السير على حدِّ السكين

محمد الحسناوي*

أن تحكم على عدوّ مجاهر بعداوته  أمرٌ يسيرٌ. وأيسر منه أن تقيم علاقة  مع صديق، أنت واثق من صداقته. أمّا المعضلة، أو السير على حدِّ السكين، فهو أن تلتبس الأمور، لدرجة تحسب معها العدو صديقاً، والصديق عدواً، وأنت  في موضع اتخاذ القرار، ولا بُدَّ من  قرار عاجل.

*

كان حامد عبد الواحد على وشك السفر حين طُلِبَ إليه مقابلة سجين، خرج لفوره من بطن الحوت.

إن أي قرار بالإفراج عن (سجين رأي) يتخذه ثعلب، يحمل هذا القرار على الريبة. (كيف تم  الإفراج)؟ (ولماذا)؟.

حاول حامد  الاعتذار عن تنفيذ المهمة. لم يقبل اعتذاره: (إنك تعرفه، وهو يعرفك!). قال حامد بانفعال: (إن الذين يعرفونه ويعرفهم أكثر من واحد غيري، وهم مقيمون في هذا  البلد، وأنا مسافر!) أخيراً قبل حامد المهمة على مضض حامض.

تمَّ ترتيب اللقاء  على شكل وليمة غداء في صيف عام 1984م.

*

في طريق حامد إلى الموعد كانت صورة عبدالباري قصاب واضحة، كأنما لم تمض على فراقهما أربع سنوات.  كان يومذاك فتى في الرابعة عشرة: طالباً في الصف الأول الثانوي. ضئيل الجسم. أبيض البشرة. أسود الشعر. جميل الخلقة. نشيطاً، سريع الحركة. نظراته السريعة تشي بذكاء يفوق عمره. ينطوي على شيء من »الشيطنة والمكر). إذا تأخر عن الدوام  بسبب اللعب  استطاع ابتكار العذر المناسب. إذا طولب بسداد الرسوم المدرسية أو ثمن الكتب تحمل خفقات الهراوة الخشبية على  ظهره أو  كتفيه. هو آخر من يدخل قاعة الصف، وأول من يخرج منها. ربما  كان ذلك من النافذة. وهو من أوائل الناجحين.

هذه السمات يمكن أن  يميزها في عبدالباري كل من يعرفه، أما المدرس والجار حامد فقد فطن إلى ما وراء ذلك من براءة طفليه تسكن  أعماقه، وتطلع إلى عالم القيم يبلغ حدّ الهوس: في الكون أسود وأبيض لا غير. بقية الألوان غير موجودة، أو يجب أن تندرج في خندق الأبيض  أو الأسود، عاجلاً أو آجلاً. هذا التبسيط الشديد، هذا الإصرار  القوي، يحملان على التهيب من صاحب  الموقف، والتسليم له بدرجة من الدرجات. من يظن في نفسه القدرة  على اختبار الناس يحكم  بأن هذا الفتى الملتهب سوف يتجاوز عتبة القطيع بأميال.

*

جاءني به أحد موظفي الإدارة يوماً ممسكاً بأُذنه، طالباً مني التوسط لدى والده الذي يسكن في حيّنا كي يسدّد الرسوم المدرسية الطفيفة. غمزني عبدالباري بنظرة خاطفة. أوحى  إليَّ بأن أتنصل من  هذه المهمة. كيف استطاع أن يتحكم بملامح وجهه الطفلي، ويرسل برقيات رغباته بتقوّس حاجبيه، وتقعر فمه، وتلويحة كفه اليمنى، من غير أن يلحظ الموظف شيئاً!؟.

شكا إليَّ أحد الطلاب من موظف الإدارة. بالمناسبة  موظفو الإدارة عيون المدير. المدير عين للسلطات الخفية. السلطات الخفية عين وذراع لرأس الأخطبوط، أمّا الأخطبوط فله قصة أخرى. (إنه يظلمني. يتعمد الإساءة إليَّ بلا سبب). كانت شكواه علناً وسط قاعة الصف أمام الطلاب جميعاً. كنت محرجاً (كيف أتصرف)؟.

لم  يدع عبدالباري الفرصة تمرّ. نهض على ساقيه القصيرتين متطاولاً. البسمة العريضة تنبسط كفقاعة في وجهه الأبيض. صاح بلا استئذان: (ليست هناك مشكلة يا أستاذ. صندويشة أو ربع ليرة سورية تحل المشكلة!) ضحك الطلاب. وضحكت أنا أيضاً. تخيلت أن كلمات راجفة قليلة كتبت على ورقة صفراء، بدأت تنتقل من يد إلى يد ومن ملف إلى آخر، حيث تنتهي إلى كدسة من الملفات!!.

