وجبة شهية

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

كنت أود البقاء في مرصد سرية المدفعية على " تل الضهور " فهو مكان مميز.. تتألق فيه الروح الشاعرية على الرغم من أن المكان غير شاعري ، والعمل ميداني .

فنحن في هضبة الجولان عام ثلاثة وسبعين وتسع مئة وألف للميلاد في حرب رمضان على خط المواجهة مع يهود ... بيننا وبينهم سهل طوله عشرة أميال وعرضه ستة ، تحيط به من الشرق تلول يربض عليه جيشنا ، ومن الغرب " تل وردة " و" تل شيخة " وغيرهما يحتلها يهود ، وإلى اليمين منا " جبل الشيخ " الوقور وعليه مرصد العدو الشهير الذي احتله بواسلنا في بداية المعركة .

هذا السهل وإن كثرت فيه التحصينات من الطرفين المتعاديين - وبين مشاة الجيشين كيلو متر واحد- فسلبته بعض جماله إلا أنه يجلو البصر ببعض خضرته وألوانه الطبيعية المتناسقة وامتداده الواسع .

كنا في هدوء بُعَيْد العصر، سبقه رعود المدافع وبريق القذائف ، نراقب الموقف عن كثب ونقدم التقارير الشفوية أولاً بأول . فلا ينبغي أن تغمض عين أو تتوانى همّة ، فعمر الإنسان هنا يقاس بالدقائق والثواني ، وقد تندلع نار المعركة في أية لحظة ...

-ما رأيك ياملازم عثمان ! هل تكلف أحدهم بالمراقبة فنلعب جولتي شطرنج ؟

-لا أرغب في هذا ، لوددت أن ألعب لعبة الأحلام ، فمنذ أن تنفس الصبح ودلّت الشمس أراني على هذه الحال ، لم يذق طرفي لذة الكرى .

  وما إن ذكرت النوم حتى بدأ جفناي يتثاقلان .

- عبد َ الله راقب الوضع .. سأخلد إلى النوم دقائق ... لا تقلق راحتي إلا حين يكون الهدف دسماً

- حاضر سيدي .

  استلقيت على السرير الحديدي فأنّ ، لا من ثقل ، فقد كنت جلداً على وضم ، ولكنه عاصر – على ما يبدو – إرم ذات العماد . فهو يئن على ذكراها كلما استلقى عليه راغب في الراحة... ومن عادتي إذا ناداني أحد وأنا مستلقٍ عليه أن أهز نفسي ، فيصدر قعقعة وصلصلة تفهم المنادي بأفصح لسان أنني لست نائماً...

- صاح الجندي : هدف رائع أستحق عليه جائزة بعد المعركة .

- أو عقوبة ،إن شاء الله .

- أسرع ياسيدي .. أرجوك ...

  وقمت سريعاً، فقد كنت أتوقع أن أظفر بصيد ... ولكنه صيد فاق التصور حقاً ... أمسكت المنظار جيداً وأمعنت في النظر ، فرأيت على " تل وردة " جمعاً من الضباط من بني عمومتنا ، تلمع النجوم الكثيفة على أكتافهم .

- هم سبعة ياسيدي .

- بل ثمانية أو تسعة يا عبد الله .

- إنهما مجموعتان مع كل منهما خارطة .

- إنهم يشيرون إلى أماكننا،  ثم يثبتون أشياء عليهما .

- ماذا يريدون ياسيدي؟ .

- لا شيء سوى إرسال الهدايا ... أليس كذلك ؟!

- ماذا ستفعل ياسيدي ؟

- ليسوا بأكرم منا ... هدايانا جاهزة ...

  وأمسكت بخارطتي ... وبسرعة " متأنية " ثبّت بقلم الرصاص مكان وقوفهم .. وأصدرت أوامري إلى مربض السرية بالاستعداد ... وهم مستعدون ، طعامهم على مدافعهم ، ونومهم قرب الذخيرة ...

  حددت المسافة والزاوية ، وسألت الله تعالى أن لا يخيّبني .. وأصدرت أوامري :

- سدّدْ على المسافة كذا والزاوية كذا .

- المدفع القائد .. نار ..

  وانطلقت القذيفة نحوهم .... يارب : أنت اليد التي نبطش بها ، والعين التي نرى بها ، سدِّد الرميَ وأصب الهدف.

  خفق القلب سريعا بنبضات متلاحقة ، فالقذيفة بينهم ... ما عدت أرى لهم وجوداً .... الخارطتان تطيران في الهواء مزقا .

- سريّة .. صلية واحدة ... نار ..

  ودكّ المكانَ نفسَه اثنتا عشرة قذيفة .

   " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى "  ...

  ظللت أرقب المكان أكثر من ساعة ونصف الساعة حتى غربت الشمس دون أن أرى فيه حركة ..

  وجاء المساء .. قال عبد الله :

- الإفطار جاهز يا سيدي .

- أنا لست جائعاً ، فقد كانت وجبة الليلة ساخنة شهية  ....

وبعد شهور سمعت من إذاعة العدو تقييماً لحرب رمضان .. كان المذيع يقول : كان لمدفعية اللواء " الثامن والستين" السوري تأثير كبير في المعركة .

  ذرفت عيناي الدموع ، ورأيتني أرفع كفيّ إلى السماء  :

اللهم ’ اجعل هذا في ميزان حسناتي