وداعاً للشيطنة
في إجازة الصيف كثيرون من الأطفال يجرون في الحارات، يمرحون بصور شتى، وصراخهم يعلو في كل مكان، يتخاصمون، ويتصالحون، يجرحون سكون الأزقة بطيشهم، وجريهم، قد يصلون إلى شاطئ البحر، يلقون بأنفسهم فيه، يسبحون، يتراشقون بالماء، يلتقطون المحار والأسماك الصغيرة من القيعان بين الصخور، قد يغرق أحدهم، ويلقيه الموج عند رمال الشاطئ،... تسرق الدهشة مرحهم، يفزعون... طفولة يتصارع فيها اللهو، والصخب، والرعب.
كنت كغيري أجري من البيت، ولكن لأصعد درجات المسجد، مسجد عمنا الشيخ عبد الله المجذوب..
آه.. عندما أدخل عالم الذكريات ينتابني بكاء، لا أدري هل لحنين، أم لألم الفراق؟
كنت أقفز فوق درجات المسجد بخطواتي، أقيس أبعادها بعيني... من ورائي البحر، تدفعني نسماته الرطبة، تملأ صدري بانتعاشة رقيقة، ثم لأكون مع مجموعة من الأطفال داخل أروقة، بعضها للفتيات، وأخرى للصبيان، نتلقى فيها القراءة، وترتيل آيات من القرآن.
كم مرة تملكني إحساس بالقبض على الريح حين تدخل الرواق من الشباك المطل على البحر، وتبعثر أوراقي!
قد نخطف لحظة انشغال عمنا الشيخ عبد الله بسبحته، فنختلس غفلته، ونصعد سلم المئذنة الضيق الدائري، تتسرب إليه أنوار من طاقات جانبية، يمسك بعضنا بتلابيب بعض، حتى إذا وصلنا إلى شرفة المئذنة، وصفعنا هواء البحر، وضعنا أكفنا حول آذاننا، وقلدنا المؤذن بالنداء في غير وقت الأذان بانتشاء وسرور.
ما أجمل تلك اللحظات ونحن نتأمل البلدة من هذا الارتفاع الشاهق، وهي ممتدة أمام أبصارنا، شارعها ملتف حولها، وأزقتها الرمادية ملتوية بين البيوت، وغاباتها منحدرة على سفوح الجبال، وصفحة البحر تجرحها السفن، وعند الأفق تقبع جزيرة أرواد بوقار منذ الأزل، كما هذا المسجد الرابض في مكانه منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب أيام الفتوحات الإسلامية.. هكذا كان يحكي لنا عمنا الشيخ، مسجد بناء القائد الفاتح أبو عبيدة ابن الجراح.
ياه!... ما أبعد الأزمان، وما أرسخ الأشياء، وما أعمق الذكرى!!
ويعكر صفو المتعة ونحن ندور في بشرفة المئذنة.. أصوات تتعالى من المسجد متوعدة، تأمرنا بالنزول... نهبط، يلحق بعضنا بعضاً في السلم الدائري الضيق، مستعينين بأكفنا الصغيرة وهي تضغط على أسطح الجدران خشية التدحرج والسقوط.
زمن لا أنساه أبداً.
وحديقة المسجد التي كانت تحظى بالرعاية في زرع الأشجار، والأزهار لم تبرأ من عبثنا نحن الأطفال.. نهبط إليها، لنقطف من ثمرها، نعض بعضها، ثم نلقيه بلا مبالاة.
في صباح يوم بهيج، كنت أرتل آيات القرآن، وصوتي يعلو، وأنا أتباهى بحسن ترتيلي، أو هكذا توهمت، لفت انتباهي نظرات عمي الشيخ، كنت أحدس أنه يغرز عينيه في وجهي من بعيد، وأنا أحدق في القرآن بين يدي، ثم.. أحسست به يلصق بصره بجسدي، يتفحصني، حرصت على عدم الالتفات، أو رفع نظري عما بيدي، انتابني هلع إضافة إلى الاضطراب، ثم رأيته يشير بإصبعه، وبحدة يناديني:
- تعالي إلى هنا.
لبيت النداء، وكان في كرسيه المرتفع، مسنداً مرفقيه على جانبيه.. نظر إليّ من فوق نظارته التي تدلت إلى أرنبة أنفه... ثبت نظراته في وجهي.. مررها على جسدي مرات عديدة، أصلحت من لباسي، لمست شعري، قد يكون غير مرتب، فرددته خلف أذني.