*

دخل مدرب الفتوة يبلغ طلاب  الصف أمراً. في هيئته وحركاته شيء يثير السخرية قليلاً. حين همَّ بالانصراف ناداه عبدالباري فجأة: (حضرة الملازم لديّ سؤال). كان المدرب موشكاً  على فتح  الباب.

استدار مستجيباً بحذر:  (نعم. ما سؤالك؟) عضلات وجه المدرب متشنجة. فكّاه مضغوطان. عيناه مزررتان صوب الطلاب. قبضة يده مغلقة. قامته مائلة إلى الأمام تحفزاً. صمت عبدالباري. طال صمته فصاح المدرب: (ما سؤالك قل  لي!). توقعنا أنا والطلاب مفاجأة. جوَّ الصف كله  توتر  ينذر بعاصفة. (عفواً حضرة الملازم نسيب  السؤال.)  قال ذلك عبدالباري جادّاً. ضحك الكلاب طبعاً ضحكت أنا أيضاً. صفعة مرنانة على قفاه، وأكثر من صفعة على وجنتيه المحميتين  براحتيه الصغيرتين.

*

افتتح مسجد في المدرسة. (من يُؤذِّن؟) (عبدالباري ذو الصوت الرخيم). الصلاة  في المسجد تكلف صاحبها أعباء: حسم علامات.  تقتير عليه في المساعدة. حرمان من الحظوة والتسهيلات. أمّا من يؤذّن فمجاهرة  بالمنازلة. (أنا مضطهد لأسباب أخرى، فما الجديد في الأمر؟). تهامس المدرسون  بجمال صوته، وحسن أدائه. قال بعضهم: (هل تظنون مخالفاته عبثاً صبيانياً؟) قال آخرون: (وَلَدٌ فلتة).

*

مدرس التربية الإسلامية أبوعمر أحد المعجبين بعبدالباري: ذاكرة طيبة. نشاط متميز. قال له مباسطاً: (ابني عمر زميلك. ما رأيك فيه؟). سكت عبدالباري. أطرافه الأربعة وملامح وجهه كانت تتكلم. جفَّت البسمة على شفتي المدرس. لم يشأ أن يصدق ما يرى: (لم تجبني. أريد منك أن تبادله المحبة والتعاون. إنه يحبك. ويعجب بك!). ببساطة متناهية استقرت أطراف عبدالباري وأسارير وجهه، كأنه انتهى إلى قرار كان يتلجلج في صدره، ويداري في التصريح به. قال: (ماذا أصنع إذا كان ولدك كذاباً؟).

*

- أنت يا عبدالباري مظلوم. ليس الذي ألقى بك في السجن هو الذي ظلمك، لأنه ألقى بالكثيرين في السجون وأنت واحد منهم. الذين ظلموك هم أهلك. هم إخوانك!

- كيف يظلمني أهلي  وإخواني؟ هذا كلام شيطان. هذا كلام الجدران الأربعة المغلقة عليَّ. الظلام والعزلة.

- لا تستطيع  يا عبدالباري أن تنكر أن أباك قد  تزوج على أمك بغير ضرورة. رزق من أمك البنين والبنات. أمك التي عاشت معه أيام الكدح والغربة، فماذا فعلت له حتى يجلب لها ضرّة. إن أباك بعد أن اعتقل شهوراً وأفرج عنه ترك البلاد وهاجر.  تركك  أنت وأمك  وإخوتك الصغار. ولم يترك زوجته الشابة.

-  لا تستغل ذلك  يا شيطان. إن أبي خرج مكرهاً لينجو بنفسه وبعقيدته بعد أن  استشهد أخي نادر. واعتقل صهري عبدالصبور.

- ها. ها. هذا أخوك الذي يكبرك بسنة  لماذا قتل؟ لماذا آثر العمل الحرَّ وترك الدراسة قبل موته؟ أليس هرباً من حياة القلة، ومن الخلافات العائلية بين الضرتين، وتحيز أبيك ضدّكم؟.

- خسئت  يا وسواس يا خناس! أخي نادر أتقى واحد فينا،  وأكثرنا إيثاراً وتضحية. آثر العمل الحرَّ على الدراسة ليسهم  في نفقات الأسرة الكبيرة. قاتل  ضد الظلم طائعاً مختارا، وهو صائم في شهر رمضان. ألا تذكر خدمته لإخوانه المجاهدين   قبل المعركة وخلالها. وحتى الرمق الأخير؟!.

