صخرة أمي والبسملة
بقلم : محمد علي شاهين
وصل (حزين عبد الحق) ابن الستين خريفاً مدينته بعد فراق دام سبعة وأربعين عاماً .
كان أوّل قادم يدخل (تلّ الربيع) بصفة مريض جاء يطلب العلاج من مرض مزمن أعيى الأطبّاء وأضناه .
كان مريضاً فعلاً، وصادقاً في دعواه بشهادة الأطباء، ويحمل ورقة نظاميّة موقّعة من الحاكم العسكري للمدينة، دققتها مجنّدة شابّة عند حاجز المدينة، ومهرتها بتوقيعها.
ومع هذا فقد ظلّ خائفاً وجلاً يحسب أن من ينظر في سحنته الشرقيّة، ويرى أثر السجدة في جبينه سيكتشف حقيقته، ويعدّ عليه أنفاسه .
وعلى مشارف (تل الربيع) وضع حزين عبد الحق جبهته على التراب كأنه يسجد سجدة التلاوة في محراب مقدّس .
أمضى يومه الأول يتجوّل في ساحات (تل الربيع) ودروبها القديمة المقفرة، وطاف في اليوم الثاني حول أطلال حارته، وبقايا مسجد حيّه، ومقبرة أجداده، وجاء في اليوم الثالث مبكّراً قبل أن تجفّف أشعة الشمس حبّات الندى المتناثرة فوق زهر البنفسج، وتبدأ الفراشات عرض أزيائها الزاهية .
لثم حزين عبد الحق جدران منزله مثل عاشق عذري ولهان طوى كل السنين، وجلس على عتبته الحجرية المنحوتة بإتقان دقائق تأمل ومناجاة، أعادت إليه روحه المتعبة .
قال حزين: كم انتظرت هنا موعد عودة أبي كل غروب، والأطفال من حولي يلعبون فرحين، أولئك الذين نثرتهم قبضة الزمان مثل حبات الملح .
وتجول بين خمائل الحديقة، وبقايا زهورها البريّة قائلاً:
املأ يا حزين صدرك من هذا الأريج .
من بقايا الفلّ، والزنبق، والسوسن الذي كانت أمّك له عاشقة .
والياسمين في جيدها كل مساء مثل ساحل (تل الربيع) الهائج .
آه يا أمي .
كانت أمّي مثل البدر .
كانت بيضاء الكفين .
كانت خضراء العينين .
كانت مثل ملاك .
أيها الموج الصاخب في ذاكرة الزمن .
أيقظتني زهرة ياسمين .
بعثتني من جديد .
نشرت جسدي .
يا موج (تلّ الربيع) أزبد مثل جمل حاقد .
ذاك زبد فم الميّت يا سيف البحر .
أرهم كيف يفور التنور، وتقتلع المرساة .
أسمعهم يا قرصان البحر جيشان الموج، وضجيج البركان .
ألقى حزين عبد الحق نظرةً نحو الشرفة، وتساءل كأنّه طفل:
من في شرفة منزلنا ؟
في شرفتنا رجل أشقر .
ومن هذه التي تجلس بجانبه ؟
بجانبه امرأة شقراء .
يغتسلان بشمس الشرق السمراء .
استدار حزين نحو الحديقة، ودموع الذكرى تنهمر على وجنتيه، ثم اتكأ على جزع محدّب لشجرة زيتون معمّرة، مثل عجائز (تلّ الربيع) اللاتي تركهنّ في مخيّمات الشتات، ومفاتيح بيوتهنّ معلقة في صدورهنّ لم تصدأ .
ولمس بحنان حبّات الزيتون الخضراء كأنّه رضيع يلمس ثدي أمّه، ومضغ من ورقها قطعة ذابت تحت لسانه الخشبي، كأنّها السكّر .
وقبل أن يشعر بوجوده غير المرغوب فيه أحد، غادر المكان دون وداع .
صوّب حزين بصره نحو مئذنة المسجد التي كانت تطل برأسها المرفوع دائماً فوق القباب، محمولة على جيد حسناء، فوجدها بصعوبة .
