صباح الصابرين

صباح الصابرين

بقلم :  غرناطة الطنطاوي

استجمع أطراف شجاعته، وقدّم استقالته من عمله المضني، الذي أفنى فيه ثماني سنوات من ربيع عمره، مقابل دريهمات معدودة، لا تكاد تسدّ رمقه ورمق سبعة أفواه فاغرة، كلما ألقمها قالت هل من مزيد...

كم من الليالي الطويلة أمضاها على فراش من التوجّس والتخوّف... أيظل هكذا (مكانك راوح) أم يضع عائلته على كفّ عفريت، قد يأخذهم إلى مدينة الأحلام الوردية، وقد يرمي بهم في وادي الأفاعي من غير رحمة... ولكن...

"ومن يتهيّب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر"

هكذا قيل...

قضى ليلته تلك في صلاة ودعاء وأمل ورجاء..

في الصباح ذهب إلى عمله بنشاط لذيذ، ولكن بأعصاب متوتّرة متحفّزة، وقدّم استقالته، ثم تحسّس الخمسين ديناراً التي في جيبه، تلك التي استلفها من صديق مغامر مخلص، فأحسّ باطمئنان وأمان...

بدأت الخواطر تتراقص أمامه...

أيشتري (عربية) يبيع عليها الخضار؟...

أيشارك أحد أصدقائه ويفتح محلاً للبقالة؟..

وهداه تفكيره إلى عمل صغير ذي دخل ضئيل، ولكن إذا تعهّده بالرعاية فقد يثمر ويترعرع…

 

*          *          *

ياله من يوم دافئ عندما جمع صغاره حوله محتفلاً وإيّاهم بأول ربح من عمله الجديد، وقد وضع صحناً من الحلو المتواضع على الأرض... يلقم هذا ويغمز ذاك بين لعب ولهو وسعادة لم يشعر بها من قبل...

وسعادته تلك أخذت في التفرّع والنماء كالشجرة... بعدما توالت الأرباح وأصبحت آلافاً من الدنانير... التي محت سواد أيامه وقتامة ساعاته...

أغدق على نفسه وعلى أصحابه بسخاء... كيف ينسى تجربة فقره المريرة؟.. ما بخل على فقير أو مسكين...

جاءه يوماً صديقه يشكو همّه، ويطلب معونته، بمبلغ كبير وهو واثق أنّ مشروعه هذا سينجح ويعيد المال في أقرب فرصة...

أقرضه ما يريد وهو يتذكّر الخمسين ديناراً التي استلفها ذات يوم...

] وتلك الأيام نداولها بين الناس [ صدق الله العظيم.. والخمسون ديناراً أصبحت آلافاً... ولكن صديقه كان سيء الحظ إذ خسر كل ما يملك في لمحة عين..

شعر بألم يحزّ في نفسه لما آل إليه صاحبه. إذ الآلاف العشرة من الدنانير التي أقرضها صديقه ذهبت مع الريح...

ما عليه إلاّ أن ينثر الملح على الجرح ويصبر كأنّ شيئاً لم يكن... ولكنّ الأيام أبت أن تتركه وشأنه، فقد كانت تترصّده بكارثة أكبر وأفجع.. ممتحنة صبره وجلده... فالباخرة التي تحمل أمله ومستقبله غرقت إثر عاصفة هوجاء وتركته كالشجرة العارية في شتاء قارس...

وصل إليه الخبر المؤلم... شعر بالبرودة تسري في أطرافه وفي نفسه وقلبه... ولكنه تمالك وتصبّر واصطنع ابتسامة باهتة على محياه...

ولكن ماذا يصنع بهذه الأفعى السوداء التي تلفّ على رقبته وتعصرها، لم يستطع أن يأكل لقمة واحدة طوال يومه... ولم يغمض له جفن في ليله الطويل...

بدأ يشعر بالمرض يزحف إلى جسده المنهك... فهو قلق على أيامه القادمة كيف سيبدأ من الصفر... قد مرّ بهذه التجربة من قبل عندما كان شاباً... أما اليوم والشيب قد اشتعل في رأسه، وحيويّة الشباب قد أدارت له ظهرها، فكيف؟ كيف؟..صرخ من الألم، وأمسك رأسه فوقع على الأرض في حالة إغماء...

استيقظ وهو على فراشه والهزال قد أكل من جسمه وشبع، وبثور مؤلمة تفجّرت في جسمه، حتى إنّ مجرّد الرقاد على فراشه أصبح محنة شديدة، إنه يشعر أن أمراض الدنيا كلها ستسكن جسده.

قال له الطبيب:

- إنّ القلق سيقضي عليك، ربما خلال أسبوعين، فالقلق يصنع أمراضاً لاوجود لها.. وقد تشفى إذا تخلّصت من قلقك...

ولكن المسكين لم يسمع من كلام طبيبه سوى أنك ستموت بعد أسبوعين... إذن هذه هي الحياة.. تعب وشقاء حتى الموت... يالها من حياة تافهة.. وليكن.. فلتحلّ هذه المشكلة بالموت..

كلّها أيام وتفارق هذه الدنيا المتعبة...

هكذا كان يحدّث نفسه ببساطة ، حتى ملأه هذا الشعور راحة وطمأنينة... فاستغرق في نوم هادئ طويل بعد سهاد وسهر قرّحا عينيه... وعندما استيقظ أقبل على طعامه بشهية مفتوحة.. كأنه يودّع الدنيا.. لم يعد يفكّر في شيء؛ فالموت قدر لامفرّ منه، وسينقذه من مشكلات جسيمة…

وهكذا مرّت الأيام ..

 يأكل وينام.. ينام ويأكل... فازداد وزنه وسرى الدم في عروقه، واندملت بثوره رويداً رويداً...

أخذ يتمشى في أنحاء البيت مستعيناً بعكاز ثم انتقل إلى الحديقة... كم كان دهشاً من هذا التغيير..

 يا تُرى أهي صحوة الموت كما يقولون؟

ولكن طبيبه أكّد له أنه بريء من كلّ علّة.

بثّ كلام الطبيب في نفسه العزيمة، ورفع معنوياته، حتى عاد كما كان قوياً معافى... وعليه أن يبحث عن عمل...

لاح له الأمل في سماء حياته، وغمره بنشوة عارمة، جعلت الحرارة تسري في جسده كحرارة الشباب... وانطلق يردد:

- حقاً إن اعتكار الليل يؤذن بالفجر.