روحها لن تبرح المكان

عصام أبو فرحه

[email protected]

بعد نيفٍ من منتصف الليل كان يقف في برج المراقبة وحيداً , ليلٌ لا يشق سكونه  إلا عرير الصراصير وعواء بنات آوى المنتشرة في الحرش المقابل , ولا يحد قليلاً من سواده  إلا أضواء انطلقت من مصابيح كهربائية ,  فبدت رغم قوتها ضعيفة عاجزة عن مواجهة كتلة الظلام الدامس التي لفت المكان , تمايلت الأشجار المحيطة فكانت تحجب أضواء المصابيح تارةً وتخلي سبيلها تارة أخرى , حتى غرق المكان بأمواج سوداء تلاطمت في كل اتجاه .

كان يقف وحيداً ينظر إلى اللون الأسود الذي أحاط بكل شيء , فسرعان ما يرتد إليه البصر حاملاً معه الكثير من الوحشة والرهبة التي تنساب في جسده ,  فترتعش أطرافه وتصطك أسنانه ويتصبب عرقه , يشيح ببصره عن الظلام ,  وينظر إلى أضواء المصابيح , فتبدو أخيلة  الأشجار كأشباح تسبح في فضاء المكان , وترتسم أمام ناظريه صور البعوض والحشرات التي تهاجم المصابيح فيخالها أرواحاً شريرةً تريد إطفاء المصابيح ليكتمل الظلام .   

يشعل سيجارة ويشد من قبضة يده على بندقيته ويحدث نفسه لعل الخوف يغادره :

- ما بك ترتعد ؟ لا غرابة في كل ما تراه , ظلام وأشجار ورياح وأصوات حشرات وذئاب , هل في ذلك ما يخيف ؟؟ لم أعرف الخوف عمري , ولم ترتعد أطرافي لأي أمر كان , عشرة سنوات في الخدمة العسكرية , خدمت في البر والبحر والغابات والصحاري , لم يتسلل الخوف إلى نفسي كما يتسلل الآن , فماذا دهاني ؟ أتراها تلك الكلمات السخيفة التي أسمعني إياها ذلك الجندي الأحمق الأبله ؟

حاول عبثاً أن يبعد عن تفكيره ذلك الحديث الذي سمعه من أحد الجنود , تظاهر أمام نفسه بانشغاله ببندقيته وسيجارته , لكن الكلمات كانت أشد من أن ينشغل عنها ,

فقد وصل في الصباح لاستلام عمله في هذا الحاجز العسكري الذي يقطع الطريق بين نابلس وجنين , رافقه حينها أحد الجنود في جولة يتعرف من خلالها على مرافق الحاجز , وليتعرف أيضاً على أحدث ما توصلت إليه الإنسانية من طرق التنكيل والتعذيب والإذلال , ولدى مرورهما من جانب برج المراقبة الشرقي , همس مرافقه في أذنه قائلاً :

- شقي وابن شقي هو الذي يأخذ دور الحراسة ليلاً في هذا البرج اللعين .

- ولم هذا البرج دون سواه ؟؟

- قبل شهر أو أكثر بقليل , وصلت إلى الحاجز سيارة فلسطينية تتقدم مجموعة كبيرة من السيارات , وكنا قد أغلقنا الحاجز , تقدمت السيارة الأولى وتوقفت في المكان المحدد للوقوف , حينها ترجل منها شاب فلسطيني يلبس بدلة سوداء ويحمل باقة من الزهور , عرفنا من لباسه وباقة زهوره وأصوات الغناء التي تصدر من السيارات الخلفية بأنه عريس في يوم زفافه , جاء طالباً السماح لهم المرور , كان يتكلم إلى الجندي الواقف في هذا البرج , يرفع باقة الزهور بإحدى يديه ويشير بيده الأخرى إلى عروسه التي تلبس ثوباً أبيض ولا تزال تجلس داخل السيارة , حينها طلب الجندي من الشاب العودة وعدم الكلام , ويبدو أن الشاب لم يكن يفهم العبرية , فأعاد الطلب مرة أخرى فما كان من الجندي إلا أن أطلق النار على قدميه , فتحت العروس باب السيارة وانطلقت نحو الشاب بسرعة البرق , تبكي وتصرخ وتستغيث , وقبل أن تصل إليه عاجلها الجندي بزخة من طلقات نارية مزقت جسدها ,

- الأمر طبيعي , أعتقد أن الجندي قد خشي تهورها ,  فأرداها قتيلة , لا وجه للغرابة , فلماذا تنعت من يحرس البرج ليلاً بالشقي وابن الشقي ؟؟

