براءة من السماء
براءة من السماء
بقلم : غرناطة الطنطاوي
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترصّد كفّار قريش، ويعرف أخبارهم وما ينوون عمله...
ونظر بفكره الثاقب إلى أصحابه وقال:
" لأبعثنّ عليكم رجلاً أصبركم على الجوع والعطش ".
تُرى من سيكون هذا الرجل؟… إنه عبد الله بن جحش…
أمره الرسول الكريم أن يخرج مع ثمانية من أئمة المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد… وأعطاه كتاباً وأمره أن لا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين… بعدها يفتح الكتاب ويقرأه، ويمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً...
جمع عبد الله الرجال الثمانية، وسار بهم مسيرة يومين... وعندها قام بما أوصاه قائده الملهم، ففتح الكتاب وقرأه:
"إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلَّمْ لنا من أخبارهم".
قبّل عبد الله كتاب رسول الله ووضعه على رأسه وقال:
- سمعاً وطاعة...
ثم التفت إلى أصحابه وقرأ عليهم الكتاب وقال لهم:
- ما قولكم الآن يا أصحاب رسول الله؟ أترافقونني أم تذهبون لحال سبيلكم؟ فلكم الخيار في ذلك...
هتف الصحب الثمانية:
- نحن معك ننفّذ أمر الرسول الكريم..
تبسّم عبد الله بسمة نورانية، وتقدّم حتى وصل إلى النخلة التي بين مكة والطائف، وأخذ يجول ببصره هنا وهنالك، علّه يسقط على خبر أو شبهه فيخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تراءت له عن بُعْدٍ عِيْرٌ لقريش تحمل تجارة لها، فصاح عبد الله بأصحابه، وأشار لهم ناحية العِيْر...
سَرَتْ همهمة خافتة بين الصحب...
"أنهاجمهم ونحن في آخر يوم من رجب وهو شهر حرام؟ أم نتركهم يدخلون الحرم فلا نصل إليهم أبداً؟
« تضاربت الآراء ثم تشابكت واجتمعت على مهاجمة العِيْر وما تحمله من مال ومتاع، المسلمون في أمسّ الحاجة إليه، وهو من حقّهم، فقد خلّفوا في مكة أموالهم ومتاعهم وكلَّ ما يملكون، وأصبحوا في دار الهجرة والغربة لا يملكون شروى نقير...
التحم الحقّ والباطل، النور والظلام، فأنّى للظلام أن يحتمل هذا النور المشعّ على الكون، فيميل الحق على الباطل ويمحقه، فيُقتل من يُقتل، ويؤسر من يؤسر، ويهرب من يهرب.
تهادت العير أمام رسول الله ورأى خلفها الأسيرين، يتقدّمهم عبد الله وصحبه...
تغيّر وجه الرسول الكريم وقال:
»ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام«..
وأبى أن يأخذ من الغنيمة شيئاً.
أُسقط في أيدي عبد الله وصحبه، وتحوّل الفرح إلى ترح... تمنَّوا لو أن الأرض قد انشقّت وبلعتهم، أفضل من أن يقفوا هذا الموقف المخزي أمام قائدهم ونبيّهم وحبيبهم المصطفى...
ومما زاد في تعاستهم تعنيف المسلمين لهم أينما ذهبوا... إنهم اجتهدوا في الرأي وأخطؤوا، وما ابتغوا من ذلك إلا إرضاء الله ورسوله، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت... ولكن الله المطّلع على خفاياهم، العالم بسرائرهم، الرحيم بهم، يُنْزِلُ من فوق سبع سموات علت، براءةً لذمّتهم، وثناءً على عملهم، ويجعل من قتالهم هذا هدى يهتدي به الناس إلى يوم القيامة...
ويطفح البشر على وجه الرسول الكريم، وتضحك أساريره، وينطق وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى:
]يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [.
هلّل المسلمون وكبّروا وهنّؤوا أخاهم عبد الله وصحبه، بما أنزل الله مؤيّداً ما فعلوه، فهبَّ عبد الله شاكراً حامداً، ثم خرّ ساجداً شاكراً، فقد التأمت جراح نفسه، واطمأن ضميره، فهو لم يخفر ذمّة، ولم يتسبب بعنت أو حرج لقائده، ولا لإخوانه المسلمين، ورفع رأسه من سجدته التي طالت، وإذا دموعه تغسل وجنتيه ولحيته، وتسقي الثرى الذي سجدت فوقه جبهته الشموخ، بماء النفس الرصينة، فقد قطع الله دابر الدعاية القاسية التي روّجتها قريش عن استحلال رسول الله وأصحابه الشهر الحرام، وسفك الدماء فيه، وأخذ الأموال وأسر الرجال...
وقام المصطفى عليه الصلاة والسلام بتقسيم الغنائم -التي غنمها عبد الله- على المسلمين بالعدل والقسطاس، فيما كان ضمير عبد الله يأوي إلى ركن شديد من الاطمئنان إلى أنه خدم دينه، وحاز رضا الله غاية الغايات عنده...