لحظة صدق
محمد نجيب بنان
حلب الشهباء
العم أبو محمد واسمه عبد الرحمن في الأربعين من عمره يعمل في صالة عرض للمفروشات , يبدأ صباحه بروتين معتاد لا يغيره , فبعد وصوله إلى صالة العرض يسرع إلى الغاز فيشعله ويضع فوقه ركوة القهوة المرة ويبدأ النهار , ليس للقهوة نكهة ولا متعة ولا لذة إلا إذا كان معها سيجارة من التبغ الوطني التي تعادل السيجارة منه الضعف أو أكثر من غيرها من الأنواع , ولا يعرف هذا إلا الذواقون على حسب رأي العم أبي محمد , والعم أبو محمد هو ممن يتمتعون بذلك الذوق الرفيع والخبرة الطويلة وهو يرى أن القهوة والسيجارة روح وجسد ينبغي أن لا يفرق بينهما ولذلك فهو لا يحتسي القهوة المرة إلا مع السيجارة , و بينه وبين السيجارة مودة طويلة وصداقة قديمة , فهي صديقته منذ خمسة وعشرين عاماً أو أكثر , وهو على حاله هذه منذ فترة طويلة , يقضي اليوم بطوله خلف طاولته يغلي القهوة ويستضيف الناس , فيشربون ويستمعون ثم بالسلام يودعون , فترة طويلة من الزمن مرت وهو على هذه الحالة , روتين يومي قاتل , ودخان يقصف العمر , وضيوف لا ينتهون , يشربون ويمشون , ومع الأيام ازدادت خبرة العم أبي محمد في تصنيع القهوة المرة فصار فارساً في مجال تصنيعها , وصار فارساً أيضاً في شرب السجائر فقد صارت الكمية تزيد مع الوقت حتى صار يشرب يومياً علبتين من السجائر التي يقوم بلفها بيديه بحرفة ودقة واعتناء , وما دامت السيجارة حبيبته فهو لا يستطيع فراقها , بل إنه كان يقبلها وأمام الجميع , ويضعها بين شفتيه ويسحب الهواء من بين ضلوعها ويرى الوجود من خلال دخانها , وهو بطبيعته وفيٌّ لأصحابه لا يطيق بعداً عنهم وهذه الصديقة على رأسهم .
لكنه بين الفترة والأخرى كان يشعر بانزعاج من هذه الصديقة التي بدأ يزداد سعاله كلما قبل فاها وكان يتمنى وما نيل المطالب بالمتمني , أن يمن الله عليه بفراقها , طبعاً دون أن يكلف نفسه عناء طردها , أو حتى صعقها بخبر الفراق , ومرت الأيام والعم أبو محمد تزداد أمنيته لكن دون أي تقدم من طرفه إلى أن كانت تلك الليلة , التي صحا فيها العم أبو محمد من نومه ضيقاً صدره يشعر بأنه يحتاج إلى شيء وسرعان ما تذكر أنه ينقصه أن يقبل فم حبيبته , ولم يكن يدري أنها خيانة خصوصاً أن زوجته بجواره على السرير فانسل من فراشه بهدوء حتى وصل إلى جوارها تلألأت عيناه بالفرح عندما رآها ضمها إلى صدره بحنان وشوق ولهفة كما يفعل المحبون عندما يلتقون بمن يحبون , وخصوصاً إن نامت أعين الرقباء , تمنعت السيجارة بدلال لم يستطع مقاومته , وابتعدت عن فمه وطالبته بصديقتها القهوة , فما كان من العاشق المجنون إلا أن لبى نداءها واستجاب لرغبتها وأشعل النار فيها , كتعبير عن حبه , فمن الحب ما قتل , أشغل السيجارة ولم يأخذ منها شيئاً وضعها في جوار القهوة , وهي تلتهب وتنظر إليه وترمقه وتناديه أن هيا إليَّ قبلني ضمني إليك , دعني أفنى لأجلك فقد طال البعاد , لكن العم أبا محمد لم يستجب لها كعادته , ولم يعد يغريه صوتها الذي لا تتحمله الجبابرة