..
نظر الشيخ إلى الضيوف باسما ً، وهو يرحب بهم ، ويبلع ريقه بصعوبة ، كمن يعاني من غصّة أليمة في حلقه . وقد رأى أنظار بعضهم متجهة إلى دلال القهوة ، إلآ أنه تجاهل ذلك ، وظلّ يرحب بهم بوجه يحرص على أن يكون طلقاً ...
إنهم ليسوا من طراز مسعود الإسكافي .. إنهم غرباء ، تبدو عليهم سيماء الوجاهة .. لايفلح معهم الخبز اليابس واللبن الحامض .. ولكن .. الله أكرم من عباده .. أرهف الشيخ أذ نيه ، كمن يسمع صوتا ً بعيدا ً ، ثم ظلّ مصيخاً بسمعه وهو يحس ّ أن الصوت يقترب شيئاً فشيئاً ..
قال الشيخ : غزوان .. هل تسمع صوتاً ؟
قال غزوان : أجل ياشيخ .. أسمع صوتا ً بعيداً ، ولكن لاأدري ما يقول ..
بعد ثوان ٍ قليلة ، اتضحت نبرات الصوت ، وهو ينادي : ياشيخ أحمد .. ياشيخ أحمد الفرج ..
قال الشيخ بسرعة : اخرج ياغزوان وانظر من ينادي .
خرج غزوان وعاد بعد قليل ، وهمس في أذن الشيخ ، فخرج مع غزوان مسرعَين .. كان خارجَ المضافة رجل غريب ، يقف إلى جانب جمل ضخم عليه صندوقان كبيران .. وحين سأله الشيخ : ماذا تريد يارجل ؟
قال الغريب :إنّ لديّ أمانة أريد إيصالها إلى الشيخ أحمد الفرج ، فهل أنت هو ؟ قال الشيخ : أجل أنا
هو .. ولكن من أنت ، ومن أين جئت ، وما أمانتك؟ ومن أرسلها ..؟ قال الرجل : إنها هديّة أرسلها إليك أحدهم ، من مكان بعيد –وأشار الغريب إلى جهة الغرب - .. فأرجو أن تأخذ أمانتك لأتمكن من متابعة سيري ، فإني على عجلة من أمري .قال الشيخ بهدوء : حسناً .
ثم اتجه الشيخ إلى البيت مشيراً ، إلى الغريب وغزوان أن يتبعاه ..
وبالقرب من البيت طلب من الغريب إناخة َجمله ، فأناخه ، وأنزل هو وغزوان الصندوقين عن ظهره .. ثم شدّ الغريب عـنان جمله فاستوى
واقفاً، وقاده وانطلق مسرعاً ..
نظر الشيخ وغزوان إلى الصندوقين الكبيرين ، فإذا في أحدهما سمن عربي
وفي الآخر بسطيق ( والبسطيق صفائح رقيقة مصنوعة من ماء العنب والنشا .. لذيذة الحلاوة والمضغ ) .. وقد امتلأ الصندوقان تماماً بالسمن والبسطيق .. لم يكد غزوان يصدق ما رأت عيناه .. وتهللت أسارير الشيخ
وظلّ يرددّ بينه وبين نفسه عبارات لايكاد يُسمع منها إلا: الحمد لله.. الحمد لله ..همّ غزوان بمتابعة الغريب، لمعرفة سره ، إلاّ أن الشيخ نهاه عن ذلك ، ثم همّ فزجره الشيخ ، إلاّ أنّ دافعَ الفضول الذي سيطر عليه تماماً ، لم يدَع له مجالاً للاتزان أو الالتزام بأوامر الشيخ ، فأطلق ساقيه للريح منطلقا ًوراء الغريب، الذي لم يكن قد تسنى له أن يسير أكثر من عشرات الخطا .. وحين وصل غزوان إلى سفح المنحدر الخفيف الذي انحدر منه الغريب ، لم ير أحداً.. لارأى رجلا ًولا جملا ً، مع أن الأرض كانت بعد السفح شديدة الانبساط والوضوح . نظر في كل اتجاه ، يمنة ويسرة ، شمالا ً وجنوباً، شرقاً وغرباً .. فما رأى جملا ً ولارجلا ً.. فعاد والدهشة والعجب يملآ ن جوانحه .. وحين وصل إلى حيث الشيخ والصندوقان ، عاتبه الشيخ بلطف وحزم قائلا ً: مالك ولهذا ياغزوان .. رزقٌ ساقه الله إلينا ، ليسترنا أمام خلقه .. وقد رأيت بعينك وسمعت بأذنك .. إنه أرسل إلينا هديّة .. لم نسرقه ولم ننهبه .. ولم نقف متسولين على أبواب العباد .. إنه باب الله الواسع يابنيّ فلا تتعب نفسك في البحث عما لا يعنيك ..ثم نادى الشيخ زوجاته قائلا ً: يا أهل البيت ..
