ثلاث قصص
ماجد سليمان
(1)
عمري الرمادي..
جسدها المتباهي بحلواه والذي لم يتطهر من آثامه بعد.. لم يمهلني لحظة فقيرة أستعيد فيها قليلا من كبريائي .. لم أنسَ أنها كانت تيمم القلب بأحاديثها الخضراء في يوم يابسٍ من عمري الرمادي وأذكر تماماً حينما قلت لها وأنا أسحب يدي السمراء من دفء يديها الحانيتين:
- مشكلتي أنن أدفع كبريائي ثمناً للمحبة.
ولأنني لست من الذين يعشقون السباحة في يم المحرمات ولا من الدجالين الذين يطرزون الأساطير والأكاذيب على رمل حكاياتهم ورواياتهم المعفرة في طين الوجل والريبة، ولأنني لا أملك قنطار صفة من كل هذا.. لم أرق لها.
لم تكلف نفسها أبداً فتح نوافذ الرحابة لي، لم تحاول البتَّه.. داهمتها بمشاعري الثائرة، حاولت إقناعها بأنني صلب الغرام فأتاني ردها أقسى من الصخر الصلد تأكدت من هذا عندما أغلقت باب المنزل بقوة بعد أن ألحقتني بكلمات لا تقل بذاءة عن سابقاتها:
- لا يدفعك إليَّ إلا شبقك المتوزع في أنحاء نحولك.
لم يكن بإماكاني أن أفيق من كلامها المسكر.. لم اكترث كثيرا لما قالته كما كنت سابقاً وبخطىً متثائبة حملتني أقدامي إلى دكَّةٍ لأحد أصدقائي وأسلمت أجفاني لنعاسٍ ثقيل.
حلمت في تلك الدقائق أنني على أرضٍ تتقيأ الظَلمةَ والحساد، أرضٌ وقف على إحدى تلالها غراب النفاق وبَقَرَ رأس التل ففاضت أعين المنافقين منه.
فتحت عيني على صوت انفتاح عبوة مشروب البيرة حسَّ صديقي أنني صحوت فناولني على الفور قارورة المشروب قائلاً:
- اسكب لنفسك ولي في الأقداح الصغيرة الموضوعة على الرف الذي يليك.
اعتدلت في جلستي.. ساويت غترتي.. أخرجت قدحين من بين الأقداح من مكانها وسحبت القارورة من يده اليمنى ثم تأملت القدح قبل أن أسكب المشروب فيه، كان قدحاً بني اللون تكثر في باطنه علامات القِدَمِ وشقوق من الدرجة الثالثة تنتشر على أطرافه وجوانبه، أرقت بعض المشروب في القدح ثم ناولته إياه:
- خذ.
أشعل سيجارته وراح يمتصها بشراهة حتى أضاء قبس جمرتها من بين الوسطى والسبابة ثم مسح بيده اليسرى على جبينه وأخذ القدح قائلاً:
- شكراً.
(2)
خطبة جمعة..
على منبرٍ خشبي الصنع مطلي بدهان عودي اللون يضيء النور الهابط من سقف المسجد على أضلاعه التي يقف خلفها خطيبٌ هادئ الأسلوب على رأسه شماغٌ شديد الحمرة لا يضع فوقه العقال الأسود الذي تعارف عليه المجتمع.. له لحية مشذبة تشذيباً متوسط الحسن، وقف على المنبر متكئاً على عصاً غليظة لها رأسٌ مدببة لونها أسودٌ قاتم.. رفع يده اليمنى ذات الجلد الأسمر الجاف التي برزت عروق ظهرها، ونقر بسبابتها رأس الميكروفون ثم سَلّم:
- السلام عليكم.
فنهض المؤذن من مكانه واقترب من ميكروفون آخر مقابل لمنبر الخطيب وُضِع خصيصاً للأذان ، لحظات.. وعاد المؤذن إلى مكانه بعد أنهى الأذان وهو يتنحنح بصوت عالٍ متقطع يغالب أثناءه بلغماً علق في حلقه بسبب سوء الأحوال الجوية.
بدأ الخطيب يخطب عن ضياع الشباب وعن التغرير بهم ليرتكبوا الجرائم التي وصفها بالإرهاب، وارتفع صوته، وأخذ يحذّر ويندّد ويرهّب معللا أن الإرهاب خيانة للدين، والوطن، والمجتمع.
وكان من بين المأمومين الجالسين شاب تجاوز الثلاثين خريفاً تخرَّج من الجامعة قبل سبع سنوات.. له شارب محفوف بعض الشيء وزَغَبٌ مُتفرِّق على لحييه الأسحمين..عاطل عن العمل والأمل في آنٍ واحد، زادت حدَّة استماعه لما يقوله الخطيب الذي كان من ضمن خطبته:
- على العلماء والآباء تهيئة النشء من الانزلاق في كهوفٍ الإرهاب.
صوت الخطيب يرتفع حماساً واندفاعاً فنهض الفتى كأن قلبه قد نفذ فيه حديد متلظي بعد أن فجَّ أضلاعه الدقيقة:
- وصحة المواطن، وتعليمه، والبطالة التي التهمت الشباب، والجحيم البشري الذي وئدت فيه أمنياتنا وأمالنا.. لماذا لا تتحدثون عنها؟!.
سكت بعدها ثم بلع ريقه، وأكمل:
- همومنا سيلُ لا ينقطع ودوامة وقفنا عاجزين عن الخروج منها.. تآكل صبرنا، وضمرت عضلات تحملنا، فأصبحنا نسوس شوارع المدينة وأزقتها كالمتسولين العاجزين.. فالظلم يرمي ذيله في كل ناحية وأنت تريد تهيئة النشء وهو في غابات الفراغ وشدة العوز.
حدَّج الخطيب إلى الفتى بعينين جاحظتين كأنهما ستخرجان من جمجمته، فأردف الفتى:
- الإرهاب يا خطيب الزمان مصدره الظلم فنصيحتي استبدل خطبك الفارغة بخطب تحذر الظالمين من ظلمهم.
أطبق الصمت على المكان فقال الخطيب:
- هذا والله اعلم وصلى الله على نبينا محمد.
بعد الصلاة أمضى الشاب جُلَّ وقته متمرِّغاً على رمل الشاطئ يحاول إفراغ وجعه وقنوطه في نعومة هذا الرمل فقد ترك للدنيا مشهداً يراقبه الغسق ويهذي به الغبش.
(3)
كذبة حواء..
في مقهى عائلي كان تقاسيم وجهه تبجل وجهها المطل من خلف طرحتها الشفافة، وكفيه الغليظتين تعبث في خواتمها الساكنة في أصابعها اليسرى.. كانت بوادر التصديق تسطو على وجهه النحيل وهي تعترف له بأن حبه بُذر في تراب قلبها ونبت في أضلاعها، وأن لا ثاني له في حياتها.. وبعد دقائق هربت من رصيد العمر المتبقي.. رَنَّ هاتفها فأجابت المتصل:
- أهلا حبيبي