من أجلــــــها

من أجلــــــها

أحمد جمعة

[email protected]

( الرابع من إبريل لعام 2004 م / الساعة العاشرة والنصف صباحا )

القدس .. هذه المدينة المقدسة

لشد ما تغيرت يا مدينتي الغالية

الشوارع

المباني

كل شيء ..

كل شيء فيك تغير إلا صمودك وشموخك البارزين رغم كل الجراح والآلام .

أتراه يستطيع أن يتكيف مع الزمن الجديد ؟؟

عشر سنوات يا مصطفى

عشر سنوات حوّلتك من شاب في العشرين إلى رجل في الثلاثين وبقفزة واحدة !

عشر سنوات مرت عليك وكأنها مائة سنة كنت خلالها تعد الليالي والأيام بانتظار يوم خروجك .. كنت تخاف أن يسبقك الموت قبل أن تفوز بصلاة في المسجد الأقصى المبارك . صلاة تذهب ظمأ الروح والقلب اللذين أنهكهما البحث عن واحة خضراء وسط صحراء ممتدة حشد الإنسان فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة لينزع من قلبه بقية من إنسانية متجذرة في أعمق أعماقه تأبي الزوال

صلاة تنزل بالسكينة على النفس المتعبة لتمسح آلام الجسد الذي يخبر مظهره عن بشاعة وقسوة ما حلّ فيه من تعذيب .. فآثار السياط وأنياب الكلاب المتوحشة ما زالت موجودة . وأيام السجن بكل مرارتها ما زالت محفورة في عقله رافضة النسيان .

ولكنك من أول يوم أعلنتها وبطريقتك ..

تركت لهم الجسد الفاني يفعلون به ما يشاءون وسموت بروحك عاليا .. لم تكن حتى لتشعر بهم ..

كنت هناك ..

مع سمية وعمار وبلال وصهيب وخبّاب

كنت تردد مع بلال " أحد أحد "

كنت تهتف مع سمية وهي تجود بروحها في سبيل الله " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله "

كنت ترقب صهيبا وهو يدل المشركين على ماله الذي جمعه طيلة حياته ليذهب إلى حيث الرسول وكنت تردد قول النبي صلى الله عليه وسلم له " ربح البيع يا أبا يحيى "

نعم ربح البيع .. وأي بيع ؟؟!

شاهد علما يهوديا يرفرف فوق أحد المباني .. انقبض قلبه . خيّل إليه أنه ينظر نحوه في شماتة واستهزاء وهو يعلن " هذه عاصمة إسرائيل . ليست لكم "

رحمة الله عليك يا أبي .. كثيرا ما كنت تقول لي " هذه أرضك يا ولدي وأرضي وأرض أجدادنا من قبلنا ولأحفادنا من بعدنا .. لا تفرط بها إياك "

وها هو لم يفرط بها بل ناضل من أجلها وعاش عشر سنين في شيء يطلقون عليه اسم السجن . ولو أنصفوا لقالوا عنه بأنه مذبح الإنسانية .

اطمئن في رقدتك يا أبي . اطمئن

إن ابنك سار على العهد ولن يحيد عنه حتى يموت

من بعيد لاح له المسجد الأقصى يقترب .. لم يتمالك نفسه

دمعت عيناه . أحس بقلبه ينتفض بين جوانحه يود لو يسبقه نحو المسجد المبارك . فأسرع الخطى تجاهه . وفور دخوله توضأ وأخذ يصلي .

كم صلّى ؟؟

إنه لا يدري .. كل ما يعرفه هو أنه يصلي في المسجد الأقصى المبارك . في أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين مسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه نحو السماء .

كلما انتهى من صلاة بدأ بأخرى . كان يريد أن يعوض صلوات عشر سنين مضت دون أن تكون فيه وهو الذي تعود منذ بلوغه ألا تفوته صلاة في رحابه .

مرت ساعة من صلاة امتزجت بالدموع لا يدري أهي دموع فرح لخروجه من السجن وصلاته في المسجد الأقصى أم دموع حزن لكونه انتقل من سجن صغير إلى سجن أكبر منه .

