فلتشهد يا شجر الزيتون
فلتشهد يا شجر الزيتون
بقلم :نازك الطنطاوي
- يا أمَّ محمّد.. يا أمَّ محمّد..
صوت ينادي من بعيد..
سمعت أمُّ محمّد الصوت، بينما كانت تشعل التّنّور، وتحضر العجين للخبيز!!
في أول الأمر لم تكترث للصّوت، وظلّت تتابع عملها، ولكنّ الصّوت ازداد قرباً وقوة فوقفت تنظر من يكون صاحب هذا الصّوت.. وإذا جارتها أمُّ حسن تركض نحوها، وهي تصرخ وتلطم خدّيها، وعندما صارت بجانبها، وقفت تلهث محاولة استرداد أنفاسها..
دهشت أمُّ محمّد لتصرّف جارتها، وسألتها بلهفة:
- خيراً يا أمَّ حسن لماذا تصرخين؟!
نظرت أمُّ حسن إلى جارتها أمِّ محمّد، والدموع تنهمر من عينيها:
- سعاد يا أمَّ محمّد!!... سعاد؟!!
صرختْ أمُّ محمّد:
- مالها سعاد يا أمّ حسن؟ قولي.. انطقي.. قطعت قلبي؟..
قالت أمُّ حسن:
- إنها جريحة يا ولدي...
لم تصدّق أمُّ محمّد أذنيها، فقالت بشيء من الذُّهول:
- ولكنّها كانت هنا قبل ساعة، وقالت: إنها سوف تساعد والدها في قطف الزيتون...
وقبل أن تكمل حديثها، أمسكت أمُّ حسن بيدها تشدُّها:
- ليس هذا وقت الكلام... امشي... اركضي..
وفي الطريق كانت أمُّ محمّد تسرع الخطا وهي تحدّث نفسها:
- سعاد أنا لا أصدّق...!! إنها فتاة طيّبة وخجولة، تحبّ الخير لكلّ النّاس، فما الذي حدث؟!
لم تكن المسافة بين القرية والحقل متباعدة، وكانت أمُّ محمّد تقطعها بسرعة وسهولة، فماذا ألمَّ بها اليوم؟ كأنّها أصبحت طويلة وشاسعة وشاقة تكاد لا تقوى على قطعها.. وبدأت الهواجس والأفكار تتضارب في رأس أمّ محمّد، وأحسّت بدُوار في رأسها، كاد يسقطها أرضاً.. لولا أن جارتها أمَّ حسن، تنبّهت للأمر، فأمسكت بيدها وهي تقول:
- تماسكي يا أمَّ محمّد، لقد وصلنا..
وفي الحقل شاهدت أمُّ محمّد ابنتها سعاد وهي ممدَّدة على الأرض، وبجانبها اثنان من جنود العدو، مضرجين بدمائهما، وقد التفّ حول الجميع عدد من النّسوة والأولاد...
تقدّمت أمُّ محمّد بذهول نحو ابنتها سعاد، ثم ارتمت عليها تحتضنها، وأمسكت برأسها بكلتا يديها، تضمه إلى صدرها بحنان..
كانت الدّماء تنزف من رأس سعاد بغزارة...
فكّت أمُّ محمّد منديلاً كانت تلفّه حول جسمها، وعصبت به رأس سعاد، لإيقاف النّزيف، ثم طلبت من النّسوة أن يساعدْنَها في نقلها إلى البيت، ولكنَّ أمَّ حسن أوقفتهن قائلة:
- إنّ حالتها خطيرة جداً، وبنقلها إلى البيت سوف تنزف أكثر.
نظرت أمُّ محمّد نحو جارتها، وقالت بتوسّل:
- ما الحلُّ يا أمَّ حسن؟؟ هل نتركها تنزف هكذا إلى أن ينتهي دمها؟!
- لا يا أمَّ محمّد.. الأفضل أن تركض إحدى البنات بسرعة إلى المستوصف، وتحضر الطّبيب إلى هنا...
وفي الحال أسرعت إحدى الفتيات تطلب النّجدة، بينما وقفت النّساء يساعدْنَ أمَّ محمّد في إيقاف النزيف.
أحسّت سعاد بيد حانية تضغط على رأسها، ففتحت عينيها، ورأت أمَّها تمسح الدّماء عن رأسها، فهتفت بوهن:
- أمّي!!
