سبعان والعاديات

فاطمة أديب الصالح

سبعان والعاديات  

فاطمة أديب الصالح

     كانت عصابة من اللصوص تعيش في الجبل، وتغير( تهجم) في الليل على القرى القريبة، فتسرق المال والطعام والمواشي(الغنم والبقر والجمال) وكل شيء تستطيعه، من البيوت والمزارع.

     وكانت عندهم خيول قوية جميلة، يغيرون بها، ثم يهربون بسرعة، فلا يستطيع أحد أن يلحق بهم.

     في إحدى الليالي قال رئيس العصابة سبعان: سأذهب الليلة بنفسي إلى قرية جديدة، لأتعرف إلى بيوتها ودروبها، ثم أعود لأخبركم كيف نغير عليها ركب سبعان حصانه قبل الفجر، وظل يسير زمناً فأحس عطشاً، لكنه وجد مطرته فارغة، ومن بعيد وعلى ضوء القمر استطاع أن يرى مئذنة، فسار باتجاهها، ولما وصل وجد مسجداً بسيطاً فشرب وسقى حصانه وملأ مطرته، وإذا به يسمع أذان الفجر يتردد في الفضاء عذباً نديّاً فأعجبه وخطر له أن يدخل ليصلي، فهو منذ زمن طويل لم يصلّ.

عاد سبعان إلى الماء فتوضأ، ثم ربط حصانه إلى عمود خارج المسجد ودخل. وجد الرجال ينظمون صفوفهم على جانبي الإمام وخلفه، فوقف معهم.

انتهت الركعة الأولى دون أن ينتبه سبعان إلى ما قرأه الإمام، فقد كان يفكر في القرية التي سيهجم عليها هو ورجاله: هل هي سهلة؟ هل فيها رجال أشداء(أقوياء) وخيول؟ يجب أن أعرف قبل أن أهاجمها أنا ورجالي.

ولما قام للركعة الثانية، وبعد قراءة الفاتحة، بدأ الإمام سورة العاديات..

"يا الله .. قال سبعان لنفسه.

"إنها السورة التي كان جدي يقرؤها لي وأنا صغير، ويقول لي: أنت تحب الخيول وهذه السورة تحكي عنها.. والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، ما معنى هذه الكلمات؟ ما الضبح والقدح والنقع، وما معنى أن الإنسان كنود، وكيف سيبعثر مافي القبور؟ ليت أحداً يقول لي!"

     سلم الإمام وسلم الناس، وسبعان يفكر بجده، ويحس أنه يسمع صوته وهو يقرأ السورة.. ولما أراد القيام سمع الإمام يبدأ تفسير سورة العاديات لعدد من الأطفال، جلسوا حوله بوجوه بريئة وعيون ذكية ملتمعة.

     وجد سبعان نفسه يجلس ليستمع إلى الإمام وهو يقول:

يقسم الله تعالى يا أحبابي بالعاديات، وهي الخيل القوية حين تركض وتركض، فنسمع صوت تنفسها قوياً لسرعتها، وهذا معنى ضبحا..

بدأ سبعان يتخيل رجاله حين يهجمون على القرى بخيولهم، وكأنه يسمع الآن صوت أنفاسها: نعم نعم ، عرفته.. عندما تجري خيولنا بسرعة، يصبح صوت أنفاسها مسموعاً.

وأكمل الإمام: والخيول أيضاً حين تعدو ( تجري) وتصطدم قوائمها بالحجارة والصخور، ينقدح الشرر تحتها لسرعتها، وكأنها توري النار أي تبدأ إشعالها، لذلك وصفها الله تعالى بأنها الموريات قدحاً.

مرة أخرى قال سبعان لنفسه: يا الله كم رأيت هذا المنظر تحت قوائم حصاني العزيز(شديد)

الشرر يتطاير وهو يضرب الأرض بحوافره الصلبة( القاسية)  

وقال الإمام: وهل رأيتم يا أحبابي ماذا يحدث حين تعدو الخيول فوق الرمال والتراب؟ رد أكثر من طفل: يرتفع غبار كثير حولها.. قال الإمام: بارك الله فيكم، هذا هو معنى فأثرن به نقعاً أي حركن الغبار حولهن، ومتى يحدث هذا غالباً؟ متى تهجم الخيل على أرض بلاد العدو؟ أليس في الصباح قبل أن ينتبه الناس ويستعدون؟ لذلك يقسم الله تعالى بالخيل وهي تهجم في الصباح الباكر حيث يريد الذي يمتطونها(يركبونها).

وقال سبعان لنفسه: ونحن دائماً نغير صبحاً قبل أن يصحو الناس ويصبح بإمكانهم أن يقاتلونا.

وشعر بالحزن فجأة وسمع صوتاً داخله يقول له: لكنك لا تغير على أعدائك، أنت تغير على الأبرياء الضعفاء، لتسرق أموالهم وتعبهم. رد على الصوت بسرعة: لكن ماذا أفعل؟ من أين نأكل وكيف نعيش أنا ورجالي..؟

تابع الإمام تفسير السورة بصوت مطمئن: فوسطن به جمعاً، إنها صورة الخيل في وسط جمع من الرجال، يمكن أن يكونوا الأعداء أو غيرهم.

ازداد خوف سبعان وحزنه: إن الله تعالى يعلم كل شيء، إنه يذكر الخيل كما أعرفها، فأنا أعيش معها، أرعاها وأطعمها وألاعبها وأنظفها وأركبها كل يوم، لكن الله تعالى خالقها.. نعم نعم .. خلقها الله فيعرفها أفضل مني. قال له الصوت: والله تعالى خلقك ويعرفك أفضل منك، يعرف عنك كل شيء تفعله، وكل شيء تفكر فيه!

شعر سبعان بالخجل والألم: ماذا أفعل؟ كل حياتي سرقة ونهب، آذيت ناساً كثيرين، ماذا أفعل؟

قطع عليه تفكيره صوت طفل يسأل بصوت واضح ثابت: يقسم الله بالعاديات والموريات والمغيرات، فعلى أي شيء يقسم سبحانه؟ أجاب الإمام:  يقسم الله تعالى على طبيعة الإنسان حين لا يكون مؤمناً حق الإيمان، الإنسان الذي ينسى خالقه واليوم الآخر، هذا الإنسان كنود أي جاحد لا يذكر نعمة الله ولا يشكرها، بل يفعل ما يهوى (يشتهي) وكأنه يشهد بأفعاله على جحوده، كما ستشهد عليه أعضاؤه يوم القيامة لتذكر ما فعلناه من خير أو شر: (إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد)

ارتجف سبعان أكثر: حقاً.. أنا أعرف هذا الكلام، كان جدي يقول لي وأنا صغير: يا سبعان انتبه لنفسك ستشهد عليك يداك ورجلاك وعيناك وأذناك يوم القيامة.. أنت تسكت وهي تتكلم بأمر الله.

يا الله! ماذا ستقول عني يداي ورجلاي..

وتابع الإمام: يقسم الله تعالى أيضاً أن ذلك الإنسان الجاحد يحب المال كثيراً، ويبخل به على المحتاجين وكأنه ماله، مع أن الله تعالى هو من رزقه، هو من قواه وأعطاه الذكاء ليجمع ذلك المال، هو أعطاه كل شيء.( وإنه لحب الخير لشديد)

غطى سبعان وجهه، وكأنه لا يريد أن يرى صور حياته تعرض أمامه، مثل فلم مخيف طويل كله، نهب وسلب وترويع( تخويف) للآمنين: يا ربي! لقد عشت سنوات كثيرة وأنا أعصي الله .

وأتاه صوت الإمام من جديد: هذا الإنسان الذي يعيش على هواه، ينسى يوم القيامة، يوم يحين وقت الحساب، فيخرج الناس من قبورهم، يتبعثر كل مافيها، أي يتبدد ويتفرق وينتشر.. كما ينكشف كل ما أخفيناه طول حياتنا، إن الله تعالى يسألكم، يسألنا جميعاً ألا تعلمون بهذا اليوم وما سيحدث فيه، هل نسيتم يوم الحساب؟ ( أفلا يعلم إذا بعثر مافي القبور، وحصل مافي الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير)..

والآية الأخيرة يا أحبابي، تبين بتأكيد كثير، أن الله تعالى لن يخفى عليه من أمرنا شيء، ويوم القيامة سنجد أنه يعلم كل ما أخفينا وما أعلنا، ما قلنا وما فعلنا، في أي وقت وأي مكان، وعلى كل حال..

بكى سبعان رغماً عنه، هو رجل قويّ صلب، لكنه مسلم، فماذا جرى له؟ إنه لا يستطيع أن يتمنى الموت الآن، لأن حسابه سيكون عسيراً( صعباً)

هل يمكن أن يتوب؟

أحس سبعان كفاً تلمس كتفه برفق( لطف) وسمع صوت الإمام يقول: مابك يا أخي؟ هل تحتاج إلى أي مساعدة؟

تنبه سبعان، وتلفت حوله فوجد المسجد خالياً من الناس، فقال باكياً: أريد أن أتوب إلى الله! قال الإمام:ومن يمنعك؟ قال سبعان: وهل يقبل الله توبة سارق؟

أجاب الإمام طبعاً يا أخي.. إذا كانت توبة نصوحاً؟ فتح سبعان عينيه أكثر وقال:نصوح؟! كيف؟

-        تتوقف عن السرقة نادماً مستغفراً، وتردّ كل الحقوق إلى أصحابها، وتعاهد الله على ألا تعود أبداً إلى السرقة.

-        كيف أرد الحقوق؟ سيسجنونني.. الناس لن تسامحني..