سجن مضى على بنائه أربعة وخمسون عاما .. سجن قام على الدماء والأشلاء .. سجن كل مكان فيه يخبر عن مأساة شعب تعرض لأقسى حملات الإبادة والتطهير العرقي .. سجن سمي أولا بكيان مسخ مغتصب ثم تطور الخطاب ليصبح دولة العدو قبل أن يتحول إلى دولة إسرائيل .. وليس ببعيد أن  نسمع في الغد القريب اسم إسرائيل الصديقة !!

ولكن صبرا .. صبرا أيها المسجد المبارك .. فحتما سيبزغ الفجر معلنا انتهاء الظلام ومؤذنا ببدء عهد جديد . عهد الحرية والكرامة والعزة .

وفجأة وثبت على ذهنه صورتها ..

أمه .. هذه العزيزة الغالية إنه لم يرها في السجن إلا مرات معدودة قبل أن يتم منعها من الزيارة . ولكنه استطاع أن يرسل إليها بأن تنتقل عند صديقه صلاح فهناك ستجد منه وأمه كل رعاية واهتمام .

جزاك الله خيرا على صبرك يا أمي .

خرج من المسجد متجها إلى منزل صديقه يكاد يسابق الزمن . أخذ يرسم في عقله صورا للقاء المنتظر . إنها ستكون مفاجأة تنسيه وتنسيهم كل آلام الماضي

توقف أمام باب المنزل

نفس الباب لم يتغير منه شيء

أتراك كنت واهما يا مصطفى عندما ظننت تغير كل شيء ؟؟

طرق الباب

و ....

- " مصطفى . غير معقول "

بين الأحضان كان الحب الحقيقي . الحب المجرد من كل شيء عدا الله . تراخت أعصابه . أوشك أن يبكي من فرط التأثر .

- " إذن فقد أطلقوا سراحك . الحمد لله "

اعذرني يا صديقي . لا أستطيع الرد الآن .. مشاعر مختلفة متناقضة تشيج في صدري

- " وكيف أمي يا صلاح ؟ "

صاعقة تفجرت في قلب صلاح . كان الله في عونك يا مصطفى يا أخي . لا أدري ماذا أقول لك ؟؟

دام صمت للحظات ...

الشك بدأ يعبث في صدرك يا مصطفى . لم لا يرد صلاح عليك . وهل جرى لأمي شيء ؟؟

رفع عينين متسائلتين إليه

ازدرد صلاح لعابه في صوت مسموع ونكّس رأسه

- " أمك ماتت يا مصطفى . ماتت قبل أسبوعين اصبر واحتمل كلنا سنموت "

نار . ونار ملتهبة يا مصطفى .. نار تفجرت في أعمق أعماق قلبك .. وسكين حادة حزّت في قلبك قبل أن تشطره نصفين بلا رحمة .

أمك ماتت .

هذه البلسم الحنون . هذه الزهرة الفواحة .. هذه الأم الرءوف ماتت ..

ماتت ..

ماتت ..

كانت تتمنى أن تراني خرجت من السجن وقبل خروجي بأسبوعين تموت .

آمنت بقضائك يا رب

إذن لقد قطعت يا مصطفى

مات أبوك شهيدا وهو يدافع عن هذه المدينة وها هي أمك تتبعه وهي تبكي عليك وتتحرق شوقا لرؤيتك . ودون حتى أن تشارك في دفنها .

أمه . ذلك الوجه الطيب السمح الذي كلما شاهده ينشرح قلبه وتزول هموم الدنيا من صدره . وخاصة وهو يسمع دعاءها له بأن يحفظه الله ويحقق له ما يريد .

كان يتأملها في حب وامتنان

كان يحس أنه يملك الدنيا وما فيها .. كان ينتظر طلبا منها ليحققه سريعا وهو يحس بالنشوة والفرحة .

والآن ...

والآن يا مصطفى ...

أمك ماتت

ضيق هائل يجثم على صدرك .. أطنان من الصخور تحسها فوق ظهرك

شعور مرير بالألم والحسرة . موقف لم يكن ليدور في خلده أنه سيعيشه يوما .

