شيطان وبندقية
شيطان وبندقية
بقلم : غرناطة الطنطاوي
قلبي يتفطّر على أشلاء كانت يوماً مجتمعة سعيدة تملأ الحياة بهجة ومتعة...
قلبي يتفطّر دماً على أرض سليبة جريحة لا تجد يداً تداوي نزف شريانها، ولا تمنع تقطع أوردتها... كأنها خلقت لتمزق وتتمزّق والعيون ترنو إليها بعطف تشوبه اللامبالاة...
لهفي على طفلة تركض وتعثر وبسطار غدار حانق يدعسها، كأنها نملة ضلّت طريقها، ظنّت أنّ الحياة فوق الأرض أفضل،
وما درت أنّ بطن الأرض أرحم بها وأكرم لها...
آه من دمع ينسكب على طفل وديع يحضن أمه بلوعة وألم محاولاً سدّ تدفّق الدّم من صدرها مرّة ومن كتفها مرة أخرى ومن رأسها ومن.. ومن.. ونظرة الأم المسكينة تحجرت صوب فلذة كبدها، تحمل الهلع والخوف على مستقبله الدامي، تتمنى أن يلحق بها، ولكنها تشفق عليه من الألم...
التاريخ ذاكرة الزمن المحفورة على مرّ الأيام، لن ينسى امرأة في مقتبل العمر، حفر الذعر على وجهها أخاديد، ورسم نظرة على عينيها لو رآها المعتصم في زمانه لقلب الدنيا رأساً على عقب...
تُرى أيجود الزمن بمعتصم آخر؟
هذه المرأة شهدت مصرع زوجها وهي مختبئة في خزانة الملابس تحبس أنفاسها وتضمّ جنينها الذي في بطنها بكلتا يديها… ياله من مسكين صار يتيماً قبل أن يرى نور الشمس… ستحدّثه عن قتلة أبيه، وستحثّه على الانتقام…. نعم ستدفن عاطفة الأمومة في غياهب نفسها المحطَّمة، لتدفع ولدها إلى الجهاد في سبيل الله ليصل إلى رياض الجنة غير عابئ بالأشواك التي ستدمي قدميه، والعقبات التي ستزرع الموت في طريقه لتسمو روحه، وترفرف، وتقضّ مضجع كلّ جبار آثم...
هزّت المسكينة رأسها فاستيقظت من أحلامها لترى نفسها مختبئة، وجثة زوجها ملقاة أمامها.. كأنها لم تكن بالأمس شيئاً .. أمس.. ياله من ماضٍ قريب بعيد.
كانت تعدّ له الغداء بسعادة، تنتقل في جنتها الصغيرة كأميرة حالمة تنتظر أميرها بفارغ الصبر، ليقبل والإشراق مسكون في روحه وقلبه.. آه الدماء تنزف منه زكيّة كروحه، عطرة كأنفاسه، متدفقة كعطائه... أجهشت ببكاء مرٍ، وأخذت العبرات تزفر جيّاشة، حاولت عبثاً أن تخفيها عن سمع الأعداء المبعثرين في أنحاء بيتها...
انتبه جندي أشعث أغبر إلى تنهدات في زاوية البيت، ارتعدت فرائصه، وصكّت أسنانه.. تُرى من يكون داخل الخزانة؟
استنجد بأصحابه بصوت لاهث… صوت مَنْ شُلَّتْ منه الإرادة ..قد يكون داخل الخزانة عفريت أو مجاهد فدائيّ، أو .. شبح أحد الذين قتلهم جاء لينتقم منه.. وما أكثر من قتل.. إنها مجزرة خطط لها في ليل حالك، ونفّذها مع شرذمة من أصحابه المهووسين ضدّ أبرياء عزّل.. أواه.. لماذا لم يسمعوا استغاثتي..
انطلق يعدو كفأر هرب من مصيدة، وجمع أصحابه، والتفوا حول الخزانة..
تقدّم أحدهم من الخزانة مصوّباً رشاشه السريع الطلقات نحوها.. فتح باب الخزانة بتوجّس وترقّب ثم.. ثم انطلقت منه ضحكة مذعورة.. تقدّم الآخرون ليروا ما رآه... آه يالها من مفاجأة.. امرأة في شهرها الأخير، جامدة، في عينيها ذعرٌ بائس يائس .
شعر الجندي الذي انتبه لأمرها في بادئ الأمر بالخزي فقد استنفر زملاءه المدججين بالسلاح، من أجل امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة.. قطّب حاجبيه وتجمّد الدم في عروقه الزرقاء... إنه جبان.. نظرات أصحابه تؤكد له ذلك.. فليثأر لكرامته المهدورة...
أرغى وأزبد وهجم عليها يركلها ويضربها ويغرس أظافره في وجهها والضحكات تتعالى من حوله... وصوت مكتوم لا يقدر على قول الآه... ثم لمعت في رأسه الخبيث فكرة شيطانية.. الشيطان نفسه دُهش وقال: التلميذ سبق أستاذه يا للعجب..
أمسك (الأشوس) بشعر المسكينة وجرّها إلى أرض الغرفة وأخرج سكيناً حادّة وبقر بطنها فتدفقت أحشاؤها إلى الأرض دامية مستصرخة، ثم مدّ يديه إلى الجنين فأخرجه وأخذ يرقّصه كدمية خشبيّة، ثم أطلق على رأسه النار.. انزوى الشيطان في ركن الغرفة وأغمض عينيه فقد رقّ قلبه لهذا الجنين المسكين..
نظر الوحش إلى أصحابه بكبر وقال :
- ألم أقل لكم: إنني رجل بعشرة رجال... قلبي يذيب الحديد ويبقى على ما هو... هيا لنثلج صدور أسيادنا بما فعلناه اليوم...
حانت منه التفاتة إلى الجنين المقتول، فسرت قشعريرة في بدنه، وأحسّ بقلبه يغوص ويغوص.. فقد كانت عينا الطفل مصوبتين نحو ه كفُوّهتي بندقية... هكذا خيّل إليه... وخيوطٌ من نار تشعّ منهما وتلفّ على رقبته وتضغط وتعصر... صرخ من الألم ممسكاً رقبته:
- فكّوا الحبل عن رقبتي... أبعدوا عني هذا الطفل... سيقتلني..
نظر إليه أصحابه بذهول... هل أصابه مسٌّ من جنون أم ركبه شيطان... أم أن ما يقوله حقيقة... هنا ركب الجنود (الأبطال) متن الريح، تاركين ضحاياهم و (غنائمهم) ملقاة على الأرض...