حين عاد كمال.. خرجت منال

حين عاد كمال.. خرجت منال

بقلم :نازك الطنطاوي

نظرت إليه بعينين حزينتين.. لم تصدق أن الذي يقف أمامها هو كمال الذي أحبّته وضحّت من أجله، ثم قالت والدّهشة تكاد تعقد لسانها:

- ماذا قلت يا كمال؟

ردَّ عليها كمال بصفاقة ودون أن ينظر إليها:

- كما سمعت.. لم نعد نليق لبعضنا البعض.. صرتُ معيداً في كليّة العلوم، وأنت أميّة أو شبه متعلّمة، ليس لديك سوى الشهادة الإعداديّة، شهادة أنصاف المتعلّمين.

قاطعته والدّموع تغطّي وجهها النَّضر:

- ولكنْ يا كمال، أنت تعلم أنّي كنت صغيرة عندما تزوّجتك؟ وأنت الذي أخرجتني من المدرسة..

حاول أن يخفي ملامح الخجل التي بانت عليه، فأدار وجهه إلى الجهة الأخرى وهو يقول بجلافة:

- الذنب ليس ذنبي.. لو كنت متمسّكة بالمدرسة لما استطعت أن أجبرك على تركها!.

فتحت منال فمها من الدّهشة، وعيناها مصوَّبتان نحو صورة الشّهادة المعلّقة على الجدار:

- هل تذكر عندما كنت طالباً في كليّة العلوم.. كيف طلبت منّي أن أستغني عن دراستي لأتفرّغ لك، وأقف بجانبك حتى تتمّ تعليمك؟

أغلق أذنيه عن سماع الحقيقة، فلم يعد باستطاعته سماع أيّ شيء، ثمّ قال:

- لا أريد أن أتكلم عن الماضي أكثر!.. لقد أصبحنا نحن الاثنين في طريقين مختلفين!..

أسرعت منال إلى غرفتها، وحشرت ملابسها في الحقيبة، وقبل أن تخرج، أخذت تجول بنظرها في أرجاء البيت كله، كأنها تودّع ذكرياتها وأشياءها العزيزة على نفسها الملتاعة، فيما كان كمال ينتظر خروج منال بقلب بارد كالحجر.

نظرت منال إليه، محاولة استدرار عطفه ولكنه أدار وجهه في عنجهيّة وصلف وغرور.

في بيت والدتها، انكبّت منال على صدر أمّها، وانخرطت في البكاء.. فاحتضنتها أمّها، وراحت تمسح على شعرها، وتضمُّها إلى صدرها بعنف وتقول:

- رحمك الله يا أبا منال، فلو كنت حيّاً لما حدث لنا ما حدث..

ثم مسحت الدّموع من عيني منال قائلة:

- تكلّمي يا بنتي... قولي ماذا حدث؟..

أجابت منال بين الشّهيق والزّفير، والآهات والحسرات:

- لقد طردني كمال من بيتي يا أمّي.. تصوّري يا ماما أنني لم أعد أليق بمدرّس مثله..

- هو قال لك ذلك؟..

- نعمْ يا أمّي..

أبعدت الأمُّ ابنتها عنها، وكأن عقرباً قد لسعتها.. ثم أخذت تكيل الشّتائم لكمال، وتتّهمه بأبشع التُّهم، إلا أنّ منال أوقفتها عن سيل السِّباب والشتائم قائلة:

- لا يا أمّي أنا المخطئة!.. ما كان عليَّ أن أفرّط بدراستي بهذه السّهولة..

نظرت الأمُّ نحو ابنتها نظرة إشفاق ثمّ قالت:

- وماذا ستفعلين الآن؟ الأفضل لك أن تنسيه ولا تفكّري به..

صمتت منال هنيهة من الزّمن.. وكأنّها تستجمع قُواها العقليّة والعصبيّة، ثم قالت - وشعلة الأمل تشع في عينيها:

- هل مازلت يا أمّي تحتفظين بدفاتري وكتبي القديمة؟..

عَلَتِ الدَّهشة وجه الأمِّ، ولكنّها أشارت بيدها نحو الخزانة التي تحتفظ فيها بدفاتر منال وكتبها، دون أن تتكلم..

أسرعت منال نحو الخزانة، وأخذت تفتش عن دفتر صغير، كانت تدوّن فيه أرقام هواتف زميلاتها، وأخيراً ارتسمت البسمة على شفتيها.. ثم أسرعت نحو الهاتف، وأدارت قرصه، وبعد قليل جاء صوت من الناحية الأخرى.. وكم كانت سعادة منال عظيمة عندما ردّت عليها صديقتها هدى.. قالت منال:

- أرجوك يا هدى.. هل تستطيعين الحضور إليّ؟ فأنا في حاجة ماسّة إليك..

كانت الأمُّ تراقب ابنتها عن كثب، وقد علت وجهها ابتسامة رضا، وهي تشاهد ابنتها تستعيد ذكرياتها أيام الدراسة وتسأل عن زميلاتها..

عند الساعة المحدَّدة كانت هدى تطرق باب زميلتها منال.. وكان عناق، وكان عتاب، وكانت ذكريات.. وكانت الضّحكات تنطلق بين الحين والحين فتملأ البيت سعادة.. وأخيراً قالت منال:

- ما آخر أخبارك يا هدى؟

ضحكت هدى من سؤال صديقتها منال، وأجابت بشيء من الدُّعابة:

- لقد أنهيت دراستي الجامعيّة، وها أنا ذا أنتظر الوظيفة..