وحين خرجت إليه زوجاته ، خاطب الكبرى قائلا ً:
ضعوا لنا من هذا الطعام ، وأكثروا ، فالمضافة ملأى بالرجال .. وكلوا منه ، ووزعوا الباقي على مَن حولكم من الجيران والأقارب ..
قالت زوجته الكبرى : ألا نبقي منه شيئاً للحاجة ؟ فلعلنا نفاجأ بضيوف آخرين لا ندري من أين يأتون ، ولا متى يحلون !
قال الشيخ بهدوء حازم : إنّ رزق الله لا ينقطع يا امرأة .. والذي ساق لهؤلاء الضيوف رزقهم ، يسوق أرزاق الآخرين ، من حيث يعلم ولا نعلم .. فوزِّعوا الطعام كله، فليست حاجة الناس إليه أقـل ّمن حاجتنا ..
ملأت النساء آنيتين كبيرتين ، إحداهما بالسمن ، والثانية بالبسطيق ..
وحمل الشيخ إحدى الصينيتين ، وحمل غزوان الثانية ..
وُضِع الطعام أمام الضيوف ، وطلب منهم الشيخ التقدم لتناول نصيبهم منه.
نظر الرجال بعضهم إلى بعض في دهشة .. ثم قال أحدهم بعد فترة صمت قصيرة : يا شيخ لقد نصرك الله علينا .
قال الشيخ في دهشة : ماذا تقول يا بنيّ ؟ وهل بيني وبينكم حرب لا سمح
الله !؟ قال الرجل : لا يا شيخ .. ولكنا سمعنا بكرمك وجودك ، وبأنك معتاد على تقديم الطعام لضيوفك قبل القهوة .. فأردنا أن نمتحنك ونختبر جودك ، لنرى كيف تستطيع المحافظة على عادتك هذه ، في هذه السنة القاحلة العجفاء .. أي أننا جئنا معاجزين متحد ّين أيها الشيخ .. فاعذرنا .. ولا تؤاخذنا، يرحمك الله .
قال الشيخ بلطف وسماحة : لا عليكم يا بني ّ ، إنما أنتم ضيوفي ، ومهما كنت كريما ً، فإن كرمي وكرم الخلق جميعاً ،لا يساوي قطرة في بحر جود الله .. وما ترونه أمامكم من طعام ، هو من رزقه لا من رزقي ، ومن جوده لا من جودي .
صمت الإسكافي قليلا ً ثم تنهّد قائلا ً : آه ، رحمَ الله الشيخ أحمد .. فقد عاش
كريما ً ، ومات حميداً . أمّا قصّة الرجل الغريب والجمل ، فما زلت والله في شكّ منها ، برغم أني رأيتها بعينيّ ، وساعـدت في وضع الطعام في الآنية ، واشتركت في تقديمه للضيوف . إنني في شكّ لا من حدوث القصّة ، فقد حدثت يقينا ً . ولكني في شك من كيفيّة حدوثها ، أو في الأصح ، في الجهة الحقيقيّة التي جاء منها الرجل الغريب والجمل ، أهي جهة الغرب أم جهة الشمال أم الجنوب ..
وإذا كان من جهة الغرب فمن أيّة بلدة أو قرية ؟ ومَن الرجل الذي أرسل الأمانة أو الهديّة إلى الشيخ ؟ أهو صديق للشيخ ، أم تاجر يتعامل معه ، أم رجل غنيّ جواد عرف عادة الشيخ، وأشفق عليه من جدب تلك السنة القاحلة
لا أدري .. لا أدري .. كلّ ما أدريه أنّ كلام ربي سبحانه وتعالى يتردد في سمعي ، كلما تذكرت هذه الحكاية العجيبة :
" ومن يتق الله يجعل له مخرجا ً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ".