عين هنا.. وأخرى هناك

عين هنا.. وأخرى هناك

بقلم : نعيم الغول

وضع السماعة جانبا وهو يشعر بحنق واسى ومرارة. صديقه لا يجيب  على اتصالاته المتكررة منذ مدة. اليوم يشعر إنه بحاجة إليه . هذه المرة خلاف كل مرة. اليوم يريد أن يقول له إنه على حق في قراره اعتزال الناس و الحياة والتفرغ للعبادة . نعم سيقول له إن الحياة الدنيا لا تساوي شيئا.

وإذا سأله لماذا وكيف  اقتنع أخيرا سيقول إنه كان يظن أن الموت ظاهرة طبيعية تطال كبار السن وتطال من يصاب بمرض عضال وان الإنسان لا يجب أن يقلق بل يتابع. لكن عددا من حوادث الوفاة في حيهم جعلته يغير رأيه. جارهم احمد شاب لم يبلغ الثامنة عشرة نزل عن رصيف الشارع . لم يخط اكثر من خطوة ليجد سيارة تقذف به عدة أمتار في الهواء وتصدمه بسور محاذ للشارع ليموت في ميعة الشباب. جاره الطبيب الذي لم  يزر عامه الأربعين لأنه شعر فجأة بوخز  في صدره ولم يكد يهتف بغير الآه .. لم يعرف عنه المرض ولم يعرف عن نفسه المرض .. كان موتا دون سبب. موتا مفاجئا .. يا الهي .. رجل اخر كان قويا كحصان .. يضحك بصخب .. كنت تستطيع سماع صوته وهو يتحدث في الشارع كأنه الى جانبك .. التقم حبة فشرق فمات.

اواه يا صديقي لم لا ترد . أنت على حق

وانزوى في حجرة مكتبه. وامسك بالقران وعاد إلى القراءة . لا منجي له من غضب الله إلا الصلاة الدائمة والقراءة الدائمة والصوم وترك الناس. وترك الحياة .. يجب أن يموت عابدا.

دخلت زوجته فحدجها بنظرة قاسية . كان يجب ان تعرف أن دخولها عليه ومحاولة إقناعه ستبوء بالفشل كما في كل مرة. فلماذا  تعود؟

" صديقك بالباب"

أيعقل هذا ؟ أتصل به فلا يجيب ويكون  في طريقه إلي؟

انفرجت شفتيه عن ابتسامة . خرج من الحجرة مسرعا. عانق صديقه . حمد الله انه جاء . سيشد على يده . ويفاجئه بقراره المؤيد لموقفه من الدنيا وما فيها.

 (سأتفرغ وصديقي للعبادة فقط. النجاة عند الله لن تكون إلا بهذا. ما لنا وللدنيا . ما نحن إلا عابري سبيل. نقيل في ظلها هنيهة ونمضي. سننجو معا وقد يحشرنا الله معا .ألا يحشر المرء مع من يحب؟)

في حجرة الضيوف جلسا . في غمرة فرحه بصديقه غاب عن ناظريه ما بدا على صديقه. ثيابه كانت متسخة متكرمشة . عيناه حملتا انكسار لم  يعهده من قبل. نضرة البشاشة في محياه فرت منذ امد. كان سيقول الكثير لصديقه لكن ما رأى عقد لسانه.

" أتراني جيدا ابا محمد. أفلحت في اعتزال الناس. تركت تجارتي للعاملين عليها لدي يبيعون ويشترون كما يشاءون. من كان أمينا فلنفسه ومن خان فعليها. تركت كل شيء لأنني أيقنت انهم ان فعلوا شيئا فمردهم إلى الله فيحاسبهم إن قصروا ويجزيهم خير الجزاء ان احسنوا. "

لم يستطع أن ينزع عينيه عن ثياب صديقه . سأله:" وما ذا فعلوا."

" في أول الأمر كان خراج البيع يأتيني بانتظام وكما هو . ثم بدأت يتناقص. حتى أتعدم."

" والمتجر"

" نهبوه بل وتركوا ديونا ضخمة"

" لا حول ولا قوة إلا بالله"

" سددت ما استطعت. بعت البيت. استأجرت بيتا."

" ابشر . يا أخي . هذا ابتلاء . يجب الا نحسب أننا نترك نقول آمنا ثم لا نبتلى في الأموال والأنفس . الصبر. الصبر"

" الحمد لله صبرت وثابرت على الصلاة والقيام وقراءة القران. اكتفيت بالقليل القليل. لكني وجدت صاحب البيت ومعه نفر من الشرطة ومحضر. حجزوا على ما لدينا وقذفونا إلى الشارع."

"لا حول ولا قوة إلا بالله. ألا يتقي الله هذا الرجل صاحب البيت. أيقذف بعابد متبتل أهله إلى الشارع. لك الله يا أخي والجنة ."

" ذهبت إلى ابن عم لي ورجوته البقاء عنده حتى أتدبر أمري"

" تتدبر أمرك. من يدبر الأمر إلا الله؟"

" لا اله إلا الله. هذا ما قلته لنفسي ولهذا ذهبت الى بيت ابن عمي. لكني بعدها شعرت بان وجودنا في بيته الصغير يضيق علينا وعليه كما ان هناك محاذير شرعية من وجودي وزوجتي وبناتي وزوجته وبناته . كلنا أجانب وكان هذا ضربا من الاختلاط لم تطقه نفسي."