صور متتابعة أخذت تتوالى على ذاكرته في إيقاع سريع متلاحق .

رأى نفسه وقد فقد والده في صغره وأمه تقوم بدور الأم والأب معا . رآها تحرم نفسها من اللقمة وهي لها محتاجة لتضعها في فمه . رآها تتعب وتشقى ليرتاح . رآها تسهر وتحرم نفسها طيب الرقاد لينام . رآها إذا فرح تشاركه فرحه وسعادته وإذا حزن تجلس بجانبه تخفف عنه وتسلّيه حتى يزول ما به من حزن  .

رآها ورآها ورآها ..

ماذا يتذكر ؟؟

إنه لو عاش عمره كله يخدمها بعينيه لما وفاها بعضا من فضلها عليه . ولما وصل إلى عشر ما قامت به من أجله .

- " اصبر يا مصطفى ( كل من عليها فان ) "

رفع إليه عينين مغرورقتين بالدموع التي تأبى الانهمار

- " صلاح . أريد زيارة قبرها الآن "

- " هذا مؤكد يا مصطفى . ولكن ألا تستريح قليلا  قبل أن نذهب  ؟

- " صلاح "

التفت إليه

بصوت حازم لا يقبل المناقشة :

- " الآن يا صلاح .. والله لن أفعل شيئا قبل زيارة قبرها "

العينان تبكيان يا صلاح . ليس بكاء ضعف وهوان . بل بكاء عواطف ممزوجة بالفخر والعزة . بكاء شعور فقد السيطرة على نفسه .

- " حسنا . هيا بنا "

*****

ربع ساعة من المشي مرت عليك وكأنها سنة يا مصطفى . وأخيرا لاحت المقبرة

القلب يرتجف يا مصطفى . يرتجف . تحس بشعور لم تعهده من قبل جسدك ينتفض

وينتفض

وينتفض ..

و .... " ها هو القبر يا مصطفى "

بصوت كأنه الرعد أعلنها صلاح . هنا .. في هذه الحفرة الضيقة ترقد أمه رقدتها الأخيرة

هنا ترقد أخر زهرة في بستان أحلامه وآماله .. هنا يرقد البلسم الحنون الذي كان يلجأ إليه كلما ألّمت به مشكلة أو ضاقت به معضلة .. هنا أمه

من حملته تسعة أشهر وأرضعته عامين كاملين وسهرت على تربيته الليالي والأيام .

من أفنت حياتها لرعايته وضحت بنفسها لأجل سعادته وهنائه .

أمه .. ماتت .. ماتت .. ماتت .

لم يعد قادرا . خانته قدماه .. سقط على الأرض . انهمرت دموعه  كالسيل وهو يقبل القبر وقلبه يتفطر ويتفطر .

السماء منطبقة على الأرض . الدنيا تدور .. الأشياء تتراقص أمام عينيه

و ...

هوى فاقد الوعي .

*****

( نفس اليوم / الساعة الواحدة بعد الظهر)

 

فتح عينيه ببطء وأخذ يجول بهما حوله في دهشة واستغراب .. آخر ما يذكره هو أنه كان يبكي عند قبر أمه قبل أن ينتهي فجأة كل شيء .

كل شيء .

قطع تفكيره دخول صلاح الذي تهللت أساريره واندفع نحوه قائلا في سعادة :

- " لقد استعدت وعيك . الحمد لله "

- " أين أنا ؟ "

- " أين تظن أنت ؟؟ في المستشفى طبعا . لقد أرعبت قلبي عندما سقطت أمام قبر أمك فأسرعت ونقلتك إلى هنا . والحمد لله ها أنت بصحة جيدة "

صمت للحظات كان فيها نهبا لمشاعر مختلفة امتزج فيها الحب والحزن والألم والفخر في لوحة استقرت في سويداء قلبه قبل أن يلتفت إلى صلاح ..

