عودة بعد محنة

عبد الرحمن الحياني

عودة بعد محنة

بقلم: عبد الرحمن الحياني

إنه يحتضر ، إنه في النزع الأخير ، لقد مرت قرابة الشهر على دخوله في غيبوبته تامة ، من بعد أن أصيب بالشلل التام ، فحالته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم ، لم يعد فيه شيء يتحرك إلا ذلك النفس الصاعد والنازل في صدره ، والذي تحول إلى حشرجة ، وأي حشرجة ! إنها تثير الهلع في النفوس ، همس الطبيب في أذن والده ، بعد أن انزويا قليلاً في ركن من غرفة العناية المركزة ، يا أبا محسن لا حاجة لتضييع الوقت والمال ، ومن الأفضل أن تنقله إلى البيت ، ليودعه الأهل والأصحاب ، وعزاؤك أنك بذلت أقصى ما في مقدورك لعلاجه ، فقد عرضته في هذه الفترة على أفضل الأطباء في العالم ـ بريطانيا وأمريكا ــ وهنا في البلد الذي في إمكانيات  طبية لا يستهان بها ، وهنا تسمر الوالد في مكانه  لبعض الوقت ، وراح يسترجع خطوات العلاج من يوم بدأ المرض يدب في أوصال ابنه أواب ، ذاك الفتى العشريني الذي كان لحياته ضجيجاً خاصاً ، فقد كان من الشباب الذين لا هم لهم إلا ركوب السيارات  الفارهة ، المزودة  بأجهزة التسجيل ذات السماعات الضخمة الصاخبة ( الأمبلي فاير) ، أجل لقد كانت هوايته سماع الأغاني القديمة ، التي يطلقون عليها اسم الأغاني ( الكلاسيكية) ، ولا غرابة بعد ذلك من أن تجده يصرف جل وقته في البحث عنها في  محلات التسجيل ، إنه على استعداد لدفع المبالغ الباهظة للحصول على شريط أو أسطوانة ، سجل عليها بعض تلك الأغاني ،أو الحصول على صورة لهذا المطرب أو ذاك ، وستأخذك الدهشة كل مأخذ إذا تسنى لك دخول غرفته الخاصة ، فجدرانها  ليس فيها موضع إصبع للمزيد من صور الفنانين والفنانات ، الأحياء منهم والأموات، بل إن ذلك دفعه لتشكيل شلة لها الاهتمامات  نفسها ، فكان أعضاؤها يتبادلون تلك الأغاني والصور، ويبذلون في سبيل الحصول عليها الغالي والنفيس ، أجل لم يكن يهمه سوى تأمين تلك الأشرطة والأسطوانات ، والاستماع إليها في كل ساعة من ليل أو نهار ، وكثيراً ما كان يبدي امتعاضه من نصح والديه له بالإقلاع عن  تلك العادة الذميمة ، التي تغضب الله ورسوله ، وتبعث في الحي والشوارع التي يسلكها بسيارته الضجيج المزعج ، إنه لم يكن يراعى شعور الآخرين من المرضى والأطفال والمسنين ، والذين يتأذون من الصوت المرتفع المنبعث من مكبرات الصوت في سيارته ، بل إنه كان ينكر على المتدينين تعصبهم في عدم سماع  مثل هذه الأغاني  التي تبعث الدفء في الحنايا ، وتنعش الروح بموسيقاها ـ على حد تعبيره ـ بل ويتمادى في رأيه لأكثر من ذلك ، إلى حد اتهام أولئك النفر المتدينين بفقدان الذائقة السليمة ويقول : إنهم لا يعرفون من الدنيا سوى البيت والعمل والمسجد ، وقراءة القرآن وشرب العصائر والشاي ، أما هو وأمثاله فيعيشون في هذه الحياة منعمين بما أفاض عليهم الله من نعمة المال ، فهم يتنقلون من مطعم إلى مطعم ، ومن حديقة إلى حديقة ، ومن سوق إلى سوق ، يقضون أوقاتهم في عب الملذات ـ وإن كانت محرمة ـ غير آبهين أو ملتفتين إلى تأدية واجبهم نحو ربهم من صلاة وغيرها ، ولكن هل تستمر الحياة على منوال واحد ؟! لا ، وألف لا ، لقد بدأت صحة أواب في الآونة الأخيرة تتدهور يوماً بعد يوم ، وخاصة بعد ذلك الموقف الذي حدث مع بعض أبناء الحي من المتدينين ، الذين كانوا يقدمون النصح لأواب وزملائه ، لثنيهم عما هم فيه ، وإرجاعهم إلى جادة