الطريق إلى حيِّ العليليات

الطريق إلى حيِّ  العليليات

محمد الحسناوي *

أن تسافر إلى مدينة حماة عام 1978م مستغرب. أن تقصد حي العليليات فيها أمر أكثر غرابة. أمّا أن تطرق باب الشيخ  سعيد فذلك يتجاوز الغرابة إلى عالم  الخطر.

في أواخر شهر كانون الثاني كان المدرسان حامد عبدالواحد وعابد البستاني يدلفان  إلى حي العليليات صباحاً. رجلان كهلان، أحدهما أكبر سناً  وأطول قامة من  الآخر.  الطويل يلبس الزي الشعبي (جلابية داكنة. معطفاً شتوياً. حطة وعقالاً)، وهو في الوقت نفسه خارج من عملية  جراحية في أسفل البطن، لم يمض عليها أكثر من أسبوع واحد.  أمّا حامد، فكان يرتدي زي الموظفين المدنيين: بزّة زيتونية اللون من الألبسة الجاهزة المستوردة.

الضباب  يكتنف المدينة، والبرد القارس يحاصرها، والوحل يملأ فراغات الزقاق  المبلط كالأرصفة الرومانية الأثرية المتآكلة. لكن صمت الرجلين ونظراتهما  الحذرة، وتعثر خطواتهما ترجع لأسباب أخرى. إنهما ينويان زيارة رجل خرج من السجن حديثاً. هل في ذلك ضير؟ لو لم يكن بريئاً لما أفرج عنه! برئ من ماذا؟ لم يتهم بسرقة ولا بتجارة المخدرات ولا بالعدوان على مخلوق.  الجواب على  هذه الأسئلة يدخل في عالم الغرابة. والغرابة تفتح باب السحر والأسطورة.

حامد سمع بالشيخ في شبابه، وتعرف إليه في الدراسة الجامعية يخطب في تظاهرات الطلاب، أو يمارس المصارعة والرياضة العنيفة  في المخيمات. أمّا عابد البستاني فقد اقترب منه أكثر، وعاش  معه أياماً وشهوراً خصبة  في مدينة (المعرّة) حيث عمل الشيخ مدرساً للتربية  الإسلامية، هذا أقل ما يقال في أخبار الشيخ، والواقع أن مؤلفاته وأخباره ذاعت في سورية كلها وخارجها،  لا سيما بعد اعتقاله عام 1973م إلى يوم الإفراج عنه في عام 1978م. مثلما كان  العالم المجاهد  ابن تيمية  في جبه بسجن القلعة بدمشق يؤلف الكتب، ويضخ النور والمقاومة في  قلوب الجماهير. هكذا أصبح الشيخ  سعيد.

في العصر الحديث اكتشف الحجر المشع والاشعاع النووي، لكن الشعاع والإشعاع  موجودان  في الكون منذ الأبد. إذا كان الطاغية يشع هولاً وخوفا،ً فإن العالم والشهيد يشعان نوراً وسلاماً.

إن المدرسين حامداً وعابداً دخلا  حماة الأسطورة، وأصبحا في مركزها  حي العليليات  قاصدين محورها الشيخ سعيد. إنهما الآن غارقان في لجج الضباب والبرد  والتاريخ والذكريات والاحتمالات. الضباب غامض. السماء ملبدة بالغيوم. السلطة كامنة. الحراس متربصون. الناس خلف الجدران الطينية مكبوتون. نبض القلب بدأ يتسارع. السمع  بدأ يرهف ويتلقط همهمات ودمدمات عميقة الغور هادئة  الوقع، أشبه بحوار الأحلام المسحورة:

»كان والدي  يبيع بالجملة. ينزل عنده أصحاب البساتين والحقول إنتاج بساتينهم  وحقولهم، فيبيعه لهم. كان دوره دور الوسيط بين المزارع وبائع المفرق. كنا نستيقظ مبكرين، فنصلي، ونقبل على استقبال الخضار والفواكه، فنبيعها، ونزينها ونسلمها  لأهلها، وقد نساعدهم على تحميلها. وينتهي هذا كله مبكراً. وكان  إفطارنا في الصيف: الخبز والفليفلة والطماطم والبقدونس، وكانت كمية الخبز التي آكلها كبيرة بعد ساعتين من العمل المجهد. وبعد الظهر كان والدي يرسلني لجمع الديون، ولا أعرف أنني تأخرت عن البيت إلى ما بعد المغرب، فذلك شيء محظور علي، وعندما تأخرت يوماً إلى بعد المغرب،  فلم يحاسبني  شعرت أنني أصبحت رجلاً«.