- " لقد هدّ موت أمي قواي يا صلاح .. وإنها كانت صدمة . وأي صدمة ... كانت زهرتي وحياتي وملجئي وملاذي . كانت الحصن الذي أفر إليه عند كل ملمة أو مشكلة كانت تواجهني "

- " ادع لها بالرحمة والمغفرة . لقد ارتاحت من ضنك الحياة وبؤسها "

- " وهذا هو ما يعذبني يا صلاح . أنني لم أعوضها ولو جزءا صغيرا من تعبها عليّ . لقد تعبت طوال حياتها . تحمّلت موت أبي معتمدة عليّ وقاست الصعاب والآلام في تربيتي . واحتملت سنوات السجن المرّة بانتظار يوم خروجي واجتماعنا معا لنحيا حياة آمنة مستقرة . كانت كثيرا ما تردد على مسامعي حكاية الزواج وما زلت أحفظ عبارتها التي لطالما رددتها ( أريد أن أعيش لأرى أولادك يحيطون بي قبل أن أموت ) "

- " وهل تعتقد أنها كانت تنتظر منك ردا لتعبها عليك ؟؟ لا يا مصطفى .. الأم تعطي بلا مقابل . الأم تنفق بلا حساب . وأمك ما شكت يوما من شيء . تحملت الكثير من أجلك ومن أجلها هي "

سأله في دهشة :

- " هي .. هي من ؟؟؟ "

- " القدس يا مصطفى . القدس .. هذا هو قدر كل أم فلسطينية . أن تعيش في ألم وتعب .. أن تحيا موزعة القلب ما بين زوجها الشهيد وابنها الأسير ووطنها المحتل وقدسها المهان . هذا هو قدر الأم الفلسطينية وأمك تحملته بشجاعة وجسارة لا توجد في بعض الرجال . صحيح أنها كانت حزينة على فراقك وصحيح أنها ذرفت الدموع عليك . ولكنها وفي نفس الوقت وضعت نصب أعينها مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يهان ويذل صباح مساء من أحط البشر وأدناهم . إنها معادلة صعبة حار في تفسيرها العلماء . الأم الفلسطينية ما بين عاطفة الأمومة ونداء الواجب . ألم تسمع عن الاستشهادية البطلة ( ريم الرياشي ) وكيف قبّلت أبناءها قبل ذهابها لتنفيذ العملية ؟؟ ألم تشاهد خنساء فلسطين ( أم نضال فرحات ) وهي تودع ابنها ( محمد ) قبل ذهابه لتنفيذ عمليته .. وهي تعلم انها آخر مرة تراه ؟؟ إنه الحب يا مصطفى .. الحب الذي جعلهن يعبّدن طريقا طويلا بالدماء وذلك حتى يعيش أحفادنا في وطنهم بغير احتلال بغير قتل وتدمير وارهاب .. هم يحبون الحياة ويحبون الأمل ويحبون الناس ولكنهم يرفضون العيش في عالم القوي فيه يأكل الضعيف بحق أو بغير حق . في عالم لم يعد يعرف او يؤمن بغير لغة القوة . لقد كتب علينا يا مصطفى أن نحيا في ظلال ملحمة العصر . ليست بين اليهود والفلسطينيين فقط .. لا .. بل بين اليهود ومن والاهم وبين المسلمين . كتب علينا يا مصطفى أن نكون طلائع جيش حراسة الأقصى فهل نتخاذل ونتحجج بحجج عدة لا أساس لها من الصحة . أم نكون رجالا بكل معنى الكلمة لا نبتغي إلا إحدى الحسنيين  . إما النصر أو الشهادة .

أمك الآن يا مصطفى بإذن الله مع أبيك(  في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . فهل عرفت الآن يا مصطفى ؟؟ " 

دموع تتساقط يا مصطفى . دموع كالسيل .. لا في عينيك بل في قلبك .. وفي أعماقه تحديدا . لقد أيقظ كلام صلاح فيك أشياء عدة . أيقظ فيك الروح والقلب والعقل . أيقظ فيك الوجدان . أيقظ فيك مشاعر كنت تظنها ماتت أو كنت عازما على دفنها أول خروجك من السجن .. مشاعر اختلطت بصور وأقوال . مشاعر امتزجت بالأمل والألم . رحمة الله عليك يا أبي . رحمة الله عليك يا أمي .

