بين طريقين
نازك الطنطاوي
أم عماد من أسرة متواضعة، توفّي عنها زوجها منذ خمس سنوات، وترك لها بنتين في عمر الورود.
كانت هذه الأسرة تعيش من راتب زوجها المتوفَّى، مع ما يقدّمه لهم الأهل والأقارب من معونات ومساعدات.
أمّا البنتان، فكانت الكبرى متطلّعة دائماً إلى الأعلى، تكره الحياة
البسيطة، وتتمنّى لو تكون غنيّة، لتغيّر ما تستطيع تغييره بمالها وتراثها
وجاهها.
أمّا الصُّغرى فكانت مقتنعة بحياتها البسيطة مع والدتها، ولا تطلب من الله سوى الستر وعدم الحاجة.
ومرَّت الأيام، وكبرت البنتان، وكان عبئهما ثقيلاً على والدتهما التي أصرت على أن تكملا تعلميهما مهما كلّف الأمر، فأخذت (رهف) - البنت الكبرى - الشهادة الثانوية، ثمّ تقدّمت إلى وظيفة في الحكومة، وعملت فيها وكان الخُطّاب يطرقون بابها، ولكنّ عيبهم أنّهم جميعاً من الأسر الفقيرة أو المتواضعة، كحال أسرتها.
كان جواب (رهف) دوماً عدم الموافقة، لأنّها، كانت في نفسها، تتمنى زوجاً ثريّاً يخلّصها من حياة الفقر والحرمان، ولتنعم في ظلّه برغد العيش.
وكانت الوالدة تعرف سبب رفضها للعرسان، ولكنْ ليس لديها أية وسيلة تقنعها بها سوى بضعِ كلمات تنصح بها ابنتها البكر، عسى أن تجد طريقها إلى الأذن المُصْغية فكانت تقول لها:
- احمدي الله يا ابنتي، فأنت في نعمة لا تدركينها، فبفضل الله أتممت تعليمك، ثمّ توظّفت، وكفاك الله سؤال النّاس، فاقنعي بما أنت فيه، وتزوّجي من هذا الرّجل الطّيب البسيط، فإذا كان فقيراً اليوم، فلعلّ الله أن يغيّر من حاله، ويصبح ميسور الحال.. إنني يا ابنتي أريد أن أطمئن عليك وعلى أختك قبل أن أغادر هذه الدّنيا.
كانت (رهف) تسمع كلمات والدتها، والابتسامةُ الساخرةُ على شفتيها، وكانت الأمّ تدرك أنّ كلامها هذا لن يكون له أيُّ تأثير على عقلها، ولا على عاطفتها، ولكنْ لابدَّ من نُصحها وتحذيرها وترشيدها، فهي ما تزال صبيّةً فيها غَرَارةٌ وسذاجة، وإن كانت تتظاهر بالكياسة والاتّزان..
أمّا (سمر) -البنت الصغرى- فكانت أنيسة، عذبة اللسان، يشرق وجهها دائماً بابتسامة رضا هي أحلى من العسل المصفَّى.. وكانت طيبة القلب، تحبُّ الخير لجميع النّاس، قد أنهت الشهادة الثّانوية، وتقدّمت إلى إحدى الوظائف الحكوميّة.. ولكن.. وبينما هي تنتظر ردَّ جواب الموافقة على العمل، تقدَّم (أحمدُ) لخطبتها -وهو شاب وسيم ومتواضع، من أسرة مستورة، هادئ الطّباع، ويعمل مدرّساً في إحدى المدارس الثّانويّة، ويعول أمَّه وأباه، وسُمْعتُه طيّبة، وأخلاقه رضيّة، يألف الناسَ ويألفونه...-
عندما سمعت سَمَرُْ هذه الصّفات الحسنة لديه، ورأته، لم تدر ما حلّ بها، فقد أخذ قلبها يخفق، واحمرَّ وجهها، وشعرت بأنّ شيئاً يجذبها نحوه، وعندما جاءت الأم تسألها عن رأيها، أطرقت رأسها إلى الأرض في حياء، وقالت في شيء من الخجل:
- القرار لك يا أمّي، والرأي رأيك.
هنا عرفت الأمُّ أنّ ابنتها موافقة.
عندما علمتْ (رهفُ) بموافقة أختها على الزواج من هذا الإنسان البسيط، طار صوابها، وأسرعت نحو أختها، والغضب يتطاير من وجهها:
- هل ما سمعته صحيح؟ هل قبلت الزواج من ذلك الفتى الفقير الذي يعول والديه؟ لِمَ هذا الاستعجال يا سمر؟ فأنت ما تزالين صغيرة وجميلة، وغداً سوف يأتيك رجل مليء، لينتزعك من الفقر، ويطير بك على جناح الأحلام، فلا تدفني جمالك، وشبابك مع هذا الخاطب الفقير.
