سوزي تكتب وصيّتها

فاطمة أديب الصالح

فاطمة أديب الصالح

    أطلق الصباح عصافيره السعيدة فانطلقت بأغنيات جديدة تذكر  الإنسان أن الكون بديع، وبسط الصباح رداءه على التربة والعشب والشجر والثمر، فاختفى الظلام الذي كان يحجب عنا منظر العطاء الجميل.

    وقفت سوزي أمام المرآة.. أحكمت الغطاء المكون من قطعتين على رأسها، غطت شعرها تماماً.. حملت كتب المدرسة ودفاترها، ركبت سيارتها، وانطلقت بجذل وحبور لا تعرف غيرهما، اخترقت شوارع المدينة الهادئة التي تشق غابة من الصنوبر والسنديان..

ألقت نظرة على النهر تحت الجسر ككل يوم في طريقها نحو المدرسة المقامة بين الأشجار، أوقفت سيارتها في الموقف المخصص للمعلمات والمعلمين.. انطلقت بخفة ابنة العشرين ليستقبلها الصغار بتهليل ومرح: سيستر سوزي..

    داعبتهم.. انضمت إليهم، تحركت وكأنها لا تلمس الأرض، نشرت، كدأبها كل يوم، أريج بهجة وسعادة شهد بها كل من عرفها.

    كانت تدرّس موادّ الصف الأول كلها مع اللغة العربية، لأنها قضت بضع سنوات في السعودية ردتها إلى لغتها الأم، فأتقنتها نطقاً وفهماً أكثر من غيرها من لداتها العرب الذين نشؤوا في أمريكا، ولايزورون بلادهم إلا نادراً.

نقلت بصرها في عيون الصغار، ستفتقدهم.. لقد اتفقت مع الإدارة على الغياب فترة الامتحانات الجامعية.. يعتبرونها فتاة نشيطة وماهرة، تدرس وتدرّس وتشترك في كل النشاطات التي تقيمها الجالية المسلمة في هذه المدينة  من فلوريدا، يحبها الصغار والآباء والأمهات.. يسعدهم نشاطها وهمتها العالية ونجاحها في عملها.. زميلاتها  يحببنها ويعطفن عليها كأخت أو ابنة، فكلهن زوجات أو أمهات يعملن في المدرسة التي أنشأها المسلمون، واستطاعت الوصول إلى حالة من الاستقرار وجودة الأداء بعد أربع سنوات من العمل الشاق الذي تلا التأسيس.

   كانت سوزي منذ طفولتها لا تنقطع عن دروس الأحد في العربية والقرآن الكريم، وهاهي الآن معلمة متحمسة لتعليم أبناء العرب والمسلمين.

   اليوم ستوزع جوائز على الذين فازوا في مسابقة القراءة، رافق توزيع الجوائز صيحات فرح وسرور.. خرجت سوزي من الصف وأطلت على صف أختها ميساء وقالت مازحة: لن تريني بعد اليوم.

   استقلت سيارتها وانطلقت، إن من عادتها ألا تخلع حجابها قبل الوصول إلى البيت كما تفعل غيرها من غير المعلمات اللواتي ألزمهن نظام المدرسة بالحجاب.. كما أنها تضعه من البيت لا أمام باب المدرسة.

     هنا إشارة(قف)

     القانون يقضي أن تتوقف توقفاً تاماً.. لكنها لا تريد أن تفعل، يجب أن تسرع، ستمر على البيت ثم تتوجه إلى الجامعة.

    والداها عادا للإقامة في السعودية، أخوها في الجامعة، لا تحب المكوث في البيت وحدها، ستنطلق فوراً إلى الجامعة.

    سوزي مسرعة ولا تريد ولا تستطيع التوقف، وشاحنة ضخمة تقبل عن يمينها، وجدت نفسها تتمتم: لا إله إلا الله ..يا لطيف يا الله..إني لأسأل عن الموت وعذاب القبر ويوم القيامة منذ أسبوعين، لماذا؟ لست أدري..

    شريط حياتها القصير مر بسرعة مذهلة أمام ناظريها: أمريكا، فلسطين، القدس، السعودية، أمريكا، المسجد، المسلمون، عذاب القبر، أهوال القيامة، الحجاب.. تأخرت تأخرت.. إني أحبه.. لا أعترض على فرضه علي في المدرسة.. ظننت أني صغيرة..والأيام قادمة وسألتزم الحجاب، لكني كتبت وصيتي.. الحمد لله، كتبتها فهذه هي السنة كما قال الشيخ( أسلم) قبل أسبوعين، لقد أرشدني إلى كثير من أحكام الدين التي تشغلني..

    لم يكن ثمة وقت لأي منهما.. الشاحنة تجرف سيارتها لصغيرة، تقذفها وتتجاوزها، تستقر السيارة، بعد ما يشبه التحليق، على جنبها فوق مساحة خضراء تساير الشارع.

    كان منظر السيارة مريعاً، مفزعاً.. توقف بعضهم، وصلت الشرطة.. مرت ميساء مرتين ذهاباً وإياباً فقد خرجت لشأن مدرسي .. لم تتعرف السيارة ولم تعن بذلك، قالت لنفسها مسكين صاحب هذه السيارة لا بد أنه مات.

ومرت ساجدة إحدى الصديقات.. فاستغربت تجمع الناس غير المألوف، وأفزعها ذلك التفاوت بين حجمي السيارتين المتصادمتين.

    وصل الخبر المدرسة وبيوت المسلمين ومسجديهم في المدينة، وقع كصاعقة مرعبة مذهلة: سوزي؟سوزان؟

    غسلت سوزي نهى المصرية ذات الحجاب السابغ وخديجة الأمريكية الأفريقية.

    أذهل المسلمين عدد المشيعين لجنازتها، إنه اليوم يقارب الأربعمئة شخص.. ولم يكن يجاوز في الغالب عشرة أشخاص، كيف علموا، كيف اجتمعوا؟ لا جواب محددا.

    دفنت سوزي في مقبرة اشتراها المسلمون منذ أعوام قليلة.. وصل أبواها بعد الدفن، وجدا في وصيتها أنها تتمنى أن تدفن عند المسجد الأقصى، بكتها مديرة المدرسة والمعلمات والطالبات والآباء والأمهات والأطفال..كلهم قالوا: كأنها كانت تتوقع، لقد كثر حديثها عن الموت في الفترة الأخيرة، وقالت أنها لا تخافه فهي تتوقع هناك حياة أجمل.. المديرة الشابة قالت: جاءتني سوزي من مدة وقالت: لا تظني أبداً أني متضايقة من الحجاب، أنا أحبه..وأرجو أن ألتزم به يوماً.

    دفنت سوزي المسلمة الفلسطينية الامريكية في أمريكا، تحت الظلال التي تحب الجميع.

    كانت تتمنى أن تدفن في القدس التي أحبتها كثيراً.. كما قالت بعد آخر زيارة حرص والدها أن يقوموا بها لفلسطين.