رحلة صيد
رحلة صيد
د.عثمان قدري مكانسي *
كانت دباباتنا تناوش العدو وتلعب معها لعبة " الإغماءة " كما كنا نلعبها كثيراً ونحن صغار .والمدافع على أنواعها تتراشق ناراً تلظّى . وأصواتها تدوّي في الفضاء الرحب كما طبول تدق بإيقاعات منتظمة . فإذا تداخلت إيقاعاتها أسمعتك خليطاً لا وزن له ، إلا أن القافية كانت واحدة عند كل منها " دن " .
كنت قائداً لوحدةٍ مدفعية مضادة للدرع م/د / مهمتي - في اليوم الرابع لمعركة رمضان – الانتشار بأسلحتي على طول الخندق الإسرائيلي - الذي اقتحمه جيشنا في أول ساعات المعركة – لصد أي هجوم من العدو مضادٍّ .
كان كل شيء جاهزاً في اللحظات الأخيرة لليلة البارحة ، فما إن بزغ الفجر حتى كانت المدافع/ 106/ ملم المحمولة على عربات " اللاندروفر مموّهة ،وصواريخ المالوتكا – التي يسميها المواطنون : صواريخ الخيطان – موجهة نحو مواقع العدو . والجنود اتخذوا أماكن مستورة يرون العدو منها ولا يراهم .
والحقيقة أن المكان الذي اخترناه لتمركزنا كان جيداً تماماً ، فأمامنا صخرة عالية مشقوقة تسمح لنا بمراقبة الإسرائيليين ، وتمنع عنهم تحركاتنا الكثيرة . ووراءنا وادٍ توهم العدو أنّ قواتنا فيه فأصلاه ناراً كثيفة ، إلا أنه كان خالياً من كل شيء خلوّ فم ابن العشرين بعد المئة من أثر الأسنان الدارسة .
وحينما آذن الصبح بانبلاج أجلْت طرفي علّني ألقى مكاناً أشرف منه على ما حولي فأتخذه مكاناً لي ، فنادتني شجرة من شجرات المكان قائلة : عندي ما تبغيه ,علوٌّ ، وإخفاءٌ عن الأعين ، وصخرة مجوّفة فيها الأمان كله من سماجة أبناء العم الثقلاء .
فاروق ، شاكر ، عبد العزيز ، وياحسن : أجاهزون للرمي بصواريخكم الخضراء رسل السلام ، إن جاء الأمر بذلك ، ويا مرشد ، وأحمد ، وخالد ، وسليم ، كيف حال مدافعكم العزيزة ؟... رد الجميع : على خير ما يُرام ......هيا إليّ ... فانتظم العقد سريعاً ...
فاروق وشاكر من حمص ، التحقا بالجيش في يوم واحد ، فاستأنس كل منهما بالآخر ، فكنت لا تراهما إلا معاً . .. كان باستطاعة الأول أن يقضي جنديّته بعيداً عن المتاعب لأنه لا يكاد يرى بعينه اليسرى ، لكنه فضل مصاحبة زميله ، وخوض مصاعب الحياة بين السلاح وفي الخنادق على العمل الروتيني وراء إحدى الطاولات – ولا أدري أكان صادقاً في دعواه تلك أو لا ، أما شاكر فقد كان هادئاً بارد الأعصاب ، لا يتذمر من شيء أبداً ، مطيعاً للأوامر .. وامتاز كلاهما بحسن الخلق والمزاح وجمال التعليق ، ومجابهة الحياة بقليل من عدم المبالاة .
وعبد العزيز من الحسكة ، فيه تتجلّى أخلاق البداوة ، بحلوها ومرّها ،وجفائها وأريحيّتها ، فهو يوم ربيعيٌّ تتقلب أحواله بين إشراق وغيوم ، وأنسام وزوابع ، ... وحسنٌ يختلف عما يجب أن يكون عليه . إنه من جبل العرب الأشمّ الذي يمتاز أهله بالكرم والشجاعة وال ... إنه يفتقر إلى هذه الصفات كلها ، ولا سيّما الشجاعة ... أما الباقون فحديثو عهد بنا ، إلا أن أحمد على ما يبدو أفضلهم .
