أضواء العتمة

مها حسن

كانا يتشاجران كالعادة ، وقد بدأت بالصراخ وبدأ هو برفع يده مهدداً في الهواء ،وكانا على وشك الدخول فيما بعد الشجار ، عندما ، بغتة ، انقطع التيار الكهربائي .

صمتا باحثين عما يشعلانه ، في تلك الظلمة المباغتة ، ارتطمت يدها بكوب الماء وهي تبحث عن " ولاعتها "، انقلب الكوب على الطاولة، وسمعا صوت تكسر الزجاج ، عثر هو على " ولاعته " دون أن يصب الطاولة أو الأشياء بأذى ، لأنه ببساطة ، كان يترك علبة دخانه و" الولاعة " بجواره أينما جلس .

أضيء المكان قليلاً .... كان لا يزال الصمت يلف الظلام ، كما يلف الظلام الصمت ، وتداخل كلاهما : الصمت والظلام ، ليوقفا الشجار .....

نهضت على ضوء " ولاعته " باحثة عن شمعة ، ارتطمت ببقايا الكوب الزجاجي المتكسر ... لم تصب بأذى ....

أخذت تقلب الأمكنة بحثاً عن كيس الشمع " لقد تركته هنا " .... " يا إلهي ، عندما تبحث عن شيء لا تجده ، وعندما لا تحتاجه يقبع أمامك " .... قال لها لائماً ، موبخاً كعادته " أنا لا أفهم هذه الفوضى ، كيف يخلو منزل من شمع ، خاصة وأن الكهرباء تنقطع كلما حلا لهم ... " ردت بغضب كتوم " يوجد شمع، ولكني لا أعرف أين وضعته " ... " وما الفرق ..أن لا تجدينه يشبه تماماً أنه غير موجود ... لأننا سنقبع في الظلام،أم تظنين أني سأظل هكذا ممسكاً" بولاعتي" ؟! " .... " هاهو ، لقد وجدته " .

أضيء المكان أكثر من قبل بقليل ، نشرت عدة شموع ، وأخذت تزيل الزجاج المكسور ....

جلسا صامتين ، لا يمكن للشجار أن يستمر في العتمة ، وكأن للشجار شروطاً ، لا يمكنه أن ينمو دونها ، مثله كمثل أية حالة أخرى ، خاصة وأنهما لا يكتفيان بالصوت ، بل يتبادلان النظرات الحادة ، العبوس القاسي ، الغضب المتطاير من الملامح ، وحركات الأيدي ... كل ذلك لا يمكنه أن يتم في الظلام .

استلقت على الأريكة المقابلة له ، كل منهما جالس على أريكة مقابل الآخر ، يدخن بغضب وصمت .

كان معتاداً على لعن المسؤولين عن مؤسسة الكهرباء حين يكونا في وضع مماثل ، ثم يتصاعد اللعن والسباب ليشمل النظام القائم ، نظام اللصوص ، وعدم احترام الإنسان ، ليتصاعد الشتم ليصل إلى جميع الأنظمة التي لا تحترم الفرد .... ولكنه كف عن ذلك ، لأنه اكتشف أن يغضب ، ويتوتر ، ويرتفع ضغطه ، دون أن يتأثر مسؤولوا مؤسسة الكهرباء ، ولا النظام القائم ، ولا الأنظمة المتخلفة ، التي لا تحترم المواطن أو الفرد .

توقف الشجار إذن ، وكان الصراع بين العتمة الممتدة في أرجاء الغرفة ، ونور الشموع الذي يحاول إثبات دوره كـ مضيء .

كادت تهم بإطفاء سيجارتها ، وهرسها بأصابعها داخل المنفضدة ، كعادتها العنيفة في التعامل مع الأشياء ، تلك الحركة العصبية ، العصابية ، .....

فجأة ، أوقفها هذا المشهد :

" ثمة هالة ضوئية تحيط بوجهه ، تنبع من جبينه ، وتملأ المكان بضوء غامضاً ، هو ضوء ، ولا ضوء ...

كيف ستفسر ذلك ....

ستحاول :

هو ضوء لأنه مشع ، كما الضوء ، إلا أنه ليس بضوء ، لأنه لا ينتشر في المكان ... هو ضوء ثابت ، لا يتعدى وجهه ، ولا يضيء ما حوله ، فكيف هو ضوء إذن ..... "

نهضت متجهة صوبه ، بهدوء ، واسترخاء ، ليسا من عاداتها .... كأنه ضوء مُغيّر ، ما أن تراه ، حتى تصبح كائناً آخر ...

جلست على أريكته ، وضعت يدها على جبينه ، فامتلأت يدها بالضياء .... كم كانت يدها جميلة فوق جبينه ، يا للرب ، كانت تكره سبابتها اليسرى ، لأنها كانت قد تعرضت لحادث في صغرها ، وانهرست في ماكينة كهربائية ، ففقدت جزءاً من الظفر ... وغدت سبابة " مشوّهة " ، ولكنها ، هنا ، فوق جبينه ، حيث ينبع الضوء ، سبابة طبيعية كباقي أصابع يدها التسع .

كيف يحدث هذا ؟!

أخذ يدها بلطف ، وحملها نحو شفتيه ... ثم انحنى صوبها ، وقبلها في عنقها ....

كان لايزال الصمت والعتمة سيدا المكان ، وكان الصوت الوحيد ، الخافت ، هو صوت أنفاسهما المتقاربة ، والضوء الوحيد ، الثابت في مكانه ، اللامنتشر ، هو ضوء جبينه .....

ألقت رأسها على صدره ، احتضنها لوقت لا يعرفان مقداره ، شعر ، وللمرة الأولى في حياته ، أن للتخلف مزايا ، وأراد أن يشكر موظفي مؤسسة الكهرباء ....

كانت هي قد قالت شكراً بصمت ، للأنظمة المتخلفة التي لا تزال " تقطع " الكهرباء .... وتقول : لولا انقطاع الكهرباء ، ما رأيت نوره الداخلي ...

عندما تدفق نور الكهرباء فجأة ، انفجرا في ضحك كالأطفال ، ثم تعانقا مطفأين الكهرباء .