لقمة الزقوم

محمد علي شاهين

لقمة الزقوم

محمد علي شاهين

[email protected]

اتخذت كل معلمة ركناً من أركان غرفة المعلمات، وانهمكت في إعداد قائمة دعم ميزانية الأسرة، بينما كانت الابتسامة تتلاشى من على وجوههن، سوى المعلمة ماري أشد المعلمات حرصاً على حماية الراتب من التوزيع والتبديد، فقد بدت سعيدة ورشيقة في نهاية العقد الخامس من عمرها .

عدّت ماري القطع الورقية الكبيرة عدة مرات، وثنتها برفق، ثم عقدت عليها محرمة قماشية أنيقة، وجعلتها تختفي عن الأنظار في محفظة جلدية صغيرة، وتغوص عميقاً في جيب ثوبها الداكن القديم، وأخذت تهرول مسرعة نحو صفّها، لتكبح ضجيج الطالبات في نهاية الاستراحة .

    تذكرت ماري وقد استدارت نحو السبورة السوداء المحفظة الجلدية، فأخذت تتحسسها بيدها اليسرى وهي مطمئنة، وقالت في صمت ودهاء، وهي تخط عنوان درس مادة الحساب بأصابعها المهترئة: سأجعل موضوع الدرس اليوم: الجمع، لأنني أتشاءم من التقسيم في اليوم الأول من كل شهر .

    فجأة توقفت ماري عن الشرح المستفيض، وأخذت تبحث في صدرها وجيوبها عن شيء ما فقد منها، ثم ألقت قالب الطباشير من يدها، وسحبت درج المنضدة بعصبية، وأخذت تقلب أوراقه بقلق، ثم أخذت تنظر في مواضع أقدامها فوق المنبر الخشبي، بينما كانت عيون التلميذات المذهولات في حيرة واستغراب .

    ثم خرجت من الغرفة بخطى مسرعة إلى غرفة المعلمات وقد خلت منذ وقت قصير، فدقّقت في كل ركن من أركانها، وتفحصت المقاعد القماشية بعناية، وقلبت أطراف سجادتها البالية دون جدوى .

    أعلنت حالة الطوارئ في المدرسة، واعتبرت السيّدة المديرة فقدان المحفظة المنتفخة براتب المعلمة ماري تحدياً لإدارتها، وتشويهاً متعمداً لسمعة مدرستها، فأوعزت إلى فرّاشة المدرسة وزوجها بسد الأبواب، ومنع الدخول إلى المدرسة والخروج منها، فنجحا بهذه المهمة وفرضا النظام بكل قسوة وفظاظة .

وأخذت تطرق أبواب الصفوف لتضع المعلمات في صورة ما حدث، ثم توجهت مباشرة إلى الطالبات فوصفت لهنّ محفظة المعلمة ماري، وأغرتهنّ بالمكافآت السخيّة، عند اكتشافهنّ سر فقدان المحفظة، واسترسلت في الحديث عن الأمانة التي حملها الإنسان، لكن جهودها باءت بالفشل، وكأن الأرض انشقت وابتلعت المحفظة .

 

    وبدأت المعلمات بالمواعظ الأخلاقية على حساب المنهج الدراسي المقرر دون جدوى .

    واقتنع الجميع بأن المحفظة لم تخرج من المدرسة، وبقي السؤال المحيّر: كيف يمكن الوصول إلى المحفظة، دون إجابة .

    وعندما بدأت الاستراحة بدت نظرات المعلمات متجمدة بينما كانت أيديهن تتحسس الراتب في جيوبهن العميقة القرار، خشية أن يقوم اللص المجهول بارتكاب عملية سطو جريئة تطال ضحية جديدة من المعلمات المغفّلات .

    فجأة قامت من مقعدها معلمة من جيل ماري أشرفت على التقاعد، وغادرت الغرفة المكتظة بالمعلمات، ثم توجهت إلى غرفة الإدارة، فشرحت خطتها لاستعادة المحفظة، وسرعان ما وجدت الخطة استجابة منقطعة النظير من المديرة العجوز والسيدة ماري .

    جاءت صاحبة الاقتراح (بوابور) كاز ملتهب، وطنجرة فيها محلول زيتي، وصحن ملئ على عجل بكسرات خبز من بقايا فطور التلميذات، فوضعتها فوق منضدة خشبية مربعة تتوسط صالة المدرسة .

    وفي حجرات المدرسة بدأت المعلمات ببيان محتويات طبخة لقمة الزقوم، ووصف مذاقها المر، ولم تكن الطالبات الصغيرات بحاجة لوصف رائحتها النتنة التي ملأت صالة المدرسة وحجراتها .

    وأكدت المعلمات بناءً على خبرة صاحبة الاقتراح، أن الجميع سيتذوقون طعم هذه اللقمة التي لا خطر فيها على الإنسان الشريف، وأن لقمة الزقوم ستتوقف في حلق من سرق المحفظة، أو تستّر على سارقها .

    وجاء موعد الاستراحة الثانية، فخرجت الطالبات إلى باحة المدرسة، على صوت بابور الكاز الأجش الذي جلب النعاس إلى جميع الصفوف، وقد بدت طبخة الزقوم ناضجة، وبجانبها صحون وملاعق أعدت لتناول هذه الوجبة السحرية.

    وجاءت فتاة من باحة المدرسة بمنديل أنيق معقود على محفظة جلدية سوداء منتفخة براتب السيدة ماري، ادعت أنها وجدته في حمام المدرسة .

    رفعت حالة الطوارئ في المدرسة، وفتحت بوابتها الخشبية، وصمت (بابور) الكاز الأجش، وتوقفت محاضرات الوعظ، وفتحت نوافذ المدرسة لتخرج منها رائحة طبخة المعلمة العجوز .

وعادت الابتسامة إلى وجوه الطالبات الخائفات، وهدأت دقات قلوبهن الصغيرة، وكانت أشد المعلمات سروراً صاحبة الطبخة، والسيدة المديرة الشديدة الحرص على سمعة المدرسة، والمعلمة ماري التي استقرت محفظتها الجلدية المنتفخة في جيب ثوبها العميق .