ثم أطلقت تنهيدة قالت بعدها:

- أنت أحسن حظّاً منّي يا منال.. فقد تزوّجت واسترحت من الدّراسة، وهمِّ التفكير في تحصيل العمل المناسب.

ردّتْ عليها منال والحزن بادٍ على وجهها:

- لا يا هدى لا تكوني متهوّرة.. فالعلم قبل كلّ شيء، وأنا الآن نادمة جدّاً على تركي الدّراسة.

وفيما كانت الحيرة ترتسم على محيَّا هدى، كانت منال تتابع حديثها في حماسة:

- إنّ العلم يا هدى هو السّلاح الوحيد في هذه الدَّنيا، وبالعلم تعلو قيمة الإنسان في المجتمع..

ثم أطلقت تنهيدة كانت تسكن في أعماقها:

- أتدرين يا هدى أنّ كمال يعيّرني بقلّة تحصيلي العلمي؟ بعدم حصولي على شهادة تليق بمقامه الرفيع، كمعيد في الجامعة؟.. وأنا التي وقفت بجانبه حتى أصبح معيداً في الجامعة؟.. الآن جاء ليعيّرني.. ليقول لي: أنتِ غير لائقة بي.. تصوّري.. أنا لا أليق بالمعيد في الجامعة.

حاولت هدى أن تقطع حديث منال، إلا أنّ منال منعتها من ذلك، فتركتها هدى تنفّس عما في داخلها من هموم وأحزان، علّها تريح صدرها.. وأخيراً قالت هدى:

- وماذا تنوين فعله الآن يا منال؟ هل ستظلين تندبين حظَّك هكذا؟

استجمعت منال كلَّ ما لديها من شجاعة وتحّدٍ وأجابت في تصميم:

- قررت أن أكمل تعليمي يا هدى.. ما رأيك؟

سُرَّت هدى لقرار منال، وشجّعتها على ذلك قائلة:

- وأنا بدوري سوف أبحث لك عن مدرسة جيّدة، تكفل لك الدّراسة الحرّة، وسوف أقف بجانبك.

شكرت منال صديقتها هدى من أعماقها، وأكّدت لها أنها لن تنسى معروفها هذا مدى العمر..

بعد أن انصرفت هدى، دخلت الأمُّ على ابنتها، وهي غير مصدّقة ما سمعت أذناها، وقالت مستغربة:

- هل هذا الذي سمعته صحيح يا بنتي؟ تدرسين بعد هذا العمر؟

أسرعت منال نحو والدتها وأخذت تقبّلها، والفرحة ترقص بين شفتيها:

- نعمْ يا أمّي، فالعلم ليس له عمر حتى يقف عنده، وأنا الآن سوف أثبت لكمال وللناس جميعاً بأنّي غير جاهلة، وبإمكاني أن أصبح أحسن منه ومن أمثاله، وأنت تعلمين يا أمّي أني كنت متفوّقة في دراستي، وإذا صمّمتُ على شيء، فلن يقف في وجهي ما يمنعني من فعله..

ومضت الأيام والسنون، ومنال في تقدم مستمرّ، حتى نالت الشهادة الثانوية بتفوّق؟.. وكم كانت فرحة الأمِّ عظيمة وهي ترى ابنتها والفرحة تغمرها.

في هذه الأثناء، كان كمال قد تزوّج من فتاة موظّفة، إلا أنه كان تعيساً في حياته معها.. لأنها كانت متعجرفة، مهملة لشؤون بيتها وزوجها، ودائمة التّذمّر من عملها داخل المنزل وخارجه، فما كان من كمال إلا أن أنهى علاقته مع هذه المرأة التي لا همَّ لها سوى الناس والمظاهر الخارجية.. وأدرك أنّه أخطأ كثيراً في حقّ منال التي وقفت بجانبه، وكانت تملأ عليه بيته بالحيوية والسّعادة. وأخذ يستعيد شريط ذكرياته الحلوة مع منال.

أمّا منال فكانت مصممة على أن تكمل تعليمها، وتدخل الجامعة رغم إلحاح والدتها عليها بأن تكتفي بهذا القدر من العلم، وتنتبه لنفسها، وتفكّر بزوج المستقبل.. ولكنّ منال كانت تصرّ دوماً وتقول:

- لا يا أمّي.. لن أعيد الماضي وأترك دراستي مرّة أخرى مهما كلّف الأمر..

وبينما كانت الأمُّ ومنال تتناقشان في موضوع التعليم واستكمال الدّراسة، طُرق الباب.. وعندما فتحت منال الباب، جمدت في مكانها، فالذي يقف قبالتها هو كمال.. الزَّوج السّابق.. المعيد..

صاحت الأم:

- من بالباب يا منال؟

وأفسحت منال الطريق لكمال..

دخل كمال والخجل يربك خطواته. وبعد أن استجمع قواه، اتّجه نحو منال قائلاً:

- لقد جئت يا منال طالباً السّماح منك!..

وفيما كان كمال يتحدّث عن حياته التعيسة مع زوجته الثانية، ويقارن بينها وبين حياته السّعيدة التي فرّط بها، عندما فرط بمنال، كانت منال تنسحب بهدوء، وتغلق عليها باب غرفتها، ثم تعمل المفتاح في القفل.