ضياع
نازك الطنطاوي
اعتاد ابني حسن أن يلعب في حديقة منزلنا صباحاً مع إخوته، وكان ياسر -ابن الجيران- ينظر إلى حسن وإخوته، ويتمنّى لو يلعب معهم.. وأحسّ حسن برغبة ياسر باللعب معه فأقبل عليه، وبعد أن سلّم عليه، وتعرّف على اسمه، دعاه إلى اللعب معه في الحديقة..
وذات يوم، وبينما كنت أُعطي ولدي سندويشاً ليلتهمه في أثناء لعبه، كان ياسر يختلس إلينا النظر..
وبعد أن تأكد من ذهابي إلى داخل المنزل، أقبل نحو حسن، وسمعته يقول له بصوت حزين:
- أنت ولد محظوظ يا حسن.. لأنّ لك أمّاً ترعاك وتطعمك وتخاف عليك من كلّ أذى..
يبدو أن حسن لم يفهم ما قاله رفيقه ياسر، فطلب منه أن يكملوا اللعب معاً..
وحان وقت الغداء، فناديت حسن، وطلبت منه أن يغسل يديه، ويغيّر ملابسه، ليجلس إلى الطعام وهو نظيف..استأذن حسن رفيقه ياسر ودخل إلى المنزل..
جلسنا إلى المائدة جميعاً - زوجي وأنا وأولادي - وبينما كنت أضع الطعام أمام حسن، نظر إليّ وقال في براءة:
- ماما.. ياسر قال إنني ولد محظوظ، لأن لي أمّاً تحبّني.. ما معنى محظوظ يا ماما؟!
سألت حسن عن السّبب الذي جعل ياسراً يقول من أجله إنه ولد محظوظ، فردّ عليّ ابني حسن وهو يلتهم الطّعام:
- لقد سمعك يا ماما وأنت تحذرينني من اللعب في الشّارع، وعدم الوقوف تحت الشّمس المحرقة، لكي لا أصاب بأذى.. ورآك وأنت تناولينني السندويشة.
فأومأت إليه برأسي وطلبت منه أن يكمل تناول غدائه.
في اليوم التّالي.. وفيما كان حسن يلعب كعادته في الحديقة، جاءه ياسر وأخذ الاثنان يلعبان معاً.. وبعد قليل طلب ياسر من حسن أن يأتيه بسندويش لأنه جائع، وأوصاه بأن لا يخبرني بأن السندويش له (لياسر) بل يدّعي بأنها له (لحسن)..
دخل حسن إلى المنزل، وطلب مني أن أعمل له سندويشاً يأكله، فقلت له:
- هل أنت جائع يا حسن؟
فارتبك حسن من سؤالي، وأقبل نحوي، وهمس في أذني قائلاً:
- السندويش لياسر إنه جائع..
ثم أردف قائلاً:
- ياسر يا ماما طلب مني أن لا أخبرك بأنه جائع!.
طلبت من حسن أن يحضر ياسراً إليّ، لأني أريد أن أتحدّث معه..
وبعد قليل جاء حسن وياسر، وكم دهشت عندما نظرت إليه بإمعان.. كان وجهه أصفر، وثيابه متّسخة، وحاله تنمّ عن أنه من أسرة فقيرة..
تقدّمت من ياسر، ومسحت على رأسه، لكي يطمئنّ لي، وسألته إن كان جائعاً، فأجابني وهو مطرق من شدّة الخجل:
- نعم.
فأمسكته من يده، وذهبت به إلى الحمّام، وغسلت له يديه، وألبسته ثياباً نظيفة من ثياب ابني حسن، وتركته بعد أن قدّمت له الطّعام..
كنت أنظر إليه بين الفينة والأخرى، فأراه يلتهم الطّعام التهاماً من شدّة جوعه..
عند هذا المنظر لم أستطع أن أسكت.. فقرّرت في نفسي أن أغوص إلى أعماق هذا الصّغير، وأكتشف سبب تعاسته وبؤسه، فانتظرت إلى أن انتهى من تناول طعامه، وأجلسته بجانبي، بعد أن طلبت من ابني حسن أن يخرج إلى الحديقة..
سألت ياسراً عما إذا كان قد شبع تماماً، فأجابني بنعم، وكان هذا السؤال مفتاحاً لأسئلة عدّة، كانت تدور بخَلَدي، فعاودت سؤاله بشكل ألطف:
- أين ماما يا ياسر؟ هل هي مسافرة؟؟
تنّهد ياسر بعفوية وأجاب:
- ماما وبابا في البيت.