من الرجال و استمرت في نداءها وهي تحترق من أجله لكنه لم يقبلها كعادته , ساد الصمت طويلاً وسرح العم أبو محمد في خياله بعيداً بعيداً , راح يحلل علاقته الآثمة بتلك التي تخرب البيوت العامرة , راح يفكر كم دفع من أجلها , وهو الفقير الذي لا يملك من المال إلا القليل , راح يفكر في تلك السنوات الطويلة التي قضاها بصحبتها وراح يسأل نفسه لو أنني أنفقت على نفسي وزوجتي وأولادي ما أنفقته على تلك العاهرة ألم يكن خيراً لي ؟ نعم هي عاهرة وإن لبست ثوب التقى الأبيض كرمز للنقاء ولكن السواد الذي يخرج منها والذي استقر في صدري الكثير منه يعبر عن حقيقتها , وبينما هو في شروده سمع صوت سعال زوجته أم محمد يملأ الغرفة ويقطع عليه شروده , نظر إلى السيجارة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة تموت شوقاً إلى شفتيه وهو غير مبالٍ , وفجأة انتفض من مكانه انتفاضة من لسعته عقرب , راح يقول لماذا صحوت ؟ لماذا أنا جالس ؟ كان الجواب أنت مستيقظ كما كل العشاق من أجل عشيقتك التي لم تستطع النوم من شدة شوقك لها , فاستيقظت لتغمرها بحنانك فتغمرك بدخانها , لكن ما زاد انتفاضة العم أبي محمد هو تلك النغمة الشجية وذلك الصوت الرقيق النديُّ لمؤذن الحارة الذي اعتلا المئذنة وراح ينشد ويقول : سبحان الواحد الأحد , سبحان الفرد الصمد , سبحان الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد , سبحان الأول بلا بداية , سبحان الآخر بلا نهاية , سبحان من له في كل شيء آية , تدل على أنه واحد , كانت تلك الكلمات تنهال عليه برداً وسلاماً وطمأنينة في قلبه , ولما وصل في نشيده السماوي إلى قوله :
وناداهم عبادي لا تناموا *** ينال الوصل من هجر المناما
ينال الوصل من سهر الليالي *** على الأقدام واستحلى القياما
ازدادت انتفاضته وراح يقارن بين حبيبته التي صحا من أجلها ولم يطق بعداً عنها فاستيقظ يناجيها ويلبي رغباتها , وبين المحبوب الذي صحا الأتقياء من أجله يناجونه ويدعونه متلذذين بلحظات القرب , فصغرت نفسه في عينه , نظر إلى السيجارة وقد فاضت روحها الخبيثة , فقال لها هذا فراق بيني وبينك ثم رفع يديه إلى السماء والدموع تترقرق في عيونه وهتف يا الله وبكى طويلاً , واستغرق في الحزن , ولم يخرجه من حالته تلك إلا يد زوجته التي بدأت تهزه هزاً رفيقاً وهي تقول له ألن تصلي الفجر ؟ عاد إلى الدنيا وبدأ يمسح دموعه وكان المؤذن قد وصل في أذانه إلى قوله الصلاة خير من النوم فقال : لبيك ربي وسعديك , وسعى إلى المسجد ليؤدي الصلاة مع المصلين وهو في حالة من النشوة والسرور لم يشعر بها من قبل , كان يشعر بخفة جسمه ورشاقة حركته وسعادة لا يدري مصدرها لكنه فيما بعد فهم بأنها نشوة الصدق , بأنها لذة المناجاة التي لا تعدلها لذة , ومنذ ذلك اليوم والعم أبو محمد في خصام مع صديقته السيجارة , لكن تلك الحادثة الغير طبيعية بقيت راسخة في ذهنه وكلما ذكرها يقول : يا بني لحظة صدق واحدة كافية لتغيير حياتك للأفضل فعش هذه اللحظة وغير حياتك نحو الأفضل .