الصواب ، وبيان أن الإنسان لم يخلق إلا لمهمة واحدة لا غير ، ألا وهي عبادة الله سبحانه وتعالى ، وعلى المرء أن يقدم لآخرته كل ما يستطيع من أعمال صالحة يلقى بها ربه ، ولا ينسى بعد ذلك نصيبه مما أنعم الله عليه في هذه الحياة الدنيا من نعم حلال ، وما أكثرها ، ولكن هيهات هل نفعت الذكرى لأولئك النفر الطائش ، الذين راحوا يستهزئون بشباب الحي ، وكانت الطامة الكبرى عندما تبنى أواب موقفاً معادياً لأولئك النفر ، فقد كان يحاول النيل منهم بتكذيبهم حيناً ، ووصفهم بالتخلف حيناً آخر ، وها هو يقوم بتحطيم شريط لأحد الدعاة المشهورين ، بمجرد أن أهداه إياه أحد أبناء الحي ، قائلاً : يكفيكم خرافات ودجل ، إنكم تدّعون أن شفاء الأمراض المستعصية ، يمكن أن يكون بالقرآن والأحاديث النبوية ، ما دخل هذا في العلاج ؟ إن العلاج يكون بالأدوية التي ابتكرها العلماء الأفذاذ في مجال الطب والصيدلة ، لا بتلاوة القرآن على المرضى ، أيها الدراويش، يكفي دجلاً وخزعبلات، إن العالم يتقدم في جميع مناحي الحياة ، انظروا إلى المخترعات الحديثة ، لقد وصل الناس إلى القمر ، أما أنتم فتبقون متخلفين ، عليكم أن تكسروا هذه القوقعة التي وضعتم أنفسكم فيها ، لتروا العالم من حولكم ، أجل عليكم أن تكسروها كما قمت الآن أمامكم بكسر هذا الشريط ، دعونا منكم ومن ألاعيبكم ، ودعوا الطب جانباً ،  واهتموا بأنفسكم ، ومن يومها بدأت حالة أواب الصحية في التدهور ، لقد فقد الشهية للطعام ، وبدأ الشحوب يتسلل إلى وجهه ، والنحول إلى جسمه ، والذبول راح يطمس ملامح النضارة في وجهه ، مما دفعه للزوم غرفته الكائنة في الطابق العلوي من المنزل ،تلك التي كان يقضي فيها أوقاته منفرداً أو بصحبة أصدقائه ، بعيداً عن والدته ، التي كانت مشغولة بترتيب أمور البيت ، والعناية بإخوته الصغار ، وعندها اضطرت والدته إلى مرافقته إلى الطبيب ، لغياب والده عن البيت بسبب أعماله التجارية ، فقد كان من أثرياء البلد ، ولا يكاد يقيم يوماً أو بعض يوم حتى يتوجه بعدها لعقد صفقة تجارية في هذا البلد من العالم أو ذاك ، لقد قامت والدته باصطحابه صبيحة ذلك اليوم ، الذي فوجئت فيه بأن أواباً لم يعد قادراً على الوقوف على رجليه إلا بمساعدة أحد أفراد العائلة ، قام الطبيب على الفور بفحص أواب ، وراح يسأله : بم تشعر الآن يا أواب ؟ متى بدأت تحس بالدوار في رأسك ؟ هل تناولت أدوية قبل الآن ؟ متى بدأت تفقد الشهية لتناول الطعام ، كان من الواجب عليك ألا تتأخر عن الحضور إلى العيادة كل هذه المدة ، إن حالتك تبعث على القلق ، لم لم تأت قبل الآن للمراجعة ؟ كل هذه الأسئلة وغيرها انهال بها الطبيب على أواب ، وهو لا يكاد يحير جواباً ، إنه خائر القوى ، منهك الجسم ، ثم بادر الطبيب قائلاً : أنت تحتاج إلى تحويل إلى المستشفى لتلقي العلاج هناك ، فأنت بحاجة إلى بعض المغذيات على الفور، وإلى إجراء الفحوصات الدقيقة ، للوقوف على تفاصيل حالتك الصحية ، ثم قام الطبيب بكتابة إحالة إلى المستشفى التخصصي ، وطلب من والدته مراجعة المستشفى بالسرعة الممكنة ، وإخبار والده بضرورة الحضور لمتابعة حالته عن قرب ، فهو بحاجة ماسة للمتابعة ، فقد تتطور حالته بصورة سريعة ، ووقتها لا ينفع الندم ، قالها الطبيب معتذراً عن صراحته الزائدة ، فالأمر جد خطير ، ولا ينفع معه التلميح أو المداراة ، أجل نزل الخبر نزول الصاعقة على الأم ، فرغم قلقها على ولدها ، لكنها