" بعد قليل تطلع الشمس ، وتتبلوَر الأشياء ، فلتكن عيونكم مفتحة ، ونفوسكم هادئة ، وإياكم وكثرة الحركة ...، وابحثوا عن الأهداف ، سنرى الماهر منكم يصطاد غزاله بأول سهم .. الفرق بين الحب والحرب يا عبد العزيز – وكان قد تزوج حديثاً – الراء لفظاً ، أما معنىً فسهم الحب يُخطئك بغضّ البصر ، أما هنا فافتح عينيك جيداً كي تنجوَ من سهام الحرب ..."
فاروق : أقسم أن قلب عبد العزيز يخفق بسرعة 300 ذبذبة / ثا .
حسن : بالله عليكم افتحوا آذانكم ، لا وقت للمزاح الآن .
شاكر : ألا ترونه يبتسم ؟ لقد طار بجناح الشوق إلى ...
حسن : سيّدي ألا تراهم؟ .
عبد العزيز : لا تضيّع علينا ياحسن اللحظات الثمينة بخوفك وهلعك .
وظهر التأفف على وجه حسن ، فضحك الجميع .. وابتسمت ، ثم قاطعتهم قائلاّ:
إنكم صف ضباط ، وقادة جماعات ، وجنودكم يستمدون أملهم من حسن تصرفكم ، فلا داعي للخوف واليأس ، ولنكن شجعانا ً ، ولنجابه عدوّنا بقوة ... ولنعلم قبل كل شيء أنه إذا جاء أجلنا فلن ينجينا احتراس ... وغيّرت دفّة الحديث : من يرمي أولاً إن ظهر هدف دسم ؟
أحمد : مدفعي سيردي الهدف بطلقة واحدة .
شاكر : ما تزال غِرّاً ، لم يطُلْ شعرك الحليق .
أحمد : أراهنك .
فاروق : مرتّبك كثير – ما شاء الله !!- بل حسنٌ يصيب الهدف مئة بالمئة .
يظهر الارتباك على وجه حسن : بل عبد العزيز أمهر مني بكثير ، ألا تتذكرون أنه يستأثر بجوائز الرمي ؟...
عبد العزيز : لا تنس أنني أصبحت مسؤولاً عن غيري ( أبو عيال ) حرام عليك .... قالها بلهجة المتسوّل ... فضحك الجميع .
فاروق : أما أنا .. فمن المفروض أن أكون من ذوي الخدمات الثابتة .. وإذا لم يظهر البطل العتيد فسأندفع عصباً عني لأقول دون و.. ج.. ل.. ولا .. خ..و..ف : الحقني يا شاكر .
وطفق الجميع يبتسمون ابتسامات قريبة إلى الضحك .. وهنا شمر شاكر عن ساعديه بحركة مصطنعة قائلاً : .. لم يبق في الميدان إلا حديدان .. أنا لها . أنا لها .. صحيح أنني لا أصيب الهدف في مشاريع الرمي ، لكن حين يجد الجِدُّ أكون ابن بجدتها وصاحبها الأوحد .
ربما تعتقد ياصاحبي الآن أن مثل هذا الحوار بما يتجلى فيه من مزاح وفكاهة يذهب باحترام القائد ... هذا صحيح ، ولكن إذا عرف الجنود أوان الجد والهزل ، فأعطَوا كلاً منهما حقه فإن الحياة تكون رائعة حقاً . وهذا ما كنا جميعاً نشعر به .
ورنّ جرس الهاتف : ....نعم ... نعم ... ماذا ؟.. ست دبابات معادية على " تل وردة " على شكل مثلثين ؟.. إنني أسمع صوت الجنود يخبرونني بوجودها ... نعم لقد رأيتها ... لقد رأيناها جميعاً ... سندمرها بإذن الله تعالى .. مع السلامة ..
- يا أحمد ...
- نعم سيّدي ...
- جهّز مدفعك .
- هو جاهز ، والقذيفة فيه ...
- انظر يا أحمد إلى التل على اليمين تر دبابة أخذت وضعها القتاليّ ، وتليها خمس دبابات ... هل رأيتهنّ جميعاً؟ .
- نعم سيدي ..
- ضع على المؤشر 2200 متر ، وأطلق رصاصة خطّاطة ، لا قذيفة .
يطلق أحمد الرصاصة الخطاطة ، وأنا أتابعها ، فتقصر عن الهدف .