توقف عابد عن المشي، وهما في بداية  الزقاق، فتوقف حامد. نظر كل منهما في  وجه الآخر، كأنما يسأله هل تسمع مثلما أسمع  أنا؟ لم يكونا  بحاجة لجواب. كانت أحاسيسهما موحدة. وكان الجو الأسطوري كثيف التعبير، ينطق فيه الحجر قبل الشجر والبشر.  ماذا يفهم الناس والسياح من آثار تدمر والخط المسماري، وهي عاديات عفَّى عليها الزمن؟ إن حامداً وعابداً يجوسان في طرق تاريخ حديث ناطق: مئذنة مسجد مقصوفة  من  وسطها. باب دار مخلوع. شجرة محروقة. عمود كهرباء مائل. ثقوب سوداء في جدار حائل اللون. أطفال في ثياب رثة قذرة. وحل. وحل. وحل.

»كانت أوضاع  حيّنا تستدعي المنازعات والخصومات، ولقد سجن والدي ثلاث مرات بسبب هذه الأوضاع. سجن والدي سجنه الأول وأنا في الثانية  من عمري، وتوفيت والدتي وهو سجين، وعمري سنة وأربعة أشهر.  وسجن سجنه الثاني وأنا في السابعة من عمري. وسجن سجنه الثالث وأنا في العاشرة من  عمري، وكان ذلك كله بسبب مواقف يعتبرها الناس عندنا شريفة وبطولية. حرص والدي منذ صغري على أمور: أولاً: أن ينمي عندي الحمية على العرض حتى إذا وجدت - وأنا ابن العاشرة  واحدة من أخواتي الصغيرات تلعب خارج البيت، وكلهم  أصغر منهي، أضربها تنفيذاً لوصايا الوالد. كان يقص عليَّ من حوادث السجن. فهذا قتل أخته بسبب فضيحة، وهذا قتل أمه. لقد ربّاني على أن أهمَّ شيء في الوجود هو المحافظة على العرض والشرف.

ثانياً: نمَّى عندي عدم التفكير بالمظاهر: العبرة  بالجوهر. ثالثاً: نمى عندي العفة عن أموال الناس، فعندما ينزل أهل البساتين فواكههم يزوِّقونها، فإذا أكل أحد الناس منها ساءهم ذلك، فعوَّدني  ألاّ أمدّ يدي على شيء«.

كان عابد يتأبط ذراع حامد، ويتكئ عليه قليلاً. كان الزقاق  يرتفع بهما، ويضيق  من حولهما كلما توغلا فيه. خفقات الصدر  تعلو وتهبط موجات موجات، وتدق مجموعة من الأوراق  المخفية بعناية تحت ثياب الصدر.

ماذا تقول الأوراق؟

تقول الأوراق: إن الواقع العام فاسد، وإن السلطة مسؤولة عن هذا الفساد. ولا بُدَّ من تغيير السلطة ليتغير الواقع.  ولتغيير السلطة لا بُدَّ من حركة شعبية منظمة واعية ذات برنامج مدروس. نهر  العاصي يزور المدينة، ويخرج منها كما دخلها، ولا يستفاد منه. الشوارع قذرة، الكهرباء شحيحة، مياه  الشرب ضحلة. نساء المدينة  وبناتها يراد لهن أن يصبحن مطربات وراقصات، بدلاً من أن يخلفن خولة والخنساء.

ماذا يحدث لو اعترض ممثلو السلطة  طريق هذين الرجلين؟

ماذا لو مدوا أيديهم إلى الأوراق  المخفية؟

ماذا لو عرفوا محتوياتها؟

كل خطوة من خطوات الرجلين كانت تسأل هذه الأسئلة. كل بلاطة ناتئة أو واطئة تشهد، وتدمدم بصمت. الجدران المتداعية. السقوف الطينية المصقولة بالمدحلة الحجرية  والمخباط الخشبي شهود آخرون، يتخاطبون بلغتهم  الخاصة.

