رجل حرسه الله

رجل حرسه الله حياً وميتاً

بقلم: مصطفى طه رضوان

-1-

كانت الكرامة العظمى من نصيب أبي أيوب خالد بن زيد، دون سائر الأنصار، فقد بركت الناقة على باب داره، واندفع الشاب والدنيا لا تكاد تسعه من الفرح، يحتفي بضيفه العظيم، والناس ينظرون إليه، ويغبطونه على ما نال من كرامة الله، ومن استضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق على المضيف أن يكرم ضيفه، فكيف إذا كان الضيف هو الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك لم يترك أبو أيوب شيئاً من وسائل الإكرام لنبي الله إلا اندفع يقدمه بين يديه..

وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون المسجد، وبنى الرسول الكريم بيته إلى جانب مسجده الشريف وانتقل إليه بعد ضيافةٍ تمنّى أبو أيوب أن لا تنتهي.. ولكنَّ حبَّ أبي أيوب للنبي الكريم لا ينتهي وليس له حدود، فكان من السباقين إلى طاعة الله وطاعة رسوله، وإلى البذل في سبيل الله، وإلى الجهاد مع رسول الله، لا يتخلف عن غزوة، ولا يغيب عن مكرمة، فحضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بدر وأُحد وغيرهما من الغزوات كان أبو أيوب في أوائل الصفوف مندفعاً لقتال أعداء الله لا يرهب الموت..

-2-

وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قد كتب كتاباً وادَعَ فيه اليهود، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم ونقضت بعض قبائل يهود عهودهم مع المسلمين، فأجلاهم عن المدينة، وأوقع ببني قريظة بعد غدرهم بالمسلمين "يوم الأحزاب" واشتدَّ كيد يهود وزادت أحقادهم، وكثر تآمرهم على المسلمين، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم كعادته في مجابهة الأعداء، على مجابهة كيدهم، والقضاء على شرهم، فغزا بالمسلمين حصون اليهود في خيبر، وخاص بالمسلمين معارك ضارية، فلم يثبت اليهود أمام القوة الإسلامية رغم الحصون، بل فتح الله على المسلمين أكبر حصون يهود، وأكل الخوف قلوب اليهود الباقين قبل أن يصل إليهم الجيش الإسلامي، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون أن يسيّرهم ويحقن دماءهم ففعل، وخرجوا يهيمون في الأرض، جزاء بغيهم وكفرهم وغدرهم، خرجوا يحملون أحقادهم اللعينة، وأفاء الله على المسلمين غنائم كثيرة.. وفي حصن القموص كان من بين السبايا صفية بنت حيي بن أخطب، أحد زعماء الشر في يهود، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق الذي قتله المسلمون، وقد اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وكانت صفية قد رأت في المنام أن قمراً وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال:

- ما هذا إلا أنك تتمنين ملكَ الحجاز محمداً.

فلطم وجهها وخضّر عينها، فأُتي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها، فسألها، فأخبرته الخبر..

وفي بعض الطريق أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية في قبة نُصبت له وفي تلك الليلة التي دخل بها النبي عليها، خرج من الليل لحاجته، فإذا به يسمع قعقعة السلاح فقال:

- من هناك؟

فأجابه صوت: أنا أبو أيوب يا رسول الله.

قال: وماذا تفعل هنا؟

قال: يا رسول الله، إنك قد أنكيت في القوم، وقد دخلت اليوم بابنة زعيمهم، فخشيت عليك غدرهم، فبتّ أحرسك.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حرسك الله حياً وميتاً؟.."

واستجاب الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فكان أبو أيوب يخوض المعارك مجاهداً في سبيل الله، ويحميه الله، وتحرسه عنايته، فلا يصاب بأذى.

-3-

وانتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، ثم مضى عهد الخلفاء الراشدين، وجاء عهد الأمويين، وأبو أيوب على عهده مع الله لا يغيّر ولا يبدّل، ولا يترك الجهاد في سبيل الله، رغم تقدمه في السن، حيث بلغ من العمر مئة وخمسة وثلاثين عاماً.

وغزا المسلمون الروم بقيادة يزيد بن معاوية، حتى بلغوا القسطنطينية وحاصروها، فخرج إليهم الروم وتصافّ المسلمون صفّين عريضين لم يُرَ مثلهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة، فحمل فارس من المسلمين على الأعداء، فقال الناس: إنه يلقي بيده إلى تهلكة..

فقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:

- أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة، وإنما أنزلت فينا معشر الأنصار.. إنا لما نصر الله نبيَّه وأظهر الإسلام، قلنا بيننا معشر الأنصار خفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها.

فأنزل الله الخبر من السماء:

)وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة( الآية.

فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد..؟

ومرض أبو أيوب مرضاً شديداً، فأتاه قائد الجيش يزيد يعوده فقال:

- ما حاجتك يا أبا أيوب؟

قال: حاجتي إذا أنا مت فاركب بي ما وجدت مساغاً في أرض العدو فادفني، فإنكم سوف تعودون إلي، ولن تنسوا قبر صاحب نبيكم حتى تحرروا الأرض التي ثوى فيها.

وانتقل أبو أيوب إلى رحمة الله ونفّذ المسلمون وصيته، فحملوه حتى جاؤوا أسوار القسطنطينية فدفنوه قربها.. ولكن الروم أخذوا يسخرون منهم وقالوا:

- والله لننبشنَّ قبره، ولنلقينّ بجثته للكلاب.

فقال لهم قائد الجيش:

- والله لو مسستم صاحبنا بسوء، أو نبشتم قبره، لننبشنّ قبور الروم في الشام كلها,

وللروم في الشام مالا يحصى من القبور. فخاف الروم على قبورهم في الشام، ونادوا من فوق الأسوار:

- يا معشر المسلمين إنا وحق المسيح لا نعرض لقبر صاحبكم بسوء ولا ندع أحداً يمسه..

ولخوف الروم من أن يقوم بعض الناس بنبش قبر أبي أيوب على غير علم منهم، فقد أقاموا حراساً يحرسون قبر أبي أيوب في الليل والنهار، ولم يأذن الله بفتح القسطنطينية في ذلك الحين.

-4-

ومرت الأعوام.. حتى جاء الخليفة العثماني السلطان محمد الفاتح –رضي الله عنه- الذي قاد معارك الجهاد الإسلامي ودوخ أوروبا ودحر جيوش الرومان في كل مجال وفي كل معركة.

وحشد السلطان المجاهد القوات الإسلامية واندفع بهم إلى القسطنطينية عاصمة الروم الدينية والدنيوية والتي فيها كنيستهم العظمى أيا صوفيا، فحاصر السلطان بقواته البحرية والبرية، المدينة الحصينة، التي كان البحر يحميها ويحيط بها من ثلاثة جوانب، إضافة إلى سور عال متين، واستعمل السلطان خطة حربية متنكرة ما خطرت ببال، فقد كان الروم يسدّون فم الخليج بسلاسل ضخمة من الحديد، تمنع مرور السفن، إلى الجهة الشمالية الشرقية من المدينة، حيث كان السور ضعيفاً.

فأمر السلطان بقطع الأخشاب، وفرشها على الشاطئ، ومرور السفن فوقفها جراً بواسطة الثيران والجنود حتى أدخلها الخليج!!

تم كل ذلك في ظلام الليل، فما أصبح الصباح إلا والأسطول الإسلامي، يمخر غباب الخليج ويضرب بمدافعه القوية الأسوار الضعيفة فيحدث فيها فجوات وثغرات كبيرة، اندفع من خلالها المسلمون مكبرين مهللين.. وفتح الله القسطنطينية على يد السلطان العثماني المسلم محمد الفاتح وصلى في الكنيسة العظمى ركعتي الشكر لله رب العالمين، وحولها مسجداً للمسلمين، خاصة بعد أن دخل كثير من نصارى المدينة في الإسلام بعد أن رأوا عدالته ونزاهة أهله..

وجاء السلطان العظيم يبحث عن قبر أبي أيوب الأنصاري فوجد القبر، ووجد أن الروم لا يزالون يقيمون عليه حرساً مسلحاً لحمايته، فتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاءه لأبي أيوب: وقوله: "حرسك الله حياً وميتاً" فقال السلطان المجاهد:

"نحن أحق بهذا منهم"

فأمر بأن تقام الحراسة على القبر، وأن تبقى كما كانت وتستمر..

ومن يزور مدينة إستانبول، التي اشتق اسمها من (إسلام بول) أي مدينة الإسلام، وهي مدينة القسطنطينية سابقاً، وزار معالمها الأثرية الهامة، وعنّ له أن يزور قبر أبي أيوب الأنصاري الصحابي المجاهد رضي الله عنه فإنه سيقف أمام القبر الشريف حائراً مشدوهاً، حين يرى عسكرياً شاكي السلاح يقف بانتباه يحرس قبر الصحابي الجليل، وسيهزه الخشوع لجلال الموقف حين يعلم أن هذه الحراسة وهذا الحفظ كان ولا يزال مستمراً عبر القرون منذ وفاة الصحابي الجليل وحتى يومنا هذا..

وأن دعوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب تتحقق عبر الزمان، لتكون شاهداً حياً ومعجزة خالدة باقية..