وفاء

وفاء

بقلم :  غرناطة الطنطاوي

خرج الأمير أسامة بن منقذ إلى الصيد -متعته الحقيقية وسلواه عن الحكم ومشاغله- يطارد الغزلان، وينازل الأسود بشجاعة قلّ مثيلها بين أقرانه...

لمح غزالاً شارداً يركض بعيداً عنه، همز حصانه بقوّة، وأخذ يعدو خلف الغزال، وكلما بعُد الغزال ازداد أسامة حماسة وعَدْواً، أيغلبه هذا الغزال، والأبطال الصناديد ترتعد فرائصها أمامه وتسلم له زمامها؟ لا لن يكون هذا أبداً.

توغّل في الغابة بعيداً عن جماعته، وإذا كوكبة من فرسان الإفرنج كانت تراقبه عن بعد، وتتحيّن الفرصة للانقضاض عليه، فحملوا عليه حملة رجل واحد، وأحاطوا به من كل جانب...

حاول الدفاع عن نفسه، فلم يتمكّن من ذلك، ووقع في الأسر، واقتادوه وغيّبوه في غياهب الجبّ، عسى أن ينفعهم في يوم من الأيام.

كرّت الأيام على سجنه بطيئة وئيدة... فاحتسب هذه السنة الكئيبة من حياته، ودعا الله أن تكون له ذخراً في آخرته، وما كلَّ لسانه عن الابتهال والتضرّع، عسى أن يجعل الله له مخرجاً من سجنه.

في صبيحة أحد الأيام فتح غطاء الجبّ، ودُلّي فيه بدوي لا حول له ولا قوة، قد اختطفه القراصنة الإفرنج، ليكون أسيراً لديهم يساومون به العرب المسلمين.

فرح الأمير أسامة بهذا البدوي، واستأنس به، وأخذ يسأله عن أحوال المسلمين وأخبارهم، وعيناه تفيضان بالدمع حزناً على تناحرهم وتهافتهم على دنيا فانية، والإفرنج يعيثون في الأرض فساداً..

تجاذبا أطراف الحديث، ليبعدا ملالة السجن وسأمه، وانخرطا في دعاء حزين يمسّ شغاف القلب لوعة وأسى... وفيما هم كذلك ، صاح البدوي :

-وجدتها، وجدت الحل بإذن الله، سيكون خلاصك على يدي إن خلّصتني من هذا الأسر...

أفضى البدوي بما دار في خاطره لإنقاذ أسامة من هذا الجبّ ..

تبسّم الأمير في سرّه من سذاجة هذا البدوي، وظنّ عشق الحرية قد أنبت في رأسه فكرة الخلاص على هذه الصورة ، فجاءت كأنها أضغاث أحلام...

أدرك البدوي ما يدور في خلد أسامة، فقال :

- أنت هنا منذ أكثر من سنة، وكنت نسياً منسياً، لم يأت أحد ليفتديك، فلن تخسر شيئاً، فربّ رمية من غير رام...

هزَّ الأمير رأسه مؤيداً قائلاً لنفسه:

"إذا لم يستطع إنقاذي، يكفيني أنني كنت السبب في إنقاذه وعودته إلى عياله" ...

نادى أسامة:

- أيها الحارس، خذني إلى سيّدك لعلني أفيده وأستفيد...

لم يجبه الحارس ولم يأبه لكلامه، ولكنّ أسامة مازال به، يطمعه ويمنّيه، حتى رضي بعد لأي.

فتح غطاء الجب ودلّي به حبل، تسلّقه أسامة، وذهب إلى سجّانه الإفرنجي، ليفاوضه على إطلاق سراح البدوي لكي يذهب إلى والد أسامة، وهو أمير عظيم، ويطلب منه فدية كبيرة فداء للأمير أسامة..

كان الإفرنجي في شكّ مريب من صحّة ادعاء أسامة، ولكن رنين الدنانير الذهبيّة، زرع الطمع في نفسه والطمأنينة في قلبه... فأطلق سراح البدوي...

مضت الأيام بطيئة كئيبة.. شهراً وشهرين وثلاثة وخمسة، ولم يأت أحد لافتداء أسامة، حتى كاد اليأس يرين على قلب الأمير أسامة، وراودته الظنون بالبدوي الذي أنقذ نفسه ، ونسي أميره أسامة .. وعصرته آلام السجن، وحسب نفسه في بحر لجّيّ لا مفرّ منه، وخبا نور الأمل في قلبه، بعدما راوده بصيص منه في حالك أيامه، وأدركته رحمة الله، الذي لا ييأس من رحمته إلاّ الكافرون، فأنزلت السكينة على قلبه، وشموخ الرجولة على نفسه، فصبر واحتسب، ولجأ إلى إيمانه، فأخذ يسبّح الله ويحمده على كل حال...

وفيما هو غارق في ابتهالاته وسبحات روحه، أحسَّ بجانب الجبّ يهتزّ، والأرض من تحته تتحرك... تساءل ما هذا ؟ أيكون شيطاناً مريداً فُكَّ من أسره ؟ أم أنّ زلزالاً يوشك أن يردم البئر عليه ، أم أن الساعة قد حانت، أم ماذا؟!..

وقف الأمير أسامة ثابت الجنان، رابط الجأش، يفكّر فيما يحسّ ، مفوّضاً أمره إلى الله .. وما هي إلا دقائق معدودة حتى انشقّ جانب الجبّ عن صاحبه البدوي، معفّر الثياب، مغبرّ الوجه، باسماً مستبشراً، واحتضن الأمير قائلاً له:

- هيّا بنا أيها الأمير، فقد نجح مسعاي.. مذ خرجت من عندك، وأنا أحفر نقباً من قرية خربة قريبة من هذا المكان، حتى وصلت إليك لأفي بوعدي الذي قطعته لك...