أشجار دائمة التحديق

أشجار دائمة التحديق

قصة : نعيم الغول

تستحوذ على عينيه من خلف زجاج الحافلة جذوع منتصبة لأشجار السرو على الطريق إلى الهيئة العليا لتطوير العلوم.يراقب خضرتها ويشعر بشيء من الانتشاء . يدهشه شموخ يعرف أن عمره أطول من الكائنات من حوله. يختلس نظرة حوله ليرى الدهشة في عيون الآخرين. يسترجعها بسرعة  حين تنقل إليه صور النائمين والمحدقين أمامهم في الفراغ الذي تحده جدران  حافلة  تمشي في طريق مرسوم بائس.

    يقفز بحيوية ونشاط أمام الهيئة. يلاحظ بدهشة أكبر أن  أشجار السرو تتكاثف هنا، وتحيط بالمكان كأنها تعزله عما حوله، أو كأنها تعزل ما حوله عنه.

    يدلف إلى المبنى ويده تشد على دفتره .يقترب بمحبة من الاستقبال. يبتسم للموظف. يقابله  هذا بجمود موظف سرق زميل له ترقيته التي ينتظرها بصبر منذ سنين. يسأله عن قسم عرض المخترعات الجديدة. يشير بيده دون أن ينظر إليه:" الطابق الرابع ، الغرفة الثانية ، إلى اليسار".

    يتحسس ظهره عند الدرجة الأربعين . يتوقف ليلتقط أنفاسه. يستعيد ابتسامته التي سرقها موظف الاستقبال كما سرقت منه ترقيته. وينسى أن  باب المصعد حمل يافطة " معطل" .

    يطرق الباب المفتوح برقة وخفوت.يعاجله صوت من الداخل مبحوح  :

    "أ دخل"

    يقف أمام طاولة صاحب الصوت المبحوح. تدهشه أناقة الرجل . يبدو انه يستعد للذهاب لحفل ما.من بين الأوراق يرفع حاجبيه. وجهه يبدو سعيدا بكل شيء . سعيدا بقدومه إليه . كم يحب المديرين ذوي السمت البشوش .

يشير الرجل  الى الكرسي المقابل بمودة.

    يجلس ويواجه صاحب الصوت المبحوح. تطالعه اللافتة الخشبية الصغيرة على المكتب  بوظيفة الرجل" مدير استقبال البحوث والاختراعات والاكتشافات الجديدة".

    يبتسم  الرجل له.يعطيه من عينيه ما يحثه على الكلام. يسترخي  هو   في مقعده قليلا ثم يفتح دفتره.

-       " الموضوع يا سيدي أنني وضعت نظرية جديدة في تفسير ظاهرة الظلام. أريد أن  أخدم الوطن بأن .."

يقاطعه  المدير والابتسامة  لا تزال على شفتيه:" الظلام؟"

    -" نعم ، الظلام. يعتقد الناس أن الظلام موجود فقط لان الضوء غير موجود. وانه لا جرم له . وان الضوء هو الذي له جرم ويقاس الخ. "

    -" مدهش.وأنت بم تفسره؟"

   -" الظلام هو أشعة سوداء تنتشر في الكون على الأرض وفي كل مكان . وقد استطعت أن أقيسه بمعادلات رياضية."

    -" هل عرضت تفسيرك على أحد؟

-       "عرضته على دكاترة  كلية الفيزياء حيث أدرس."

-          ماذا قالوا؟

-          "  نصحوني بمراجعة الهيئة."

    تتسع الابتسامة على شفتي المدير. يسأله:

    -" كيف أنت والرياضة؟"

    يرد بدهشة:

    " تقصد الرياضيات؟ أنا الأول دائما في الرياضيات"

    -" لا يا بني.  اقصد ممارسة الرياضة. هناك ألعاب كثيرة.أنصحك بأن تبحث عن لعبة غير هذه."

سار بجانب الأشجار مطاطئ الرأس . أحس بها ثلة من حرس الشرف  تصطف لاستقباله رغم هزيمته.  توقف فجأة . نصب جذعه . رفع رأسه ، وحدق في كل شيء طويلا ، وعانق أطولها وهو يقول :" هذا الوطن لنا، وليس لهم."