لك يوم يا كافر

لك يوم يا كافر

قصة: عبير الطنطاوي

صداع صداع فظيع يمسك برأسي الصغير ولا يكاد يفارقه.. أفكار تأخذني وأخرى ترجعني.. وأصوات البكاء والعويل التي تنبعث من عند هذه الجارة وتلك في كل يوم، تقلقني تدمرني وتجعلني أزداد صلابة في رأيي، وأشتد حدة في طبعي مع ولدي الوحيد (ثائر)، غلطة أن سميتك (ثائر) كنت أعتقد أن لي قلباً قوياً يحتمل إرسالك إلى الجهاد والقتال لتثأر لشهداء فلسطين أجمع..

ولكن ما إن رأتك عيناي وأنت تكبر يوماً يعد يوم، سنة بعد سنة، حتى ضعف قلبي، وأصبح يزداد أنانية ورغبة في امتلاكك لتكون لي وحدي.. أريد أن أفرح بك طبيباً.. لا لا بل أريدك أن تصبح موظفاً صغيراً حتى لا تدخل في هيئة الهلال الأحمر، وقد تتعرض للقتل يا حبيبي وأنت تعالج المصابين، أريد أن أرى لك عروساً حلوة وبيتاً ريفياً بحديقة صغيرة تلعب مع صغارك فيها بعيداً عن الضرب والقتل.. هذه أحلامي التي تحطمها يا (ثائر) كل يوم حين تلح فوق رأسي بأنك ستنضم إلى المقاومة، وأنك ستقاتل ولا تبالي، وتقول لي في ثقة:

- الأعمار بيد الله يا أمي.

آه.. أمي.. أنت تقول أمي.. فكيف لأمك أن تضحي بك؟! آه يا رأسي، وآه من هذا الصداع القاتل..كلما أراد الخروج من البيت أقف له أمام الباب أستحلفه بالله: إلى أين هو ذاهب؟ ومتى سيعود؟ في كل صباح حين يغادر المنزل إلى المدرسة الثانوية آخذ منه عهداً أن يعود إلى المنزل بعد الانصراف مباشرة، فيبتسم ويقول:

- لم يأت دوري بعد لا تخافي..

هذه الكلمة تفرحني ساعة وتقلقني ساعات. أي أن هذا الولد له دور ينتظره وسيأتي يوماً ما!! يا إلهي عمره سبع عشرة سنة فمن أين أتى بتلك الفصاحة والرجولة؟! لا أدري.. يا رب ارحم أرملة لا تملك من دنياها سوى (ثائر)..

وجاء دوره في أحد الأيام.. دخل البيت وركض نحوي مقبلاً الأيدي والأرجل والدموع في عينيه وهو يقول:

- سامحيني.. ارضي عني.. ادعي لي.. يا أمي.. يا أمي العزيزة الغالية.

قلت له في استسلام:

- عملية استشهادية؟

رد عليّ وفي عينيه الرجاء والأمل:

- والله لا أعلم.. قالوا لي اليوم دورك فقط.. يا أمي.. اغفري لي. سامحيني..

أشحت بوجهي عنه، وعيناي احتجزتا الدموع في مآقيهما، وكأنها مياه نارية تحرق العيون والجفون والعالم بأسره.. ردد بأسى ورجاء:

- ارضي عني.. ادعي لي بالتوفيق..

لساني نطق بلا إرادة ولا وعي:

- لن أرضى عنك يوماً.

تناهى إلى مسامعنا قرع شديد على الباب فهبَّ واقفاً، وقال مسرعاً:

- بل أنت راضية يا أم ثائر، وسيعيدني الله إليك إن شاء الله.

وولَّى مسرعاً..

نظرت عيناي تجاه الباب، وتسمّرتُ في مكاني.. خرج وبقيت في منزلي أياماً لا أتحرك إلا للصلاة والدعاء..

بعد أسبوع قرع الجرس، ومن عادة جاراتي أن تدقّ إحداهنّ الباب بالدقة لا بالجرس، فعلم قلبي أن ثائراً قد عاد.. نعم لقد شممت رائحته كما شم يعقوب عليه السلام ريح يوسف.. فتحت الباب.. وإذا بثائر يندفع إلى الداخل ويغلق الباب خلفه، ويضمني إليه ضماً حنوناً وهو يقول:

- نجحت العملية يا أمي وعدت إليك بفضل الله.. تصوري لقد ألقيت قنابل عديدة دمرت الجزء الأكبر من الملهى الذي فيه أعداء الله وكنت في وسط النيران ولكن لا أدري كيف امتدت إليّ يد الله فأرسلت إليّ يد رجل يهودي ظنني من اليهود وأخرجني من المكان وبعد ذلك انفجر الملهى بأسره بعد ثوان قليلة.. شكرت اليهودي وأنا أقول له في سري:

- لك يوم يا كافر.

وأقول في قلبي لأمي: الأعمار بيد الله يا أمي.

تمتمت بكلمات لم يفهمهما.. نعمْ يا ولدي يا ثائر.. الأعمار بيد الله.