- صهرك لماذا ترك البلاد؟ أخوك عامر لماذا ترك البلاد؟ من يبقى لمقاومة الظلم وإنقاذ الناس؟ أنت؟!  من أنت.. يا حشرة! ها؟!.

-  أنت  يا وسواس حريص  على مقاومة الظلم، وإنقاذ البلاد، أم على استغلال وحدتي وآلامي؟ للمرة الألف قلت لك: لن تضحك عليَّ، ولن تجد ثغرة لديَّ. ماذا صنعت  أنا حتى أسجن أربع سنوات؟ ألا  يدل ذلك على  ظلم فادح، وعلى خوف من آلاف المظلومين والأبرياء مثلي؟

- أربع سنوات مضت. لم  تتابع الدراسة.  لم تعمل عملاً حرّاً. أمثالك درسوا وجمعوا مالاً. وبنوا بيوتاً، وتزوجوا، فماذا تنتظر؟ انظر إلى زملائك (هزار) و(رفيق) والآخرين. المطلوب منك أن تتبرأ من أهلك وإخوانك. إنهم خذلوك، فاخذلهم، كما خذلوك.

- ماذا يستطيع أهلي  وإخواني الآن أن يصنعوا لي. ألم يحكم عليهم بالإعلام؟ لو استطاعوا لأنقذوا أنفسهم، وأنقذوا  شعبهم!

- إذا كانوا لا يستطيعون شيئا، لا يستطيعون حماية أنفسهم،  فكيف يتصدون للدفاع عن الناس؟ ولماذا تصرّ أنت على حسن  الظن بهم، وعلى انتظارهم؟ سوف يطول انتظارك يا عبدالباري. انتظر. انتظر. انـ.. ـت.. ـظر.. أربع سنوات انتظار ذهبت هباء.. بين الجدران. حشرة صغيرة تحت الأقدام. ثم ماذا؟!.

*

لما دخل  حامد إلى مكان  اللقاء كان عبدالباري وصاحب البيت بانتظاره. غرفة صغيرة، تتصل مباشرة بردهة المنزل المتواضع عبر بابها »الجرّار« العريض الذي يشكل جدارها الأمامي. في صدرها نافذة غربية وحيدة، بدأت أشعة الشمس تتسلل منها. نسمات مبتردة لطيفة كانت ترفرف من سماء زرقاء واسعة وممتدة. تلقى عبدالباري بالأحضان. لم يختلف عليه كثيراً. حفنة من الشعرات السود أخصبت في وجهه  وشاربه. بضعة  سنتيمترات في طوله، ولم يزل قصيراً، ضئيلاً. شحوب واضح في محياه. رائحة دخان لم يكن يعهدها فيه من قبل: (ماذا  هل صار يدخن؟!). ابتسم  لعبدالباري. ارتعشت شفتا عبدالباري كذلك. تبادلا السوآل عن الصحة والسفر والطقس. والأهل. كانت  هناك محطة عند الحديث عن مجاهد ابن حامد، وهو  زميل عبدالباري في المدرسة وفي الحارة وفي أمور  كثيرة، مثل تبادل الرسائل السرية بين الوالدين... في مائدة الطعام شيء من الاحتفاء: دجاجتان مشويتان. أرز. لبن. فواكه: تين. عنب. (ها هوذا عبدالباري. حضوره أقوى من  تخيله  وتذكُّره.

إنه الآن واقع حاضر، وماض مستعاد بأن واحد. لكن ماذا في مستقبله؟ هذه مهمة اللقاء. في الجو حضور متراكم بآ الذكريات والآلام  والآمال والترقب والحذر. فتى غض مرَّ تحت ظل المقصلة.  تلبَّث تحتها أربع سنوات، ثم غادرها. ها هوذا هنا، جسماً وروحاً. ضعيفة هي الدراسات الإنسانية. ضعيف هو علم النفس. هل يفلح الاستبطان هنا؟ هل يجدي التحليل النفسي والاستقراء والاستدراج والمفاجأة والإحراج أو التعبئة والاستثارة  والتحفيز؟! سيظل الإنسان أكبر من الأحكام المسبقة، ومن  القوانين الحتمية. طفل برئ أُخضِعَ  بلا سبب  للاضطهاد، كما اضطهد أهله وإخوانه وأبناء شعبه. المحصلة تقول: إنه بطبيعته الصافية، المحبة للمثل العليا، بصلابته الفطرية، وتربيته البيتية، والجو العام.. سوف يبقى هو  هو  رغم تعرضه للصهر والكبس والتطبيع. لكن ما الضمان؟ ما البرهان؟ لعل شيئاً أو  أشياء طرأت فيه؟ أو في  الظروف المؤثرة عليه؟.. فلنرَ!).