- دعني أكمل لك ولا تتعجل , بعد ثلاثة ليالٍ من الحادثة , وبينما كان صاحبنا يقوم بالحراسة في ذات البرج , سمعنا صراخه واستغاثاته , هرعنا جميعاً إليه , فوجدناه في حالة هستيرية شديدة , شعر رأسه منفوش , وجهه شاحب , يتكلم بكلمات غريبة , فهمنا من خلالها أن الفتاة القتيلة كانت تحلق فوق البرج بثوبها الأبيض وطرحتها البيضاء , وقال أنها كانت تحمل باقة ورود في يدها , وبدأت برمي الورود باتجاهه , فما أن تسقط الوردة حتى تشتعل النيران في مكان سقوطها , حسبنا حينها أنه كان يحلم , ولكن في الصباح ازدادت حالته سوءً , وبقي يردد نفس الكلمات , حملوه إلى جهة غير معلومة , حيث يقول البعض أنه موجود في مصحة للأمراض النفسية .

- هذا هراء , تقول أن الرصاص مزق جسدها , فكيف تعود ؟

- لا أدري , ولكن بعض الجنود شاهدوها  في ليالٍ أخرى تحلق قرب البرج , بعضهم كان ينزل من البرج ولا يعود إلا بمرافق , وبعضهم كان يفر من البرج مذعوراً ويرفض العودة , أنا شخصياً لم أرها , إنما أسمع تلك الأحاديث من الجنود .

عاد ذلك الجندي من أفكاره وشروده , لا زال بصره يتنقل بين الظلام وبين المصابيح , ولا زال عرير الصراصير وعواء بنات آوي يدويان في أذنيه , ولا زالت أطرافه ترتعش , ولا زال حديث ذلك الجندي عن الفتاة يحوم حوله , عاد وأمسك بسلاحه بكل قوة , حملق وجال ببصره في كل الإتجاهات , كأنما أيقن أن ظهور الفتاة بثوبها الأبيض حقيقة واقعة لا محالة , دار مرات ومرات ومرات , توقف عن الدوران حول نفسه , فاستمر كل ما يحيط به بالدوران من حوله , في تلك المتاهة التي تدور وتدور ظهرت أمامه بثوبها الأبيض وطرحتها البيضاء , تقف على سطح البناية التي تقابله , ينظر إليها فيسطع لون ثوبها الأبيض في عينيه فيغمضهما , ينظر من جديد فتبدو له أكثر وضوحاً , طويلة ممتلئة ترفع رأسها بشموخ , تنظر إليه بحقد , تقترب منه ثم تعود لتقف في مكانها فوق بناية المطبخ , حاول الصراخ فابتلع الخوف صوته , حاول أن يتوجه إليها بالحديث فكانت الحروف تموت على شفتيه وترتد إلى حلقه فتخنقه , انتظر لعله يسمع منها كلاماً يهدأ من روعه , فظلت على صمتها  , استجمع قواه وحمل بندقيته , صوبها إلى صدرها وانهال عليها بزخة من الرصاص , بقيت واقفة في مكانها بقوة وصلابة , رفع بندقيته من جديد وصوبها إلى رأسها , وفتح نيرانه  , فزاد شموخها وأطلقت ضحكات دوت كرعود هزت الأرض والسماء , ضغط بإصبعه على زناد بندقيته من جديد فلم تطاوعه , لم يدر إن كانت أصابعه قد فقدت قواها أم أن رصاصه قد نفذ , حينها بدأت الفتاة بالاقتراب منه رويداً رويداً , تنظر إليه بحقد , وقبل وصولها إليه كان قد وقع على أرض البرج جثة هامدة .

صوت الرصاص أفزع الجميع , فقاموا يتخبطون , بعضهم أنزل الجثة وبدأ بمعاينتها , وبعضهم فتح النيران العشوائية في كل الإتجاهات , وبعضهم راح يمشط المنطقة بالكشافات والكلاب البوليسية , أدركهم الصبح وهم على حالهم , حينها دهش الجميع من منظر خزان مياه أبيض اللون يتوضع فوق بناية المطبخ , وقد سالت منه المياه نتيجة ثقوب عديدة أحدثتها طلقات نارية ,

في تلك الأثناء اختفت روح الفتاة , وجميعهم يعلم أنها ستعود عند حلول الظلام  لتفتك بأحدهم ,

وجميعهم يعلم أن روحها لم ولن تبرح المكان ,  ولكن هي فقط من يعلم في أية هيئة ستعود في الليلة المقبلة . 

( انتهت )