بقي عمي صامتاً، ولكن عينيه كانتا تتكلمان، دفنت نظراتي الجفولة في الأرض، بدهشة تساءلت:
لمَ ينظر إليَّ بهذا الشكل، وكأنه يراني لأول مرة؟
ماذا يريد بنظراته المتفحصة هذه؟
نظرت إلى قامته النحيلة، ولحيته الطويلة برعدة مهيبة.
ثم ألقى إليَّ بكلمات موجزة:
- لا أراك هاهنا بعد اليوم، هلمي إلى البيت، أسمعت ما أقول؟
- نعم يا عمي الشيخ، سمعت، سمعت.
جريت، حرصت على عدم الالتفاف إلى الوراء، ولكن مشاعري كانت تحثني إلى الهرولة نحو الرواق.
شعرت باضطراب قسري، سكنتني هواجس فكرية، وضيق، وأحسست أنني مجبرة على المغادرة وفقاً، لإرادة عمي الشيخ، وشاع القلق بشدة في نفسي، فاندفعت بغير سرور، والصور تتخايل في ذهني، وتندفع غريبة، ومتطفلة، وأخذت تسيطر عليَّ رغم شعوري بسخافتها، فأحاول التخلص منها ولكن دون جدوى. ثم سيطرت علي فكرة الخوف على شيء عزيز على نفسي كلما لامس خيالي الرواق المحبب لديّ، وشباكه المطل على شاطئ البحر، ومويجاته تدغدغ سمعي، يسري بها النسيم ملاطفاً.
تتابعت الأسئلة في خاطري:
لماذا أمرني عمي الشيخ من بين صويحباتي بمغادرة المسجد، وعدم العودة إليه؟
لماذا يقسو علي ولم أبلغ الثانية عشرة؟
صدمني طلبه السافر... ظلت نظراته ترمقني بطرف خفي وأنا أجري.. تملكني إحساس قوي بالقبض على الريح وهي تصفعني، تذكرت حقيبتي ودفاتري التي تركتها في الرواق.. ساورني إحساس بالعناد ومخالفة أمره، وأنا أتساءل بحيرة:
ما الذنب الذي اقترفته حتى أطرد بهذا الشكل المذل؟
اختنق الصراخ المستغيث في حلقي.. شعرت بحاجتي إلى أمي، إلى حنانها والبكاء على صدرها، أصبت باكتئاب من جراء هذه الصدمة، قفزت في سنوات عمري إلى مستوى جدتي العجوز.
شككت بنفسي بشكل ملح، وانتابتني المخاوف، وشعرت بأنني أصبحت مهملة، بإلحاح تساءلت:
هل أخطأت بالترتيل؟
هل تصرفت بشكل مخل للأدب وأنا أرفع صوتي؟.. ربما.. آه.. ليتني لم أصعد إلى شرفة المئذنة!.
ليتني لم أعبث بثمر الحديقة!.
هل يحدث عمي الشيخ أبي عن أشياء صدرت مني وسلوك مشين؟
أثارتني مشاعر القلق، بكيت، مسحت دمعاتي بكفي، تدلت خصلات من شعري على وجهي، تبللت، غبشت الدموع عيني، توقفت قليلاً، نازعتني مشاعري بين الرجوع إلى الرواق، والخروج من المسجد... ثقلت خطواتي وأنا أتجه نحو السلم، ثم... فوجئت بمنظر روعني، نظرت إليه بعينين مفتحتين، وقلب يرتعد.
رأيت أخي مستلقياً فوق الأرض، وساقاه مقيدتان بعصا طويلة، يمسك بها شابان قويان، وآخر يضرب باطن قدميه بقسوة، وصراخ أخي يعلو بألم.
علمت، إنها الفلقة التي اعتادوا أن يؤدبوا بها المشاكس من الصبيان، خالجني شعور بالفزع والهلع، وقلت في نفسي:
لو خالفت عمي لفعلوا بي كما يفعل بأخي حسان الآن.
جريت، وسياط من الرعب تلاحقني، لا أدري هل قفزت فوق درجات السلم واحدة واحدة، أم اثنتين اثنتين؟.. وبسرعة مدهشة، خلال لحظات يسيرة كنت في البيت.
في ركن الحديقة انزويت، اقتربت قطتي مني تتمسح بي، وهي تهر وتموء، وترمش بعينيها، وتقوس ظهرها، كأنها تسألني:
ماذا جرى لك حدثيني؟
أتألم لحالك يا صديقتي.
دسست أصابعي في شعرها، سرى حنان إلى جسدي، أدفأني، قلت:
أنا حزينة جداً يا عزيزتي.