- نجوتَ من القوم الظالمين.

قطع  حامد نأملاته وقال مخاطباً عبدالباري، مذكراً بعبارة النبي شعيب للنبي موسى، لما خرج من مصر إلى منطقة (مدين) خائفاً.

يبدو أن عبدالباري لم  يفاجأ. قال بهدوء.

- ما  نجوتُ منهم.

- لا. لا. بل نجوت. أنت الآن بين أهلك وإخوانك!

قال حامد مندهشاً (أهي وطأة  السجن والمطاردة تحمله على هذا الشعور، وإلى هذا الحدّ من السيطرة عليه؟ كم تغيَّر هذا الإنسان؟!).

- أؤكد لكم أنهم موجودون في كل مكان.

عبَّر عن ذلك بحركة يده المنقبضة، وتصميم عينيه الثابتتين. صدر ما يشبه حزمة من  الشرر  الثاقب من بؤبؤ عينيه، وهو ينحني  قليلاً بجذعه إلى الأمام. ثم أخذ يفرك راحتيه.

تعمدحامد إشاعة  البهجة والاطمئنان. قال:

- طيب لو كان الأمر كما تقول، كيف نستطيع أن نلتقي بك، ونحن محكوم علينا  بالإعدام؟!.

على الرغم من مباشرة السؤال وحراجته تماسك عبدالباري، وانتقل إلى خطّ دفاعي:

- أقصد،  على الأقل، أنهم يعرفون أخباركم وأسراركم كلها، كلها..

(لا بُدَّ من رفع معنوياته) فكرّ حامد، وقال:

- هم يقولون ذلك، ويشيعونه، وأنت أذكى من أن تنطلي عليك حيلهم وحربهم النفسية.

تصلبت  ملامح عبدالباري أكثر. ارتفع صوته قليلاً:

- صدِّقوني. أنا أقول الحقيقة. لا مبالغة. أنا كنت  هناك اطلعت على كل شيء. انتهى كل شيء!.

العبارة الأخيرة نطق بها بلهجة قاتمة يائسة، مشيحاً بوجهه.

-  أنت  قادم من  عالم آخر. سوف تتضح لك الأمور أكثر حين تعيش هنا مع  إخوانك تحت ضوء الشمس، وفي رحابة الهواء الطلق، والحركة الحرة...

انعطف الحديث  إلى الطقس  والأسعار  والأخبار...

- هل يمكنني أن أتصل هاتفياً بهم. طلبوا مني  ذلك؟!

- ألم نقل لك: نجوتُ من القوم الظالمين. لا تهتم  بهم!

- أريد  تضليلهم. هل أستطيع أن أقابل الأستاذ أبانوفل؟

(لماذا  الاتصال بهم؟. ما علاقة  الاتصال بهم بمقابلة أبي نوفل. ليست صلته بأبي نوفل أقوى من صلته بي أو بأبي أحمد. لماذا يختار مقابلته. ألأنه كان مثله معتقلاً، وجاء من هناك؟) تعاون حامد وصاحب البيت على تغيير مجرى الحديث. عودة أخرى إلى الطقس والطعام والقواعد الصحية والمنام وآخر الأخبار.

- هل يمكن أن تبلغوا الأستاذ أبا نوفل أنني حضرت، وأرغب بمقابلته.

- أبونوفل مسافر.

- سمعت اليوم أنه هنا!

- كان هنا. لكنه مسافر. نحن معظمنا في سفر دائم.

في الحقيقة إن سؤال عبدالباري عن  أبي نوفل وإصراره على مقابلته، التقى مع محاولته الاتصال هاتفياً بـ (هناك)،  مع زعمه بأنهم موجودون في كل مكان. (والتدخين هل هو أمر عرضي؟).

*

سافر حامد إلى مقر عمله. لما عاد بلغه أن عبدالباري يثير المتاعب: تغيب عن البيت. تشاجر مع إخوانه سكان البيت. تمرد على المسؤولين.

في عودة أخرى  بلغه أنه حاول الرجوع إلى (هناك)، فأعيد من على (الحدود). في المرة الثالثة بلغه أنه هرب عن طريق (قبرص)، وعاد إلى (هناك)، وألحق ضرراً ببعض الأبرياء.

(ما  السبب؟) تساءل حامد. (هل عاد إلى هناك لتضليلهم  والانتقام منهم وحيداً؟! هذا أمر غريب! الأغرب من  ذلك أن ينتقل نهائياً من خندقنا إلى خندقهم. هل يفعلها؟!).

            

* أديب سوري يعيش في المنفى