عفوًا سيدي سنلتقي في المحكمة

نعمان إسماعيل عبد القادر

نعمان إسماعيل عبد القادر

[email protected]

يا أيها السادة ويا أيتها السيدات!

إلام الخُلف بينكم إلاما وهذي الضجة الكبرى علاما؟ من منكم لا يعرف عبد الرحمن؟ رحم الله الفقيد.. كان مناصرًا للحركة الفكرية منذ نشأتها.. القاصي والداتي يشهد له بحسن سلوكه. سبعة وثلاثون عامًا كانت تفصل بينه وبين ذلك اليوم الذي ساقته فيه الضرورة إلى السفر للبحث عن مصدرٍ للرزق..  إلى "يازور" القريبة من يافا التي كانت عربية في يومٍ ما.. هكذا قالت له قرارة نفسه وهو يُقرن تعريفها لمن يسمع عنها أول مرة بمسجدها ومقبرتها، الال لإلى حيث استقر به وجوده ليصنع الذات دون أن يفارقه إلى موقع آخر.. إلى حيث توارث "شلومو" و"بْراخا" و"شْموئيل" وورثوا عن بعضهم بعضًا..  ولقد وضع رأسه على الوسادة متمعنًا في رسالة وصلته قبل أسبوعين من مؤسسة التأمين الوطني كُتبت حروفها بالعبرية وتشهد له ببلوغه سن التقاعد، فعاد به تصوره الصاغر إلى عصورهم بحلوها ومرها وهو راضٍ عنهم رغم الذي لاقاه في أحايين نادرة منهم من قساوة. ومع ذلك فقد وجد فيهم من كان يعامله معاملة خاصة لا لسواد عينيه ورقة ابتسامته وطيب لسانه، بل لأنه عربي أخلص في عمله واكتسب خبرة فصار يؤتمن على كل شيء في المصنع، وحتى الأموال الكثيرة بين يديه يستطيع أن يتصرف بها كيفما يشاء ومتى يشاء دون أن يعلم به إلا خالقه.. هذه هي طينته وهذا هو تميُّزه. أراد أن يعيل أبناءه وبناته دون أن يمد يده لأحد. هكذا فعل وفق الظروف التي كان من المفروض أن يهيئ نفسه عليها وأن يختار التعايش معها والتحلي بالصبر على أسوأ الحالات فيها أو أن يرفضها ويعود إلى حيث أتى. صدق معهم فصدقوه. أكل من بيوتهم وأكلوا من بيته.. صار أخًا وصديقًا ومحورًا رئيسيًا في إدارة عملهم.. وحسبه أنه اكتسب ثقتهم دون أن يشك أحد فيه ولو بمقدار ذرة من التراب أو قيد أنملة.. وحسبه راحة ضميره وعفة نفسه وطهارة قلبه - كما يقول في كل مجلس- هكذا كان يتعامل مع الناس كل الناس على اختلاف أديانهم وأجناسهم وأعمارهم عربًا كانوا أم بوذيين.. وحسبه أن اكتسب خبرة على مدار سنوات طويلة لم ينافسه أحد فيها من بعد. وتعود به ذاكرته إلى الأيام التي استطاع فيها الصمود حين اقتحم بعض الحاقدين المصنع واعتدوا عليه وراحوا يصبون كراهيتهم للعرب عليه وراحت تنهال عصيهم على بدنه، هو فقط، فتجلد وصبر ولم يخلصه من بين يديه سوى صموده ووقوفه في وجوههم مستأسدًا ففروا كما تفر الفئران إلى جحورها. وقتها باغتوه غدرا فنالوا منه ما نالوا ورقد في المستشفى أسبوعا كاملا.. ياااااه! لقد بلغ السنَّ وآن موعد التفرّغ إلى العبادة وطاعة الله وزيارة الكعبة المشرفة. ااااه لقد قام بواجبه تجاه أهله خير قيام.

أيها السادة! نظر في الرسالة في متعةٍ مطولاً ثم وضعها جانبًا على منضدة خشبية صغيرة وراح يفكر في أيام وسنوات سيقضيها "قاعدًا" على كرسي الانتظار استعدادًا للرحيل عن الدنيا ومن فيها.. وكيف سيفارق من رافقهم زمنًا في العمل، رفعت، أحمد، خالد، تماري، دافيد، وموشي؟ يا ما تناول معهم خبز الطابون والبندورة المطبوخة والزيتون وتبادل معهم المزاح. كان يعني لهم بمثابة رئة يتنفسون بها. وكانوا يعنون له بمثابة أطفال عكف على تربيتهم واحدًا واحدًا.. صحيح أن النقاشات السياسية الحادة كانت تزيد التوتر بينهم أحياناً، واعتاد على ترديد عبارته: ليعلم الكبير منكم والصغير أن الحقيقة مثل الشمس لا يمكن حجبها أبدًا. العرب هم أصحاب الأرض. وكيف يهجر آلات حرص دومًا على نظافتها وصيانتها حتى تظل تعمل بلا توقف وأصواتها الموسيقية تراوده في يقظته وأحلامه. وحين أشرف الليل على الانتهاء، استيقظ على صوت المؤذن فنهض من نومه ثم توضأ وخرج للمسجد وصلى الصبح حاضرًا أعقبها بالتسبيح بأصابعه وبالاستغفار الله والدعوة إلى أبنائه بالتوفيق والنجاح. هذه الساعة بالنسبة له تمثل بسحرها جوهر خشوع وطمأنينة ومخ عبادة. فمن يوم ممات والدته صار أحد المشّائين في الظلم بل ومن أبرز الدعاة لأداء صلاة الصبح في وقتها في المسجد، وبات الناس يبدون له الاحترام الزائد.