»عوَّدني الوالد  على المطالعة  حتى ولعت بها. كانت بداية ذلك عندما جاءني بقصة عنترة، ثم بسيرة سيف بن  ذي يزن، وبقية القصص  الشعبية. كانت هذه البداية  التي جلعتني أعشق المطالعة حتى لا أستطيع الصبر عنها، فكنت أقرأ وأنا جالس  وأنا سائر. كانت هناك مكتبة  كبيرة عامة في مسجد  يسمى مسجد المدفن  في حماة، وكانت تفتح أبوابها يومياً بعد العصر ما عدا يوم الجمعة.  وكان منظر الصغير الذي يلبس  جلابية  سوداء، ويحلق  رأسه، ويجلس يومياً فيها يلفت النظر، كما أن نوع  الكتب التي كان يطلبها  تلفت النظر.  كنت أقرأ ولو لم أفهم. وأقرأ بسرعة كبيرة. كان معدل قراءتي في الساعة  ستين صفحة. من الذكريات التي يرويها بعض الأصدقاء أنه كلفني أراقب له طبخة وضعها على  النار وخرج، وكنت أقرأ في كتاب في الغرفة  نفسها، فلما رجع وجد الدخان يخرج من الغرفة، فأسرع راكضاً، وإذا به يجدني مستغرقاً في القراءة، والطعام  يحترق، ووابور الغاز قد مال على أحد جانبيه.

كان الشاب الناشيء يعجب كيف يعيش الناس دون هدف كبير يسعون لتحقيقه، وكيف ينصرفون عمّا  يورث الأمجاد. لم أنقطع عن العمل مع والدي في سوق  الخضار. أصبح  لي عدد من الإخوة والأخوات.

كان حيّنا حيّ العليليات في حماة هو أكبر أحيائها، وكان قلعة حصينة للاشتراكيين. وقد قتل أكثر من إنسان في  حيّنا حتى تمت  السيطرة على الحي لهذا الحزب، لذلك كانت غضبة  الحزبيين كبيرة لدخول الحركة الإسلامية إلى حيّنا عن طريقي، وقد عرض  عليَّ أكثر من عرض لترك الحركة، والمساهمة في تشكيل جناح متدين في الحزب،  فرفضت.

أنهينا كل محاولة لإدخال المراقص والتياترات إلى حماة عبر عدد من العمليات الجريئة«.

الرجلان الكهلان  يسلكان هذا الطريق باختيارهما الحرّ، بإرادة وتصميم منهما، إنهما مدركان خطورة ما يقدمان عليه: المراقبة.  التحقيق. السجن. إلى متى؟ اللّه وحده يعلم!.

كان بوسعهما الاستغراق في عملهما التدريسي، والركون إلى  الساعات الإضافية وإلى سلامة العيش، مع الأسرة  والأطفال.

كان بوسعهما الانتقال إلى العمل الحر،  والاشتغال بالتجارة أو الزراعة، ولديهما من العقل والأقارب والأصدقاء ما يعين على ذلك.

كان بوسعهما الانتساب إلى الحزب  الحاكم، والتدرج  في سلّم  المراتب الرسمية  والحزبية، وأن ينافسا  في الولاء والطاعة،  وأن  يتسنما رتباً عالية جداً.

وإذا لم يرغبا بهذا ولا بذاك، كان  بوسعهما أن يهاجرا. أن يعملا  في  احدى  دول الخليج، وأن يجمعا الثروات، لكنهما رفضا كل ذلك، وسارا  في هذا الطريق: الوحل. الضباب. الظلام. الأخطار..

كلما اقترب الرجلان من بيت الشيخ زاد وجيب قلبيهما، واشتد  غموض الضباب، وارتفع بهما  الطريق، واشتد وضوح الهمهمة والدمدمة المنبعثة من ظلال  البيوت الكئيبة، والنفوس  الحبيسة خلف الجدران. كان هناك  صوت متميز يعلو الأصوات كلها. لعل الأصوات الأخرى كانت صدى له ومزيجاً جماعياً يصاحبه ويؤكده.

»نصح بعض الناس والدي،  وأقنعوه أن يدخلني مدرسة ليلية لمتابعة دراستي، فلعلني آخذ الشهادة الابتدائية، وكان عندنا في حماة مدرسة ليلية تقيمها جمعية سلفية تسمى (دار  الأنصار)، فألحقني الوالد بها، ولم يؤثر ذلك على خدمتي إياه، واستمراري في متابعة أعماله. كان الزملاء الكبار وبعضهم من أصدقاء الوالد  يعطون الوالد صورة قاتمة عن امكانياتي. وجاء الامتحان، فأديته، وإذا بي من الناجحين، والزملاء الكبار  كانوا في الغالب من الراسبين.

في كلية ضباط الاحتياط: مررت على اثنين يختصمان. أحدهما شيخ حمصي. وقد سفه الثاني عليه، فسبه  وسب المشايخ معه. فجئت إليه وقلت له: أنا من المشايخ، فقال: لا أقصدك، فدفعته، فألقيته أرضاً، ثم مضيت، وكأني لم أفعل شيئاً، ولم يكن للموضوع مضاعفات.