لم تتوقع أن تكون حالة ابنها تستدعي التحويل إلى المستشفى التخصصي ، واستدعاء والده من السفر على جناح السرعة ، ليتابع هو بنفسه حالته التي ربما تتطور إلى الأسوأ ، وبالفعل بادرت إلى نقل ولدها إلى المستشفى التخصصي ، وعملت على الاتصال بوالده الذي بادر إلى الحضور ـ بعد تأجيل الكثير من أعماله ـ لقد عاد مضطراً لمتابعة تطورات حالة ولده المرضية ، فقد أدخل أواب المستشفى ، وحجزت له غرفة فيها الكثير من الأجهزة المتطورة ، كجهاز تخطيط القلب ، وجهاز تخطيط الدماغ  ، وجهاز التنفس الاصطناعي ، أجهزة تصدر أصواتاً لها دلالتها ، إنها تعد نبضات القلب ، وأخرى لها مؤشرات ترسم النبضات، وكمامة الأكسجين لا تفتر عن إصدار صوت يشبه صوت تسرب الغاز ، لقد وصل الوالد مضطراً بعد خمس عشرة ساعة من الاتصال به ، وفوجئ بوجود ولده  في تلك الغرفة ، والأجهزة موصولة بأنحاء جسمه ، منها ما هو موصول في ذراعه ، ومنها ما هو معلق  بأنحاء رأسه  ، ومنها ما هو موصول بأصبعه السبابة ، ومنها ما هو موصول بوريده  ، إنه سائل التغدية ، الذي راح الأطباء يضيفون إليه بعض الأدوية لتأخذ طريقها إلى جسمه عبر الوريد ، حاول الوالد السلام على ولده المريض دون جدوى لقد وجده نائماً ، ولكن الأطباء نصحوه بعدم إحداث أي ضجيج ، وأخبروه أنهم زرقوه بإبرة مخدر ، ليرتاح قليلاً مما يعاني من آلام عمت جميع أنحاء جسمه ، وبعد وقت قصير صارحوه بأن حالة ولده غير مستقرة ، وتستدعي نقله إلى الخارج ، لتلقي العلاج  ، لأن الفحوصات التي أجروها له ، تنم عن وجود عدة أمراض في جسمه ، في الغدد الصماء ، وفي الدم ، وإن أي تأخير في نقله سيكون له الآثار السيئة على صحته ، وأعلموه بأنهم قد أعدوا له تقريراً بحالته، وحجزوا له في أحد المستشفيات التخصصية  بأمريكا ، وما عليه إلا ترتيب نفسه ومن سيرافقه استعداداً للسفر في اليوم التالي ، وبدأت رحلة العلاج التي استمرت قرابة الشهرين ونيف ، فبعد أن يئس الوالد من علاج ولده في أمريكا طيلة شهر كامل لم يترك فيها الأطباء جهداً إلا بذلوه ولكن دون جدوى ، فالحالة الصحية لأواب تزداد سوءاً وتدهوراً لقد أصيب بالشلل ، وفقد بصره ، وكذا فقد القدرة على الكلام ، انتقل به إلى بريطانيا ، ظناً منه أنه ربما وجد العلاج لابنه هناك ، ولكن الأطباء عجزوا عن تقديم أي شيء سوى سيل من المسكنات التي جعلته ينام معظم ساعات الليل والنهار ، لأنه إذا ما صحا فسيكون طعماً للآلام المبرحة ، أجل إلى هذا الحد تردت حالته الصحية ، ولا غرابة بعد ذلك من أن يقدم الأطباء نصيحة لوالده بأن يعيده إلى بلده ، ليموت هناك ، فأيامه في هذه الحياة أصبحت معدودة ، وربما لا تزيد عن أسبوع أو أسبوعين على أكثر تقدير ، وبالفعل أعاد الوالد ولده المريض إلى بلده ، إلى المستشفى التخصصي الذي بدأ منه رحلة العلاج ، وها هو الآن في النزع الأخير، إنه في سريره ، يعالج سكرات الموت ، فجسمه لم يعد يستجيب لأية أدوية تعطى له ، ولذلك قام الأطباء بالاستغناء عن تشغيل بعض الأجهزة التي كانت موصولة بجسمه ، وهذا مؤشر على اقتراب حكمهم عليه بأنه اقترب من مرحلة الموت السريري ، فلا غرابة بعد ذلك من أن يطلب أحد الأطباء من والده أن ينقله إلى البيت ، ليودعه إخوته وأقاربه ، فلم يعد بالإمكان تقديم أي شيء له ، وسيقوم المستشفى بإرسال إحدى الممرضات للإشراف على المغذي الموصول بذراعه ، ومتابعة قياس نبضه وتنفسه ، وهنا انتفض الوالد