العائد
م. زياد صيدم
انطلقوا صوب الحدود ليلا، ينتظرون هدفا تم رصده سابقا ؟.. لم يأتي في ميعاده !، توشك الشمس على الشروق، قرر قائد المجموعة المكونة من ثلاثة أفراد، العودة إلى قواعدهم وإنهاء الكمين لهذه الليلة...
عبد الله كان أصغرهم.. سبعة عشر ربيعا ونيف.. في طريق عودتهم كانت طائرة الاستطلاع بدون طيار قد حددت موقعهم ... فجأة ينقلب الكمين إلى مصيدة، ينهمر عليهم من الجو والبر شهب من حديد ملتهب يسرق البصر، و أزيز رصاص ثقيل يُسمع من بعيد، يقترب سريعا، بدأت تتساقط أوراق الأشجار من حولهم، رمال وأحجار تتطاير في كل مكان، انفجارات ودخان خانق يشل حركتهم ويخنق أنفاسهم.. يسقط احدهم شهيدا، يُجرح الآخران وتشل حركة أطرافهم بتأثير غاز الأعصاب والذي عبق المكان من حولهم .. تعذر الاتصال بالقاعدة لتشويش أحدثته طائرات الاحتلال، فانقطعت أخبارهم تماما، ولم يعرف شيئا عن مصيرهم ... ثواني قليلة حتى انقضت عليهم طائرة أباتشي، فتجعلهم في دائرة اشتباك غير محسوبة ولم تكن حتما متكافئة، يفشل الكمين، ويتعذر الانسحاب من حلقة الجحيم... يتم إلقاء القبض على عبد الله ورفيقه و دمائهم لا زالت نازفة ...
لاحقا تزف كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح لجماهير شعبها استشهاد احد مقاتليها والذي سيشيع جثمانه الطاهر بعد صلاة العصر، وبأسر مقاتلين أثناء تأدية مهامهما الجهادية في ظروف معقدة، محملة قوات الاحتلال مسئولية حياتهما.. وإنها حياة نصر أو استشهاد، كانت نهاية البيان العسكري ...
مرت ست سنوات على موعد طال انتظاره .. وفى هذا المساء يتجمهر الجيران والأصدقاء أمام منزله، كانت والدته وأسرته قد لازموا البوابة الخارجية ترقب خبر وصوله على أحر من الجمر، عيونهم شاخصة صوب العربات القادمة، إنها لم تره منذ زمن بعيد، فقد مرت ثلاث سنوات متتالية على آخر زيارة لها قبل أن يعاقب الاحتلال الأهالي بمنع الزيارات لأبنائهم المعتقلين...
تصل العربة التي أقلته مع والده وبعض الأصدقاء من معبر بيت حانون، والفاصل بين غزة وفلسطين التاريخية، وما أن وصلت قرب مسكنهم، كانت أيادي والدته وبقية أسرته تمتد إلى باب العربة فتتخطفه بكل لهفة الانتظار والاشتياق، يعانقانه بدموع الفرح والزغاريد، انه الخارج من دائرة الموت المحقق، والعائد من المجهول!، رقص الجميع طربا على أهازيج الدبكة واليرغول، ملوحين بأعلام فلسطين عالية خفاقة، بدأت طوابير من المهنئين تتوافد لتبارك لوالديه وأسرته فرحتهم بعودة ابنهم عبد الله، وفى الجانب الآخر كانت ثلة كبيرة تتحولق من حوله، ترفعه على الأكتاف وتطوف به.. رأيته مبتسما، كان يستنشق هواء الحرية، فرحا بوالديه وأسرته وأصدقائه وجيرانه، لكن حنينه ما يزال هناك، حيث رفاق الدرب الطويل اللذين لا يزالون خلف القضبان.. كان يشعر بحريته منقوصة همس لكثيرين من حوله!.. كنت أرقبه جيدا لقد بدا لي شابا، لا، بل كان رجلا وجب تقديره واحترامه، ذكرني بسنوات شبابي الأول !.. فاحتضنته وطبعت على خديه قبلاتي، وهمست بأذنه بضع كلمات !!.
إلى اللقاء.
* * إهداء إلى الأسير المحرر عبد الله سعيفان .