- " صلاح . متى عمليتكم القادمة ؟ "

التفت إليه في استغراب

- " بعد ثلاثة أيام . ولكن لماذا ؟ "

- " سأكون ضمن منفذيها "

حدّق فيه بدهشة :

- " ماذا تقول يا مصطفى ؟؟ أقول لك بعد ثلاثة أيام وتريد المشاركة فيها وأنت لم يمض على خروجك من السجن ساعات قليلة . اسمع ..  استرح أياما وبعدها نرى ما الذي يمكن فعله "

- " صلاح . لن أنتظر .. سأشارك في هذه العملية  .. أنا الآن مشحون بطاقة هائلة من الغضب والثورة وراحتي الحقيقية لن تتحقق إلا بخروج هؤلاء الكلاب من أرضنا بلا عودة فبالله عليك لا تحرمني هذا الأجر . بالله عليك .. دعني أحس بالفخر أنني قدمت شيئا في هذه الحياة .. أنني فعلت شيئا من أجل الأقصى .. أنني جاهدت بما أستطيع  "

بصوت باك :

-" وكل ما قاسيته .. أليس جهادا وفخرا لك ؟؟ "

- " ربما يكون كذلك . ولكنه لا يكفي .. نعم لا يكفي .. صلاح أقسمت عليك بالله ألا تحرمني "

لله درك يا مصطفى . كنت وما زلت أسدا هصورا . بارك الله فيك

- " حسنا يا مصطفى .. ستشارك "

الدنيا تضحك لك .. جاء يومك يا مصطفى .. جاء اليوم الموعود الآن سيعلم الجميع ما ستفعله ..

الآن سيعلم أبوه ويتأكد من تطبيقه وصيته التي حفظها عن ظهر قلب " هذه أرضك يا ولدي وأرضي وأرض أجدادنا من قبلنا ولأحفادنا من بعدنا .. لا تفرط بها إياك "

لا تفرط بها .

لا تفرط بها ..

الآن سيعلم ذلك المحقق القذر والذي كان يتلذذ بتعذيبك وسماع تأوهاتك والتي كنت تفضل أن تموت ولا تخرج منك صرخة ترضي نرجسيته الدموية .

الآن سيعلم الجميع

 

*****

( الثامن من إبريل لعام 2004 م / الساعة الثامنة مساءا )

 

في نصف ساعة عرفت مهمتك يا مصطفى . وهي عملية مزدوجة و صعبة واحتمالات الموت فيها كبيرة ولكن .. من الذي قال أنك تهاب الموت ؟؟

ترى هل يعرفون أنك في قرارة نفسك تتمنى أن تموت شهيدا .. الله ما أجملها من كلمة .. كلمة شهيد .

 ترى هل قرؤوا مثلك قول الشاعر وهو يقول :

( هل يفهم السفهاء ما معنى الشهادة في سبيل الله

أوليس نوالها أضحى مناك ومطمعك ؟؟

كم حاصروك وطاردوك وأوقفوك وقهقهوا

متوهمين بأن ذلك كله قد أخضعك

كم عذبوك وما اعترفت سوى بحبك للتراب

وكم بكيت ..

وكنت في صمت تكفكف أدمعك )

انزاحت من ذهنك الدنيا وزخارفها .. بتّ تحلم الآن بالجنة . جنة الله الخالدة والتي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..

فما بينك وبينها إلا أن تقتل

امض يا مصطفى وأنت تقول :

( يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها)  ..

امض وكيانك كله يهتف والكون يردد معك :

( ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي )

- " مصطفى . هل أنت جاهز ؟ "

سؤال ليس في محله يا صديقي . أنا لست جاهزا فقط . بل وعلى أتم استعداد ..

- " مصطفى "

نظرات حانية .. نظرات أخوية و ....

