النذر
النَذر
فاطمة أديب الصالح
فكّا المقص يقتربان من الشعر المنذور للأمل والانتظار، والمخالب التي بلون النبيذ تقترب لتطبق على الضفيرة الجميلة التي استلقت في ثوان أمام المرايا والفراشي والأمشاط واللفافات.. انعكست صورتها على كل الجدران المحيطة بنا، وتابعت الأعجمية عملها: مدام ستكون رائعة بالشعر القصير..
أفهمها رغم الخليط المحزن من الإنجليزية والعربية..
ربما سرت قشعريرة من قمة رأسي إلى باطن قدمي المتثلجتين، عابرة كل خلاياي، وأنا أتابع صورة ابنتي في الجدار المرآة.. ربما انهارت القلعة الزجاجية التي كانت تحتضن قلبي، بعد أن تشعبت كسورها وتشعبت، لتصبح أنقاضاً يتسلل الدم من خلالها دافئاً متلذذاً، بعد أن عمل عمراً مع القلب الأمين المنتفض دوماً.
إنها كما هي، رقيقة أكثر مما أحتمل، أنيقة الملامح، ترتجف شفتاها الرقيقتان لأبسط سبب، وكانتا لا تكادان تبينان قبل أن يفقد الخدان امتلاء الطفولة المحبب، يبدو لي محياها الجانبي أجمل وأكثر كبرياء، التفتت إلي وقد انكشف ظهرها النحيل الذي خلا فجأة من الشعر العزيز: أنت قلت إنه يناسبني.. تذكري .
استرجعت حواراتنا الحزينة التي تمتد سنوات:
- بعد عودته بيوم واحد سأقصه. وتهدد بسبابتها الطفلة.. لقد تركته من أجله ..
- هذه مكابرة، شعرك جميل، ولا أحد يؤيدك في قصه، سيكون شيئاً مؤلماً جداً.
- لكني أتمنى أن أغيّر، أكثر البنات شعرهن قصير.
أكثر البنات شعرهن قصير، لكن ابنتي تنتظر أن يعود أبوها من السجن ليرى شعرها طويلاً.
قلت لها مراراً أن أباها يحب الشعر الطويل، فلنطل شعرك من أجله.
تحول الرأس الصغير إلى نذر غير مقصود استمر أربعة عشر عاماً، وكلما كبرت يكتسب الحوار عمقاً: ينبغي أن يعرف أنا كنا نفكر فيه طوال الوقت.. اتركي شعرك طويلاً.
ولما تطايرت أنباء عن عفو عن السجناء المسمَّين سياسيين، صدقنا كما لم نصدق شائعة قبل.. زلزلت الأخبار ركود حياتنا وأنهكت دماءنا وأبكت ضربات قلوبنا. أحيت الأرق واللهفة والحلم..
ثم تطامنت الأخبار..
سكنت كعاصفة محملة ببرق خُلَّب، وتطايرت أنباء أحدث وأهدأ: ليس عفواً عاماً..
قارنا أحواله بمن خرجوا فقلنا سيعود..
ليعد كهلاً حزيناً محملاً بعذابات الجسد وطمأنينة الروح، ليعد.. فنحن بانتظاره ونريد أن يرى كم طال شعر الابنة، وأن يقرأ أوراقنا المنظرة، وأن يسمع أخبارنا القديمة.
لكنه لم يعد..
بكت ابنتي وصمتت.. وناقشت وصمتت، شحبت واغبرّ لونها، ثم أعلنت أنها ستقص شعرها، وأنها حرة برأسها تفعل به ما تشاء.
تسللت إلى غرفتها قبيل الفجر، كانت تعانق مع صورة أبيها، ضفيرتها، وتغط في نوم رائق..
تذكرت كيف أنها خلال زيارتنا الوحيدة له، التي أُذن لنا بها بعد أربع عشرة سنة من سجنه، والتي دامت ربع ساعة .. قالت بمرح وهي تشير إلى رأسها المغطى: ماما قالت أنك تحب الشعر الطويل، وأنا أطيله من أجلك..
أجابها وهو يتأمل ابنة العامين التي كان لها خدان سمينان يخفيان شفتيها، والتي تركها تنتظر عودته في الشرفة الصغيرة المطلة على طريق إيابه.. أجابها بصوت خفيض مستكين لا يمتّ إلى عالمنا بصلة: يا حبيبتي!