أيتها السيدات! بِدْءُ العملِ ينطلق في تمام السابعة صباحًا وفقًا للتوقيت الصيفي، لأن "يسرائيل" هذا الذي ورث المصنع من حماته يقف بعرجته كل صباح في انتظار العمال ووجهه طافح بالغضب.. ودأب على محاسبتهم على كل صغيرة وكبيرة. كره العرب بكل صراحة.. وكان يتجرأ على التصريح بهذا أمام الجميع.. ومنذ استلامه المصنع لم يقبل أي عامل عربي جديد حتى لو قدّم له الخدمات بربع السعر.. وعرجته هذه جاءت نتيجة إصابته في الحرب الأخيرة على لبنان، بشظايا قذيفة كادت تودي بساقه لولا جهود الأطباء لأصبح الآن بساق واحدة.

 خَتَمَ الرجلُ بطاقته الممغنطة وبدأ العمل دون أي تأخير يُذكر.. كان ذهنه منشغلاً فيما مضى وفيما سيأتي. حقوقه التي سيتقاضاها من رب العمل "يسرائيل" سيوزعها على أبنائه بالتساوي ووفقًا للشريعة الإسلامية حتى يرضى الله عنه وتطمئن نفسه. البنتان تعادلان ولدًا واحدًا. وبما أنه أنجب بنتين وولدين بإمكانه أن يقسم ما سيقدمه إلى ثلاثة أقسام متساويةٍ. ياااه! مبالغ طائلة اقتطعتها الدولة من راتبه طوال هذه السنين. وماذا قدّمت له الدولة ولأبناء شعبه مقابل كل هذا؟ ما في اليد حيلة. العدالة الديمقراطية تُقدم ناقصة للأقلية العربية. والعدالة الاجتماعية لا يمكنها أن تتحقق ما دامت الأغلبية العظمى من شركائهم تؤمن بالتسلط ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وتقديم الفتات للعرب. أفكاره المتسلسلة ضاعت في بحر خياله لدى سماعه صوت زميلٍ مخضرم مثل دافيد:

-        "ستودعنا بعد أسبوع وسنشتاق إليك يا عبد الرحمن هل تزورنا مستقبلا أم تنسانا؟"

ابتسم ابتسامة ناصعةً وأجاب بأدبٍ:

-        " سأزوركم طبعًا! طبعاً وهل أنساكم وأنسى أصحابي؟"

انشغل ثانية في معالجة آلة توقفت عن العمل قبل ساعة وأوكلوا إلى مشغِّلها أعمال أخرى وعاد فكره يشغله ثانية والتقط أنفاسه وطال صمته والتفت يمينًا فرأى "يسرائيل" يحدّق فيه تحديقًا عجيبًا ينمُّ عن غضبٍ محتقنٍ في وجهه. وما إن رآه يلتفت إليه حتى بادره قائلاً:

-        كيف تجرؤ على سرقة  أدوات من المصنع؟ 

-        عفوًا عن أي أدوات تتحدث؟

-        الأدوات التي سرقتها ووضعتها في خزانتك!

-        وهل أنا ممن يسرقون يا سيد "يسرائيل"؟ وكيف تجرؤ على اتهامي بهذه التهمة؟

-   أنت سرقت يعني سرقت والإثبات على ذلك أننا وجدناها في خزانتك؟ وهذا رسالة مني لك. أنت مفصول عن العمل وسنقدمك للمحاكمة وبإمكانك الآن الانصراف إلى بيتك.

-   هذا زور وبهتان... وأنت تعرفني حق المعرفة طوال سنوات طويلة.. وهل يعقل أن أسرق أدوات لست بحاجة لها وفي آخر أيامي في مصنعكم؟ هذه مكيدة أنت دبرتها حتى لا تدفع لي حقوقي وأتعابي يا سيد "يسرائيل"..

-        عفوًا سيدي بإمكانك مغادرة المصنع الآن، وسنلتقي في المحكمة.

أيها الناس! لا شك أنكم عرفتم سبب وفاته الآن! نعم لقد أُصيب بصدمة...