من مكانه ، وكأنه أفاق من سبات عميق ، أو ذهول سيطر على كيانه لفترة طويلة ، وتذكر ما نصحه به صديقه خالد في صبيحة ذلك اليوم بعد أن خرجا للتو من صلاة الفجر في مسجد الحي ، إذ قال له ناصحاً :  يا أبا محسن لقد طرقت أبواب الأطباء والمستشفيات ، ولكنك نسيت أن تطرق باب من خلق الداء والدواء ، يا أبا محسن ، عليك بالدعاء لله تعالى ، وقراءة القرآن الكريم والأحاديث المأثورة في طلب الشفاء ، يا أبا محسن بادر إلى علاج ولدك بالقرآن الكريم ، كلام الله ففيه الشفاء ، أجل لقد عادت إلى ذاكرته تلك النصيحة التي أسداها إليه صديقه خالد، فعقد العزم على ذلك ولم لا ؟  فأبواب رب العباد مفتوحة لكل من يقف بها ، فالله سبحانه وتعالى لا يرد سائلا وقف ببابه ، وعلى الفور بادر إلى نقل ولده إلى البيت واستدعى أحد المعالجين بالقرآن ، ممن يشهد لهم بالتقوى والصلاح ، الذي قدر الله على يده شفاء الكثير من الحالات المستعصية ،  فبادر بدوره إلى وضع خطة  لبدء العلاج على فترات معينة من الليل والنهار ، وكانت المفاجأة ! ففي اليوم التالي لنقل أواب إلى البيت ، بدأ يتململ في سريره ويحرك رأسه ، وهذا ما لم يقم به منذ شهر تقريباً ، لك الحمد  يا الله ، هكذا قال الوالد عندما رأى ولده يتحرك تلك الحركة البسيطة في سريره ، بل راح يناديه باسمه لعله يجيبه ، أي بني أنا أبوك أتسمعي ؟  إن كنت تسمعني فأرجو أن تحرك رأسك نحو اليمين ؟ أي بني أتسمعني ؟ أجبني يا بني ، وتحققت المعجزة فبعد مضي قرابة الأسبوعين على العلاج راح  أواب  يفتح عينيه ويجيلهما بمن حوله، وبدأت إحدى يديه تتحرك تلك التي كانت مشلولة شللاً تاماً ، وتستمر رحلة العلاج  بالقرآن ، وفي كل يوم يمر ، يشهد أواب تحسناً في صحته، لقد عاد بالتدريج إلى الحركة ، ثم عاد إليه النطق شيئاً فشيئاً، لكنه كان فاقد الذاكرة ، تلك التي عادت إليه تدريجياً ، فقد تعرف على أمه أول ما تعرف ، ثم إخوته ثم والده الذي تعرف عليه بعد مضي قرابة الشهرين ، كما أنه نسي تماماً ما كان يشغل باله ، ويملآ عليه كيانه وحياته ، أجل لقد نسي الأغاني والمطربين والمطربات والموسيقى ، وبدأ يألف تدريجياً القرآن الكريم ، الذي تكرر على مسمعه عدة مرات في الآونة الأخيرة، لقد بدأ يتذوق حلاوته ، إنه يحس بشيء رهيب يدب في أوصاله جراء تلاوته لآيات الذكر الحكيم ، لقد طلب مؤخراً من الشيخ أن يضبط له تلاوته , لتكون خالية من اللحن ، نعم إن اهتمامه بالقرآن زاد يوماً بعد يوم ، لقد قرر حفظ القرآن الكريم  بعد أن أتم الله شفاءه ، لقد كتبت له حياة جديدة ، عرف رسالته فيها ، فقرر الالتزام بتعاليم الدين الحنيف ، والسير على منهج الله سبحانه وتعالى ، نعم لقد تغيرت حياته تماماً ، إنه الآن يعيش حياة ملؤها السعادة والطمأنينة ، بعيداً عن القلق والضياع ، لقد وقف يوماً أمام المئات في أحد المساجد ليعلن أنه مليونير ، أجل إنه من أغنى الأغنياء ، إنه غني بالله عما سواه ، إنه سعيد كل السعادة في حياته الجديدة، فالسعادة الحقة هي التي تكون في طاعة الله وعلى منهج الله ، فلا عجب بعد ذلك من أن تراه يختلف إلى حلقات العلم والدروس والمحاضرات في المساجد ، يتعلم على أيدي الدعاة أمور

 دينه ، إنه يعد نفسه ليكون داعية  إلى الله ، فلعل الله يصلح به أناساً كان بينهم يوماً

ما ، لعله يستطيع إنقاذهم مما هم فيه من عبث ولهو ، وبعد عن الله تبارك وتعالى، أجل .. لقد بدأت رحلته للتو ..