ازدادت دهشتي فسألته:
- أين هما إذن؟.. لماذا لم أشاهدهما ولا مرّة..
قال:
- إنّ أمّي وأبي موظّفان في إحدى مؤسّسات الدّولة.. وكلّ يوم يخرجان معاً من البيت صباحاً، ولا يعودان إلا في السّاعة الخامسة عصراً..
نظرت إلى الصّغير.. كانت عيناه مغرورقتين بالدّموع، فمسحت دمعات سقطت منهما وقلت له في حزن:
- وأنت يا ياسر، من يعتني بك في غياب والديك؟ وهل لك إخوة؟..
سكت الصّغير قليلاً، محاولاً أن يخفي شيئاً يزعجه.. فتركته لنفسه، حتى يقول ما يريد قوله.. بعدها قال:
- لي أخ صغير رضيع، ولقد أحضرت لنا أمّي خادمة تعتني بي وبأخي الصّغير، وهي خادمة شرّيرة.
ربَّتُّ على كتف ياسر وقلت له:
- ماذا تفعل بكم الشغّالة ..
في بادئ الأمر تردّد في الإجابة، ولكنّه شعر بالعطف والحنان، وأراد أن يتخلّص من الكابوس الذي يجثم فوق صدره، فقال بصوت خفيض:
- عديني يا خالة أن لا تقولي لأحد ما سأقوله لك.
فهززت له برأسي بالموافقة.. فقال بعد أن أخذ يجول ببصره في أنحاء الغرفة ليتأكّد من أن أحداً لن يسمعه:
- بعد أن تخرج أمّي وأبي إلى عملهما، تقوم الشّغالة بإعداد الفطور لنفسها، فتأكل حتى تشبع، ثم تدعو إحدى صديقاتها لتجيء إليها عن طريق الهاتف، فتأكلان وتشربان وترقصان على شريط المسجّل.. وأستيقظ أنا وأخي على الضّجّة التي تحدثها الخادمة وصديقتها، وإذا طلبت طعاماً منها، فإنّها تضربني، ثم تشدّني من يدي، وتطلب مني أن أتناول ما بقي من فضلات طعامها، فلا أستطيع أكله.. ثم تلبسني الثياب الوسخة، وتطلب مني أن ألعب في الشارع، ولا أعود إلى البيت حتى تناديني هي..
أما أخي الصغير فإنه يبكي باستمرار دون أن تشعر به الخادمة وعندما يشتد بكاؤه ترضعه من القنينة وكثيراً ما تضربه عندما يبكي، ثم تضع له الملهاة في فمه حتى لا يعود إلى البكاء ثانية..
قلت له بصوت حزين:
- لماذا لم تخبر أباك وأمّك بهذا؟
وهنا لم يتمالك ياسر نفسه، فارتمى إلى صدري، وأخذ يبكي بحرقة، قائلاً بصوت متقطّع:
- لا.. أرجوك.. لا تقولي لأمّي أو أبي، لأنّ الخادمة هدّدتني، بأنّي إذا فتحت فمي، وقلت لأحد عمّا تفعله بنا، فسوف تذبحني بالسّكّين، وتقطع لساني.. وأنا لو أردت أن أقول لأمّي لا أستطيع، لأنّ أمّي تأتي في آخر النهار متعبة ضجرة من عملها، فتطلب من الخادمة أن تأخذنا بعيداً عنها، لأنّها متعبة لا تقوى على التحدّث معنا..
كنت أستمع إلى ياسر وقلبي يتفطّر حزناً على هذه الطّفولة البريئة التي ضاعت مع الخادمات والمرّبيات دون أن يشعر الطفل بحنان أمّه ورعايتها، وقلت وأنا أحتبس الدموع في عيني:
- تاب الله عليكنّ أيّتها الأمّهات الغافلات.. التائهات في زحمة الحياة.. التاركات أطفالكنّ في أيدي من لا يخفنّ الله ولا يهمهنّ مصلحة أولادكنّ.. الضاربات لأولادكنّ المعذّبات لطفولتهن البريئة دون أن تشعرن بذلك.. تاب الله عليكنّ يا أمّهات القرن العشرين.. ولكم الله أيّتها الزهرات الذابلات.. أيّها الأطفال الأبرياء الذين يدفعون ضريبة لا يد لهم فيها.
ثم التفتُّ إلى ياسر، وضممته إلى صدري وأنا أهدهده:
- لا عليك يا بنيّ .. لا تخف.. وغداّ إن شاء الله سيكون لي مع أمّك حديث..