لم أحس بالنحلات وهي تتطاير حولي بجنون، تنطلق من فوهات الجرار في الحديقة، تهفهف بأجنحتها القصيرة، ولها أزيز، ولم أحس ببعضها وهي تقف على ساعدي برقة دون أن تؤذيني بلسعها، بعجب تساءلت:
هل تعاضدت مع قطتي تواسيني؟
هل تدري بحالي؟
بكيت.. لماذا؟
هل لحرماني من أحب مكان إلى نفسي، أم لمواساة القطة والنحلات؟
وهل أحست هذه المخلوقات بمشاعري الحزينة؟
مضت ساعة، ساعتان، لا أدري كم مضى علي من الوقت، وأنا أتذكر كلمات عمي الشيخ، لم يزل صداها يؤز في أذني، ونظراته لم تزل تلسعني بقسوة، ولم يزل منظر الفلقة لقدمي أخي يجرح عيني، ثم شعرت بحاجتي إلى الاسترخاء، فجسمي يرتجف، ورأسي يدور.
انتابني نعاس، التصقت بي قطتي، دسست أناملي في شعرها، شعرت بالأمان، تدلى رأسي فوق كتفي، فغفوت، كم استغرقت غفوتي؟ لست أدري.
لم أصحُ إلا على لمسات حانية على رأسي من كف أبي، وبيده قماش وردي، وهو يناديني بحب غامر:
انهضي يا ابنتي.
استيقظت مفزوعة، وأنا في ركني الساكن الكئيب، وبدوت أشبه بريح عاصفة، وفي داخلي غضب. ظللت لحظة فاغرة أمامه، عاتبت نظراته الجذلى ارتباكي، بهدوء قال:
- لا شيء يثير القلق يا ابنتي، قفي أمامي.
تفحصني بنظراته، لامست بطرف خفي صدري، تنبهت إلى مراده، لامست بكفي صدري، وافترَّ ثغري عن ابتسامة خائفة.
الآن فقط علمت سبب إبعادي عن المسجد، اقترب مني، لفّ رأسي بالغطاء الوردي، وفي ابتسامة عذبة قال:
- نحن يا ابنتي في بلدة لها تقاليدها المستمدة من شريعتنا، ولها سمعة أخلاقية، ونشكر عمنا الشيخ عبد الله على حسن انتباهه، وكل ما تحتاجين إليه، توجيه جديد، وإدراك أشد وضوحاً لأهداف الشريعة، والوقت قد حان لمثل ذلك.
سمعت ضحكات أمي تتناثر هنا وهناك، وبروح الفكاهة نفسها لمحت بأن الوسيلة الوحيدة هي الانضمام إلى جماعة الشابات.
تابع أبي قوله:
- إن ما فعله العم الشيخ يبدو وسيلة جيدة لاستبعاد الأكبر سناً من الفتيات إلى جماعة الشابات.
قالت أختي هيفاء:
- طريقة عمنا الشيخ تشير إلى أهمية الشباب، يبدو ذلك باهتمامه الكبير بأطفال البلدة.
بادرت قائلة:
- تركت في الرواق حقيبتي ودفاتري.
تعالت ضحكة أمي، وبجدية قالت:
- لا تقلقي، سنحضرها لك.
ابتسمت وأنا أتخيل نفسي في القسم المخصص للشابات في المسجد، وطرت بجناحين مهفهفين من شباكه المطل على الحديقة، وفي نفس اللحظة حزنت على فراق الريح التي كانت تداعبنا من شباك الرواق، تدغدغ أسماعنا بأزيز الموج، وتعبث بأوراقنا، وتبعثرها في كل اتجاه.
همست أمي:
- إن ذلك غير ذي أهمية، ما يهم هو أنني سأنتقل من مرحلة إلى أخرى أكثر جدية، فقد حان الوقت لمثل ذلك، سنحب بعضنا بعضاً، ويحتاج بعضنا إلى الآخر.
فهمت، إن عرض الواقع هذا من قبل أمي في نظرها، كان عرضاً صادقاً ومؤثراً.
همس أبي:
- عندما يكون الجذع متيناً، فالأغصان لا بد أن تينع.
علت ضحكة أمي ومن ورائها هيفاء، وظهرت بعض إشارات الاستحسان. ثم قال أبي:
- بارك الله لعمنا الشيخ عبد الله.
استسلمت لهذا المصير الجديد بحب وطواعية، ابتسمت، زغردت الفرحة في صدري، فضحكت، وأنا ألقي برأسي فوق صدر أبي... ثم بصوت مشحون بالغيرة والحب قال:
- لن تحرمي من المسجد أبداً.
وسوم: العدد 799