كانت (سمر) تسمع كلام أختها، وعندما توقّفت عن الحديث، علّقت عليه بقولها:
- لا يا أختي، ليس المال هو الأساس.. ليس المال كلَّ شيء في هذه الحياة.. وليس المال وحده يجلب السعادة للإنسان.. ولكن الأخلاق والحب والتفاهم هي أسس الحياة، وإذا كان (أحمد) فقيراً اليوم فسوف أضع يدي بيده، ونبني حياتنا الجديدة، وسوف أقف بجانبه حتى يشقَّ طريقه في الحياة، ويصبح ذا قيمة في المجتمع.. وسوف يغنيه الله من سعته، فهو شابٌّ مؤمن وناضج، ولن أستبدل به أغنياء العالم.
واحتدَّ الجدل بين الأختين، وتعالت الأصوات، فما كان من (رهف) إلا أن تخرج من الغرفة وتردَّ الباب خلفها بقوّة.
تزوّجت (سمر) من أحمد، وعاشت معه في بيته الصغير، ومعهما أبواه العجوزان، وكانت سعيدة كلَّ السعادة معه، فقد كان أحمد مثال الزوج المحبّ لبيته وزوجته، المطيع لأبويه، الذي يطلب رضا الله برضاهما.
أمّا (سمر) فقد كانت الزوجة الحنون المثالية التي تُنسي زوجها همومه، وكانت حريصة دوماً على طاعته وإرضائه وإرضاء والديه معه، ترعى الجميع، وتقوم على خدمتهم، مبتغية بذلك وجه الله تعالى، ممتثلة تعاليمه وأوامره.
وذات يوم، وبينما (سمر) منهمكة في أعمال المنزل، من مسح وتنظيف وجلي، إذا الباب يُطْرَقُ، وكان الطارق أختها (رهف) التي جاءت لزيارتها والاطمئنان عليها.
أسرعت (سمر) إلى أختها بلهفة، وضمّتها بين ذراعيها، ثم أجلستها في غرفة الضيوف، ريثما تحضّر القهوة.
أخذت (رهف) تجول بنظرها في أرجاء البيت، وفي عينيها نظرة استهزاء من هذه الحياة التي تحياها أختها، إلى أن وصلت إلى المطبخ، فرأت أختها وهي تغلي القهوة، وقد مال وجهها إلى الشحوب، وجسمها إلى النحول، فقالت لها:
- ألم أنصحك يا أختي؟ فلو عرفت كيف تختارين زوجك لما حصل لك هذا.. انظري إلى هذا الوجه الغضّ كيف أصبح شاحباً. لقد تزوّجك أحمد لتخدميه وتخدمي أبويه.
وهنا قاطعتْها (سمرُ) وعلى ثغرها ابتسامةٌ عذبة:
- ومع ذلك يا أختي، أنا سعيدة كلَّ السعادة، وتأكدي يا أختي أنّ المرأة مهما تعلّمت وعلتْ فلن تجد سعادتها إلا في بيتها، ترتّبه وتنظّفه وتنتظر عودة زوجها بفارغ الصبر.. السعادة الحقيقية يا أختي، هي في أن تجعلي أسرتك سعيدة، يخيّم عليها الحبُّ والحنان.
كانت (رهف) تستمع إلى كلمات أختها، وهي غير مصدّقة بأن أختها الصغيرة قد كبرت، وصار يسيل على لسانها هذا العسل.
ولكنّ جبروتها لم يسمح لها بالاعتراف بأنّ كلام أختها صحيح..
وبينما هي شاردة في أفكارها، جاء صوت أختها يقول لها:
- اتركينا الآن من أخباري، وحدّثيني عن أخبارك؟
- ماذا تريدين أن تعرفي عن أخباري؟
- أريد أن أعرف.. ألم تفكري بالزّواج بعد؟
ردَّتْ عليها (رهف) بشيء من الترفع والنفخة الكاذبة:
- وهل أخطئ كما أخطأت أنت، وأدفن نفسي في الفقر، وأنتظر زوجي ليتكرّم عليّ بابتسامة حلوة، أو بضع ليرات تخرج من جيبه؟ لا يا أختي إنني أريد رجلاً جاهزاً من كلّ شيء.. رجلاً مليئاً.. هل تعرفين ما معنى الرجل المليء؟ إنني أريد رجلاً أملكه لا أن يملكني.
ومضت الأيام والسنون.
أمّا (سمر) فقد رزقها الله بأولاد ثلاثة ملئوا عليها حياتها سعادة وهناءة. أمّا (رهف) فقد بقيت في البيت وحيدة تنتظر فارس الأحلام الثّريّ.