- زد على المؤشر مئتي متر , وأطلق رصاصة .
نعم يا سيدي ، لقد أصبتها .
- أطلق القذيفة الآن ...." دن " ..
الجميع : الله أكبر ... لقد احترقت .
- يا أحمد ارم الدبابة الثانية بعناصر الأولى ، والله معك ..." دن " ..
فاروق : الحمد لله أننا لم نراهنه – أولاً – والحمد لله أنه أصابهما- ثانيا - .
أحمد : هل أرمي الثالثة يا سيدي .
: لا يا أحمد ، بارك الله فيك أيها المقدام ، يكفيك فخراً أنك دمّرتَ دبابتين في دقيقتين .
من يرمي الثالثة يا أبطال الصواريخ ؟.
شاكر : جاء دوري ( ما فيها لعبة ) ، الثالثة أبعدها لكنها تحت مرمى الصاروخ ، فهي لا تبعد ثلاثة آلاف متر .... أشهد ألاّ إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .. وتعجب الجميع أن ينطق شاكر النصرانيُّ بالشهادة في مثل هذا الوقت ... لكنه نادى بملء صوته : أن أموت مسلما ً فأدخل الجنة خير من موتي مشركاً .. فلا تتعجّبوا .. إني مسلم أحب الله ورسوله .
وضغط على زر الإطلاق ، فانطلق الصاروخ يسبح في الفضاء ، يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال منطلقاً نحو الدبابة بسرعة مئة وعشرين متراً في الثانية .متبختراً كالعروس تُزف إلى عروسها ... ونادى الجميع شاكراً : ثبّتْ أعصابك يا بطل ، أيدك الله ، ومدّ في أجلك . وقبلك في عباده الصالحين ... ثم كتم الجميع أنفاسهم ... وبدأ الصاروخ ينطلق بخط مستقيم لا يحيد عنه ، ولا يريد أن يضيع هدراً ، بل يبغي أن يرفع رأس صاحبه المسلم الجديد اعتزازاً... واصطدم بالدبابة ، فاحمرّت ، وتوهّجتْ ثم انفجرت ...
" سلمت يداك " " لا شُلّتْ يمينك " " أبوس روحك " "عظيم " .. وكنت تسمع كثيراً من هذه التعليقات .. وتنفس شاكر الصّعَداء .. ثم عاد منبطحاً ونادى : " الصاروخ الثاني والدبابة الرابعة ... " دن " .. وانطلق الصاروخ يحمل معه الموت الزؤام ، تتبعه دعواتنا وعيوننا ، وارتفع فوق الأرض ليبدأ بعد ذلك مساره الصحيح ، ولكن ... انبطح الجميع ، وتفجرت أمامنا بثلاثين متراً قنبلة .. وعمّ المكانَ الغبارُ ، ولاذ الجميع بالصمت ، وبعد ثوانٍ انقشع الغبار ، وتلمّس الجميع أنفسهم .
هل من مصابٍ ؟.. وسمعت الجواب من كل صوب : لا ، والحمد لله .
يبدو أن الدبابة الرابعة رأت الصاروخ الأول منطلقاً إلى هدفه ، فراقبت نقطة انطلاقه .... وحين شاهدت الصاروخ الثاني يطير نحوها من النقطة نفسها سددت إليه ورمتنا ، فأخطأتنا ...
صاح الجميع آسفين : ضاع الصاروخ ...
ونفض شاكر الغبار عن نفسه ،وأرسل نظره في المنظار ، وشد عصا القيادة ، ثم صاح : الحمد لله .. كاد الصاروخ يصطدم بالأرض ، فرفعته ... لقد أعدته إلى مساره ... أنه يتجه نحو الهدف ....
الدبابة رأته مقبلاً يقصدها .. فانطلقت في الاتجاهات كلها تنشد الخلاص من مصيرها المرعب ... لكن الصاروخ كان لها بالمرصاد ...
ارتج المكان بتهليل الجنود وتكبيرهم ... لن تسألني السبب.... لأنك تأكدتَ كما تأكدنا أن الدبابة تناثرت أشلاء .
وهربت الباقيتان كبومتين ترتجفان في ليل بارد مطير ....
* كاتب سوري يعيش في المنفى