كانت محاصرة بالأبنية الإسمنتيّة، والعمارات المكتظّة بالغرباء القادمين من كل حدب وصوب .
اقترب حزين من بوابة المسجد العالية، ودفع بابه بجرأة، فانفرجت إحدى دفتيه كأنّها كتاب ذكريات منظوم .
صلى تحية المسجد وحيداً، باتجاه المحراب، وقرأ أمّ الكتاب بخشوع .
كان الغبار يملأ صحن المسجد، والميضأة في وسطه بدت جافة، وسرقت سجاجيد المسجد العجميّة، وسلبت القناديل النحاسيّة، وبقي المحراب صامداً، وضاع من مقتنيات المسجد سيف الخطيب الخشبي الذي كان يتوكأ عليه أثناء صعوده المنبر، وكذلك ضاعت سجّادة المحراب الثمينة.
تذكّر حزين عبد الحق وهو يغادر المسجد، ويغلق البوابة الخشبيّة بلطف أصدقاءه وإخوانه في المسجد، ولم ينس معلمه، فطار قلبه إلى بيوتهم واحداً واحداً.
اكتشف أن جميع بيوتهم قد هدّمت، إلا بيت حمزة عبد الرزاق فقد تحوّل إلى مخفر للشرطة .
كان بيتاً حجرياً، واسع الحجرات، مثل قصر صغير، لا يضاهيه سوى بيت معلمنا الذي سوّي بالأرض، واقتلع من جذوره .
توجّه حزين إلى المقبرة كأنّه زائر العيد، قرأ سورة ياسين بخشوع، مفتتحا التلاوة بالبسملة، على أرواح تتعطش لسماع آي من الذكر الحكيم .
قال حزين: أسمع صوت جرّافة من داخل المقبرة! !
إنها جرافة حقيقية ! !
يا إلهي. ماذا تعمل الجرافة هنا ؟
إنها تشق طريقاً وسط المقبرة ! !
لقد دمّرت جانباً من سور المقبرة، واقتلعت عدداً من الأشجار التي تظلّل القبور، وتعانق جذورها الأموات بحنان.
تقتلع مع كل قبر معمور مزهريّة فخّار أعدت لأغصان الآس .
كان الأموات يصرخون بألم .
تتكسر عظامهم تحت وطأة السلاسل، مثل عظام أطفال الانتفاضة .
يبحث حزين عن قبر أمه وهو يزيح الحشائش البرية عن شواهد القبور .
يقرأ الأسماء المنحوتة على الصخر، وهو يدرك أن كل صخرة منحوتة حفرت عليها أظافر الزمان أمّ الكتاب، سند تمليك لا يبلى لعربي يحلم بالعودة إلى (تلّ الربيع).
توقّف حزين بخشوع أمام قبر أمه .
عانق شاهد القبر، ثم ضمّه إلى صدره بحنان، وجلس القرفصاء يقرأ الفاتحة على روحها بصمت، والدموع تنهمر من مآقي عيونه الباكية .
واصلت الجرّافة عملها بقسوة .
لم تتوقف لحظة واحدة وهي تتجه نحو قبر أمّه .
بدأ خافقه يرتعد كلما تقدمت السلاسل باتجاهه .
يا إلهي! ! اقتربت الجرّافة كثيراً ! !
رفع حزين عبد الحق يديه، وأشار إلى السائق بالتوقف دون جدوى .
يتوسل إليه أن يتوقف .
يبكي .
ثم يثتغيث .
يا إلهي! ! أدركني يا إلهي ! !
الكل غائبون. غائبون. غائبون.
إلا الله .
فقد كان في كل مكان يسمع ويرى .
يقفز حزين عبد الحق ابن (تلّ الربيع) فوق الجرّافة، يمزّق بمخالب نمر وجه رجل لا يعرف للأموات حرمة .
ثم يمسك برأسه، ويسقط معه تحت السلاسل، وقد انتزعه من المقود، قبل أن تسقط صخرة منحوتة حفرت عليها أظافر الزمان اسم أمه، وفوقها البسملة .
(تمت)