تساءلت أمُّها بحزن:
- ما الذي حدث يا ابنتي؟ من أين جاء هذان الجنديان؟
نظرت سعاد إلى والدتها، وهي تُشْرِق بطيف ابتسامة، وقالت بصوت ضعيف ومتقطّع:
- ذهب أبي إلى جارنا العمّ أبي مروان، لاستعارة كيس فارغ، لنضع فيه الزّيتون، وبقيت أنا في البستان أقطف الزيتون.
وتوقّفت لحظة تلتقط أنفاسها، وتستجمع أفكارها، ثم عادت لتقول:
- وبينما كنت أستعد لتسلّق إحدى الأشجار، إذا سيارة عسكريّة تتوقّف، وينزل منها اثنان من الجنود وعندما شاهداني وحدي في البستان، غمز أحدهما للآخر.. ثم اتّجه الاثنان نحوي، محاولين التحرُّش بي، وما إن امتدّت يد أحدهما نحوي، حتى أمسكت بها، وأخذت أعضّها بكلّ قوّتي، أحاول أن أفرغ كلَّ كرهي لهم، وحقدي عليهم، بعضّ هذه اليد الوسخة، فعوى الكلب، وأهوى زميله على رأسي بجُمْع يده، فهويت على الأرض، فاقدة الوعي...
كانت الأمُّ تستمع إلى ابنتها، والدّموع تغطّي وجنتيها، ثم رفعت رأسها نحو السّماء، تناجي ربَّها بصوت باك:
- بنتي يا ربّ بنتي.. يا ربّ أنت تعلم أنها ابنتي الوحيدة، وليس لي في هذه الدنيا سواها، بعد أن استشهد أخوها الصّغير محمّد، الذي مات بعد استنشاقه الغاز السّام... يا ربّ.. يا ربّ..
قطعت سعاد مناجاة أمّها:
- اسمعي يا أمّي...
- ماذا يا سعاد؟؟
قالت سعاد بصوت يقطّعه الوهن:
- يجب أن تفتخري ببنتك الشّهيدة، كما افتخرت بابنك الشّهيد.
كانت دموع الأمّ تتحدّث عمّا في حناياها من حرائق..
- أفقت من إغماءتي يا أمّي على صوت أحد الجنديين، وهو يصرخ ويلعن ويسب، بينما كان الآخر يمسك بالفأس ويضرب بها أغصان الأشجار، ويكسرها، ويحاول قلعها... وعندما رأيت ذلك، تذكّرت جدّي وهو يزرعها غرسة غرسة بيديه الخشنتين، ويسقيها بدموعه وعرقه، وتذكّرت كم من الليالي قضاها أبي وهو ينتظر ثمار هذه الأشجار..
واتّجهت ببصرها نحو السماء وهي تتابع:
- هذه الشّمس خير شاهد على ما أقول، فكم سال العرق من جبين أبي، وهو يقلّب الأرض ويحرثها... وهذه الشّجرة أيضاً تشهد لأبي على عمله وكفاحه.. اشتعلتْ أعصابي فجأة، وأنا أنظر إلى الرّشّاش المرميّ على الأرض، فانقضضت عليه، ووجّهته نحو الجندي اليهودي الذي كان يكسر الأغصان ويقلع الأشجار، وضغطت على الزّناد، وتطايرت الرصاصات هنا وهناك، واستقرّت إحداها في رأس أحدهما، فوجّهت فُوَّهة الرّشّاش إلى الجندي الآخر، فأرديته قتيلاً.. ولم أدر من أين جاءتني تلك الرّصاصة الغادرة لتخترق جسمي..
وتوقّفتْ سعاد لحظة لتلتقط أنفاسها وتحاول فتح عينيها، وشعرت الأمُّ بيد ابنتها تمسح دمعة سقطت من عينيها، وهي تقول بصوت يكاد لا يُسمع:
- زغردي يا أمّي... ولتشهد يا شجر الزّيتون.. أنّا لن نسـ..تسلم ولن نــ .. هـــــ ...ون...
ومال الرّأس الصّغير الطّاهر الذي لم يبلغ عامه الخامس عشر بعد...
أرادت أمُّ محمّد أن تصرخ، ولكنّ لسانها خانها.. لقد توقّف عن الحركة.. ثم لمحت زوجها أبا محمّد قادماً، وهو يلوّح بالكيس الفارغ الذي استعاره من جاره، فأطلقت زغرودة، وضجت الأجواء:
-الله أكبر... الله أكبر!!.