هذيان لاجئ فلسطيني

صدقي موسى - كاتب وصحفي

[email protected]

هناك تحت حرارة البعد عن الوطن، والتهجير الثاني له مع ابناء شعبه، جلس قصرا ينتظر سحابة تقله لوطنه الذي شهد ميلاد والده واجداده، الا ان العلامات تشير الى ان عاصفة قادمة ستصيب غيمته، وتلقي بها بعيدا في ارض ما وراء البحار.

جلس بين الخيم التي تذكر بخيم الهنود الحمر حاملا طفله الذي ولد بعد التهجير الثاني بخمسة اشهر، وقد تقيأ غداءه من حليب والدته، مسح لولده فمه وثيابه، ابتسم له، قبّله قبلة خفيفة، ماسحا على راسه.

التاريخ يعيد نفسه؛ هو ولد بعد خروج والده من فلسطين برفقة الجيش العراقي بعشر سنوات، لم يكن يتصور قبل سنوات بأن الحياة التي كان ينعم بها مع 28 الف لاجئ اخرين ستتحول الى أحلام، إلا انه لما شاهد مخيمات الضفة وغزة تهدم وترتكب فيها المجازر، ويهجر اهلها منها لم يستبعد أي شيء؛ هناك عدو محتل وهنا، عدو متغطرس يهدد ويتوعد.

قال لطفله: احمد الله انك ولدت بعد التهجير الثاني في هذا المخيم. لم أكن لأضمن أن لا تصيبك قذيفة حقد طائفي او رصاصة غدر.

حتى وان "قطّعت" القلوب بصراخك من الام معدتك، أو ارتفاع حرارتك، فلن يزيد صراخك من يحاصرون مذهبك و اصولك الا غرورا، ولن تنزل في قلوبهم ذرة من رحمة.

اليوم، يا احمد نحن صيام عن اكل القذائف وشرب الاهانات. انتظر دوري مع المنتظرين لنهاجر إلى البرازيل، حيث كان الهنود الحمر. وما أدراك ما الهنود الحمر!؛ قوم مثلنا احتلت ارضهم وابيدوا على يد محرر العراق وناشر الديمقراطية. لا تستغرب هكذا!! كانوا يستحقون الإبادة؛ لأننا نعيش وفق شريعة الغاب القوي فيها ياكل الضعيف، والأدهى والأمر أن القوي يشرع القوانين والحجج؛ لقتلك أو سرقة ثرواتك واموالك.

ولدي لا اعلم ان كنت سترحل من هنا الى بلد الهنود الحمر، أو إلى حيث أهل القبور تحت التراب. فإذا كانت نهايتك هنا تحت ذرات هذه الصحراء مع اقران اخرين سبقوك؛ فاشكوا لله جروحا تنزف، وبيوتا تهدم، وأرواحا تزهق. وإذا كنت هناك ما وراء البحار، فاحكي لهم قصة الشاطر حسن والاربعة مخيمات: قصة 2260 لاجئ هربوا باولادهم وارواحهم ومستقبلهم للصحراء فهي ارحم من ظل يسقط عليك الموت. ولا تنسى يا ولدي بان تاخذ خيمتك معك، فلابد انك ستحتاجها مع هذين المفتاحين. لا تستغرب هكذا!! إنها ليست مفاتيح الخيمة بالطبع؛ هذا مفتاح العراق والكبير مفتاح فلسطين، كان لنا هناك بيوت وارض وذكريات محتها ديمقراطية العم سام.

ارى ان الضيق بدأ يتسرب لوجهك، ولسان حالك يقول: ماذا يقول هذا الابله؟!

وتراك تحلم بغفوة بحضن والدتك، وتنام قرير العين في عالمك النقي البرئ، الذي لم تلوثه الاحقاد والاطماع.

لكن مهلا مهلا... فستفيق يوما على انك كيان معاد، و ألعابك مسلوبة وحليبك مشروط بخنوعك، وانفاسك تحصى عليك.

غدا، عندما تكبر ستحدث أبناءك عن قصص آبائك، وهم َيحاصرون في العراق، وتثقب رؤوسهم بالدرل "المقدح"، وتدرج أسماؤهم على قائمة المطلوبين. ستحدثهم كيف وقفوا يدافعون عن عرضهم وحياتهم، فتقهقرت أمامهم المليشيات، واستعانت بالجيش وقوات الاحتلال حتى يتمكنوا منهم.

حدثهم عن الترويع والخوف، وعمليات الخطف التي تنتهي بالقتل والتمثيل، بعد التعرض لاشد انواع التعذيب: من قلع لعيون، وملئها بالتراب، وتقطيع للأطراف وسكب حامض الكبريت على الجسد، والكي بالسجائر، والذي لم يسلم منه لا الشيخ الكبير ولا المرأة ولا الطفل.

اخبرهم عن قصف قذائف الهاون للمجمعات، وتجميع أشلاء النساء والأطفال المتطايرة على الارصفة والازقة.

عندما يتساوى القتيل و الجريح في مصير مجهول؛ فلا يجرؤ احد على اخراج المغدور من المشرحة؛ لأنه سرعان ما يلحق به، والمصاب محروم من العلاج في المستشفيات.

حدثهم عن 7 ملايين لاجئ في اصقاع العالم، و450 الف مهجر فلسطيني داخل "الخط الأخضر"، و"الكنتونات" في الضفة وغزة.

لكن قص عليهم ايضا تعاطف القبارصة معنا واستقبالهم لنا بحفاوة، ومشاركتهم لنا بلعب الكرة، ومنحنا جنسية وهوية، فلن يلومك احد على ذلك فانت لن تتخلى عن فلسطين او المطالبة بحق العودة، والطريق للوطن مغلق امامك، ان وجودك على ظهر الارض خير من ان تسجل كذكرى تنسى مع الزمن.

اعرف ان كلامي قد تسبب لك بتوعك معوي ومغص، لا تنزعج كثيرا، فقد كان ما قلته هذيان لاجئ فلسطيني ليس الا!!