أثناء خدمتي في السجلات العسكرية اطلعت على سجلات نوع من المواطنين ضعيفي الولاء. كان بعض هؤلاء (....) يدينون لفرنسا بنوع من  الولاء عجيب، حتى إن بعض هؤلاء  التحقوا بالجيش الفرنسي بعد الاستقلال، وبقوا فيه ستة  أشهر،، ثم عادوا  إلى الجيش السوري، وهم الذين يسمون بأصحاب البطاقات الحمراء، ولقد مرّت عليَّ في السجلات  بطاقة  واحد من هؤلاء، وقد كتب عليها أربعة أسطر بالحبر الأحمر، تذكر أن هذا الذي فضّل خدمة المستعمر على خدمة بلاده.  ومن  العجيب أن هذا الجندي كان قد سرّح، لكنه استدعي  بعد انقلاب الثامن من آذار، ليخدم في الكتيبة المكلفة  بحماية (مبنى الأركان)، وكان ذلك مؤشراً على المستقبل«.

على الأرض الموحلة السوداء أبصر حامد ثم عابد جثة مشوهة لقطة  بلقاء، حولها بقعة قرمزية متشظية. الرأس المسحوق جداً والأطراف المتباعدة والأحشاء المندلقة، توحي  بأن ضربة شديدة نزلت  بها من  أداة حديدية، وأن قدما عسكرية عجنتها عجنا، ثم قذقت بها كالكرة كالخرقة الخلقة بعيداً.

خُيِّلَ لحامد  وعابد أنهما سمعا صوت سعلة جافة  قريبة منهما. نظرا  بسرعة إلى جهة اليمين.  وجدا رجلاً عسكرياً يضع راحة كفه اليمنى على فمه،  ويده اليسرى الممسكة بحزام بندقية (كلاشينكوف) تحمل بين أصابعها  سيكارة رمادية، يتقد رأسها البرتقالي بدخان شاحب، عيناه حمراوان. نظراته زائغة. إلى جواره باب حديدي مكفهر، ومحرس خشبي  قذر أصفر، بابه مفتوح على  الشارع الضيق،  وله نوافذ عارية في جوانبه العليا.

خُيِّلَ لهما أنهما سمعا صوت  سعلة جافة تنصب عليهما من أعلى. نظرا إلى أعلى. ألفيا عسكرياً آخر  يضع يده على فمه،  ويمسك باليد الأخرى حزام البندقية. وبجواره محرس خشبي لا يختلف كثيراً عن المحرس الأول.

»كان خوف الناس من النظام كبيراً، كان عليَّ أن أهتك عقدة الخوف، وأن أكون أنا  البادئ. كنت  أستشعر خطورة أن يقول أحدنا للدستور المزيف: نعم! كان واضحاً أن  من يقوم بذلك بعلم يرتدّ،  وأن الذي لا يعلم سيغرّر به، وسيوقع على ذبح اسلامه، لذلك صممت على الحركة.

كتب البيان، وبدأ الشيخ خالد الشقفة - رحمه اللّه - فوقع  وكان هو رئيس جمعية العلماء في حماة.  وقال - وهو يوقع: سيعيد  التاريخ نفسه. فكما أنه حكم على ثلاثة من علماء حماة في أواخر الدولة العثمانية  بالإعدام، فسيحكم على بعض علماء حماة بالإعدام من جديد.  ثم تتابع من وقع من العلماء على التوقيع. ولأول مرة في تاريخ سورية الحديث يقف علماؤها في كل المحافظات موقفاً سياسياً مشتركاً فيه مواجهة. رجعنا من دمشق  في الليلة  نفسها، وفي صبيحة اليوم التالي كنت في ثانوية المعرة أدرّس،  كأنَّ شيئاً لم يكن.

جاء أمر اعتقالي، وأنا في التدريس، وأنا مع ذلك كنت مطمئناً إلى أنني أستطيع الخروج من المأزق. لكن الاعتقال جرَّ إلى اعتقال، وأخذت المسألة طابعاً آخر.  كان النظام  يريد أن يرهب الناس. وهكذا دخلت محنة  السجن الطويل الذي استمر حوالي خمس سنوات.

»كنت أرى من زنزانتي حفلات السلخ والجلد والتعذيب للقادمين الجدد إلى سجن (المزة)، وكان أكبر فوج دخلها بعد فوجنا فوج الضباط  الأحرار الذي  أعتبره أجرأ تنظيم عسكري سياسي   وجد في سورية.