تعانق الاثنان

- " احرص على نفسك يا مصطفى .. لقد وافقت على اشتراكك رغما عني لإلحاحك ورجائك . نحن نريدك يا مصطفى . نريدك في أشياء أكبر من التنفيذ .. ستتولى منصب نائب القائد.  أرجوك .. حاول قدر استطاعتك أن تعود "

- " بل قل احرص على الجنة .. لا فائدة يا صلاح .. لقد قررت ولن تملك قوة في الدنيا أن تثنيني عن قراري .. وبالنسبة للمنصب فأنا أرشحك بدلا مني فأنت تملك من الحزم والشدة والخبرة مالا أملكه . ووصيتي لك أن تدفنني بجوار أمي .  وداعا يا صلاح أو إلى الملتقى قريبا في الجنة إن شاء الله .. "

قالها ووجهه يضيء نورا وخرج .

*****

ها هو الهدف يا مصطفى . موقع عسكري ويرفرف عليه علمهم الكريه .. ها أنت تسمع ضحكاتهم الساخرة .. حسنا اضحكوا كما تريدون .. فسترون الآن

أخذ يزحف وزميله متجهين نحو الموقع في صمت وسكون . لم يحس بتعب .. كانت الصخور الصلبة تؤلم جسده ولكنه تجاهلها . بل لم يكن يفكر بها ...

كان هناك ..

مع أبيه وأمه اللذين سيلقاهما بعد قليل إن أكرمه الله وكتب له الشهادة . يالله ما أجمله من لقاء ويا خاتمته المشرقة لو منّ الله عليه وجمعه بهم في جنته ومستقر رحمته .

انتبه لنفسه وعاد إلى أرض الواقع .

أخذوا يقتربون ويقتربون حتى وصلوا إلى نقطة الصفر .

التقط نفسا عميقا وأشار على صديقه ببدء القتال وهو يصرخ :

- " الله أكبر "

انطلق أيها الرصاص . انطلق فهذا يومك . اضغط على الزناد يا مصطفى .   لا تقتصد في الذخيرة . اضرب لا تأخذك بأعداء الله رحمة ..

تذكر صراخ النساء وبكاء الأطفال وحزن الرجال

تذكر بيوتا هدمت ومزارع جرّفت ومساجد دنست

تذكر جراحا نزفت ودماء سالت ودموعا طالت

تذكر ..

تذكر ..

ها هي الجنة تفتح لك أبوابها وها هن الحور العين بجمالهن الذي يخلب الألباب ويخطف الأبصار تتقدم إليك ..

وليس بينك وبينهن إلا أن تقتل

إلا الشهادة

تذكر يا مصطفى قول الصحابي البطل ( لئن بقيت حتى آكل هذه الثمرات إنها لحياة طويلة) نعم حياة طويلة ..

هذا يومك يا مصطفى . هيا

ما بالك توقفت يا مصطفى ؟؟ قم وقاتل أعداء الله

ولكن .. ما هذا ؟؟

لقد أصبت يا مصطفى . أصبت أتراها الشهادة ؟؟

ولكن لا ...

ما زال في النفس بقية قم وقاتل أعداء الله . قم وقاتل حتى آخر قطرة من دمك وآخر نفس يتردد في صدرك . و.. رصاصة أخرى يا مصطفى .. سقطت على الأرض .. لم تعد تحتمل

الحور تقترب أكثر

وأكثر ..

تبصر صديقك المجاهد يفرغ سلاحه في صدورهم . تسمع صراخهم وعويلهم كالنساء . تبتسم يا مصطفى

صور أخذت تتوالى على ذاكرتك :

أباك ... 

أمك ...

صلاح ..

المحقق الصهيوني ...

المسجد الأقصى ...

المسجد الأقصى ..

المسجد الأقصى ...

تردد في خشوع وإيمان :

- " لا إله إلا الله . محمد رسول الله "

ها أنت تلمح أباك يناديك . وهذه ... أمك

أبي . أمي . ها أنا قادم .. قادم

تفتح عينيك لآخر مرة وتجول بهما في السماء فيما تعلو ابتسامة مشرقة مضيئة شفتيك قبل أن يسكن الجسد أخيرا وتنطلق روحك تحفها رحمة الله ورضوانه وتشيعها الملائكة .

الآن نم يا مصطفى قرير العين

لقد نفذت وصية أبيك ..

لقد بذلت آخر قطرة من دمك و آخر لحظة في حياتك من أجلها

من أجل القدس

لله درك يا بطل .