" وماذا فعلت؟"

" أخذت أهلي وانطلقنا إلى طرف المدينة وأقمت حجرة من البوص وجلست فيها منتظرا قضاء الله. ولم ينسنا الله من فضله فقد بدا أهل الخير ممن يبحثون عن اسر ضاقت بها الحال فيساعدونهم. فكان بعضهم يترك بعض الطعام وآخرون يتركون ملابس . رأيت في عيون زوجتي وأطفالي شرها أنكرته فقد كانوا يقبلون على الطعام كأمهم لم يذوقوه منذ زمن بعيد ويختصمون فيما بينهم على الملابس كما لو يلبسوا شيئا في حياتهم . بل كنت اسمعهم يتصايحون. فابنتي الكبرى تقول :" اتقوا الله في . ملابسي ممزقة أريد أن استر نفسي." وأخرى تقول :" مللت هذا الثوب" كانت المشاحنات تلك تزعجني وتعكر علي صفو انقطاعي لله. هؤلاء النسوة والأولاد يكسرون رقبة من يحاول رفعها إلى الله . لا تحسبهم يفكرون في شيء إلا هذه الدنيا الفانية."

" أولادكم عدو لكم"

" هذا حق. ولكن هيهات للنفس أن تقوى على المجاهدة ما لم تجد من يعينها ويساعدها على التفرغ. قلت ذلك لزوجتي. وقلته لبناتي وأولادي . حضضتهم على الصبر والتعلق بما عند الله فهو خير من كل هذا. ووافقتهم لما طلبوا أن يزوروا بعض أقاربنا ويتركون لي المجال قليلا لاستغرق في العبادة. وصاروا يطلبون تكرار الزيارة. ثم وجدتني وجدران البوص نشكو وحدتنا. ثم وجدتني أمام رجل يلبس عمامة  ويجلس وراء طاولة كبيرة والى جانبه شاب يكتب ما يقول . وما وعيت يهز رأسه موافقا لرجل وقف الى جانب زوجتي . تصور رجل أجنبي يقف الى جانبها يقول " كما ترون يا سعادة القاضي فهذا الرجل غائب عن هذه الدنيا . لقد فقد اهليته بعدما بدد ثروته وأملاكه واعتزل الناس وترك أهله عالة على الناس يتسولون ولولا رحمة الله بهم لانحرفت ابنته الكبرى بعدما حاول بعض الشبان المستهترين استمالتها ايام كانوا يترددون على الكوخ بحجة تقديم الطعام والملابس كأهل الخير. ولذا نرجو سعادتكم الامر بتطليقها منه والموافقة على وصاية خال الأولاد الحاضر أمامكم ."

شعرت بطنين في رأسي ولم أر إلا عيني القاضي تلتصقان بعيني وشفتيه تنطقان بأشياء لم أتبينها لكني استجمعت ما تبعثر من عقلي وقلت له :" سيدي ما فعلت الا ان فرغت نفسي لعبادة الله . هل الدنيا باقية . السنا مجموعين ليوم عظيم. الم يقل الله ان الحياة الدنيا لهو وزينة وتفاخر؟ فما شاننا والدنيا؟ هذه صاحبتي لم تصبر ولم تطلب مني ان اخلي سبيلها والا لفعلت. وها انذا افعل ."

وواجهت زوجتي وقلت لها :" أنت طالق وليأخذ الخال الأولاد فما هم الا لهو وزينة وتفاخر انا لا ابتغيه."

ومال على الأريكة وابتسامة عريضة تملا وجهه. وعيناه تدوران في أرجاء الغرفة. ونهض واخذ يدي وشد عليها بقوة وقال : هذا زمن فتن يا اخي . اتدري آخر فتنة طلعوا بها؟ لقد قال لي ذلك الرجل المعمم بانني فهمت الدين خطأ وإنني أستطيع عبادة الله إذا عملت وأنفقت على بيتي واهتممت ولبست الثياب الجديدة وسكنت البيوت ولو كانت قصورا . ولا أكتمك يا آخي إنني لا ادري كيف يختارون هؤلاء الناس ليحكموا بين المرء وزوجه. أهذا قاض هذا الذي يريدني ان الا انقطع للآخرة . يريدني ان أشرك الدنيا بالآخرة. أما يدري إنني لو قضيت العمر كله عابدا ما لظللت اشعر بالتقصير فكيف اذا خالطت شهوات الدنيا تجارتي مع الله؟ لقد جئت إليك يا أخي لأنني اعرف عمق إيمانك وصمودك أمام الفتن وقد كنت تحدثت إليك فيما مضى لتعتزل الناس مثلي وتنقطع لله. لكن بعدي عنك ربما جعل للشيطان عليك سبيلا فقررت ان أكون معك ونتفرغ معا للعبادة . ماذا قلت يا آخي؟ أتقبل استضافة أخيك في الله؟"

يده كانت ما تزال في يدي تشد عليها بقوة . فسحبت يدي بفتور وقلت :" تعني أن نبدأ بالبحث عمن يستضيفنا؟"