-        عليك أن تحاول، وتدفع ثمن ذنوبك في الدنيا، كي لا يحاسبك الناس، ويشكوك إلى الله يوم القيامة.

عاد سبعان إلى الجبل، وحكى لرجاله كل ما حدث معه، ضجّوا واضطربوا، لكنهم كانوا يحبونه ويثقون به( يصدقونه) فظل يكلمهم عن حلاوة التوبة التي يشعر بها، ويخوفهم من حساب الله تعالى كما سمع من الإمام، وظل يردد: الأطفال الصغار يفهمون هذا أحسن منا..

استجاب الرجال والفتيان ووافقوا على ترك هذه المهنة المخزية(المخجلة) ولكن: كيف يردون الحقوق لأصحابها؟ هذا أمر صعب جداً فمن جهة سيعرضون أنفسهم للسجن والكراهية، ومن جهة ليس عندهم كل ما سرقوه، لقد استخدموا المتاع(الأغراض) وأنفقوا كثيراً من الأموال..

وكان فيهم فتى اسمه طاهر، ضمه إليهم أبوه حديثاً، لكنه لم يشترك في أي سرقة بعد، بل كان يكره هذا جداً ولا يعرف كيف يتخلص منه، فلما سمع كلام سبعان فرح كثيراً وصاح: المساجد!

التفت الجميع إليه: ماذا؟ قال: المآذن. فتحوا عيونهم عن آخرها، وضحك بعضهم، فقال: الأمر بسيط، تذهبون إلى كل قرية سرقتم منها، وتطلبون من المؤذن أن يصعد إلى المئذنة ويعلن أن مسروقاتهم عادت أو عاد بعضها، فليأتوا ليروها ويأخذوا ما لهم.

صاحوا من كل مكان: هل تريد أن يمسكوا بنا؟

لكن سبعان أعجب بالفكرة فوقف وقال بحزم: لا أجد فكرة أفضل، أحسنت يا طاهر، لكني سأشرح كل شيء لإمام المسجد الذي صليت فيه، وأطلب مساعدته.

وافق الرجال، ونقلوا الأشياء المسروقة كلها إلى ذلك المسجد، وانتقل الإمام معهم من قرية إلى قرية، ليحكي القصة لإمامها ومؤذنها ويطلب منهم العفو عن سبعان وعصابته.

بعض الناس سامحوهم ورضُوا بما بقي لهم، بعضهم رفضوا وطلبوا محاكمة اللصوص، وعلى رأسهم

( أولهم) سبعان لأنه هو زعيمهم وقائدهم.

وقف سبعان ورجاله في المحكمة خافضي الرؤوس خجلين، واعترفوا بذنوبهم، وطلبوا الصفح والمغفرة من الناس.

المشكلة كانت أنهم ليس لديهم مال كاف ليعطوا الناس قيمة ما سرقوه، وهذا يعني أن يسجنوا.

وكان الفتى طاهر معهم، فهو واحد منهم رغم أنه لم يسرق.، فطلب الإذن من القاضي بالكلام، فأذن له فقال: أقترح يا سيادة القاضي أن تجعل رجال العصابة حراساً لهذه القرى، ليحموها من اللصوص والأعداء، مقابل طعامهم وشرابهم فقط، ودون أجر آخر حتى يؤدوا ما عليهم من حقوق، ولكن بعد أن يتأكد لك يا حضرة القاضي أنهم قد تابوا فعلاً.

ظهر على وجه القاضي الإعجاب بفكرة جواد، لكنه قال: ينبغي أولاً أن نستأذن هؤلاء الناس، هل يعفون عن هؤلاء اللصوص ويقبلوا توبتهم.

تشاور الرجال فيما بينهم، ثم تحدث أحدهم إلى القاضي وقال:  نقبل بفكرة هذا الفتى، فنحن خيولنا قليلة، وليس عندنا حراس للقرى، لكنا نريد أيضاً أن يدربنا سبعان ورجاله على ركوب الخيل وفنون القتال..

وافق القاضي على ذلك، وقال سبعان: نفعل إن شاء الله، ولكن لي شرطاً

صاح الناس: شرط! أنت تشترط؟

قال نعم: أريد أن تسمحوا لنا بالحضور إلى المساجد لنتعلم أمور ديننا، ونعلمها أولادنا

هلل الناس وكبروا، فرحين بما قال سبعان، وقد اطمأنوا له.

وزع سبعان رجاله على القرى، ونظم لهم أوقات الحراسة ليلاً ونهاراً، وكان يمر عليهم يتفقد أحوالهم ويقول: اعتنوا بخيولكم، فهي التي أنقذتكم من نار جهنم.. بإذن الله، فإذا سأله أحدهم: كيف يا سبعان؟ قال: أليست  سورة العاديات هي سبب توبتنا؟

تزوج سبعان من إحدى القرى، وأنجب أولاداً أقوياء، يتعلمون القرآن ويفهمونه، ويعيشون حياة حلالاً طيبة.