فكرت السلطة أن تفرج عني على إثر اعتقال الشيخ مروان حديد، كمحاولة لتخفيف حدة  التوتر في حماة، وكنت أكره أن  أخرج من السجن في مثل هذه الظروف. استدعتني إدارة السجن، وطلبت مني أن أكتب  كتاباً إلى (الرئيس) أستعطفه فيه للإفراج عني، فكتبت كتاباً طالبت فيه بالإفراج عني وعن الشيخ مروان وإخوانه، وكلفني ذلك أن أبقى في السجن سنتين وخمسة أشهر أخرى. لم يكن يفوتني ماذا تعني كلمتي، ولكنني لم أكن راغباً في أن  أخرج على جثث إخواني. كان التأليف شغلي  الشاغل في  المهجع الجديد.  واستمر وجودنا  في هذا  المهجع حتى وفاة  الشيخ مروان - رحمه اللّه - في مستشفى  السجن«.

انتصب في فضاء الضباب  فوق المدينة ومن الأرض إلى السماء... شخص رجل عملاق يرتدي  زيّاً عربياً أبيض.  العباءة الفضفاضة. الجلابية الناصعة البياض.  الحطة  المتألقة. العقال  المذهب. اللحية الصهباء. العيون. القبضة المصممة. الثغر  المشرق.

تطلع كل من حامد وعابد إلى بعضهما. لم  يكن سؤالهما: هل ترى  ما أرى؟ إنما كان سؤالهما: أليس هو إياه؟! أليس اللّه بقادر على أن يحيي الموتى؟ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. الشهداء أحياء. الشهداء. الشهداء. الشهداء.

أخيراً وصل الرجلان إلى المكان المواجه لباب الشيخ سعيد. باب خشبي مصفح  بغلاف  معدني رمادي (توتياء)، يرتفع عن الطريق بدرجتين. الجدار الخارجي أبيض،  مصبوغ حديثاً بماء الكلس، توقفا لحظات، تطلعا يميناً ويساراً. بوسعهما  أن يعودا.  بوسعهماأن يتابعا المسير ويتجنبا  الدخول. لكنهما  مصممان.  الدرب خال. لكن من يمنع المفاجآت. من يمنع التفتيش، الاقتحام. إنهما مصممان.  الأوراق في صدر أحدهما بين الرداء والقميص الداخلي.  القلب يدق يضرب ضربات سريعة قوية. برغم الضباب الكثيف، والوحل، والبرد. وبروز الباب الرمادي وسط الجدار  الأبيض، واحتمال التعرض للخطر،  ورغم كل شيء، صغر كل شيء، غاب كل شيء، وبقي شيء واحد، عبارة  واحدة، مكتوبة بحروف حمر في أعماق جمجمتي الرجلين: »نحرر سورية أو لا نحررها«. قد يكونان مغرورين، قد يكونان واهمين،  قد يكونان مغامرين، لكن تلك العبارة في أعماق جمجمتيهما حقيقية. قد تكون حقيقتهما صغيرة تافهة مثل القطة البلقاء  المسحوقة جداً بكعب حديدي، أو سعلة العسكري الجافة،  أو أثر الطلقات النارية في الجدران،  أو المئذنة المقصوفة، لكنها حقيقة تملأ نفسيهما، وتقض مضجعيهما، فتحركا، وعبرا المسافة الخطرة: خطوة، خطوتين، درجة، درجتين، طرقا الباب. انتظرا. انفتح الباب. أطل رجل طويل القامة عريض المنكبين، متهلل الوجه. بل أطل ملك مجنّح يلتفع البياض من رأسه إلى أخمص قدميه. إنه الشيخ سعيد. تعانق الرجال، فتعانق التاريخ والواقع. تعانق الماضي والحاضر والمستقبل. تململت الأوراق المخفية بعناية  تحت ثياب الصدر،  استنارت العبارة المكتوبة في أعماق الجماجم.

بعد دقائق كان حامد وعابد يجلسان إلى مائدة الشيخ  يتناولان طعام الإفطار مع الشيخ عبدالعزيز عيون السود وبعض تلامذته.

»وكان  افطارنا في الصيف: الخبز والفليفلة والطماطم والبقدونس..« عاد الشيخ سعيد إلى شخصه الواقعي  في حسِّ حامد وعابد: رجل يأكل كما يأكل الناس، ويألم ويشقى كما يألم الناس ويشقون، فأين  السحر والأسطورة؟.

                      

* كاتب سوري يعيش في المنفى