في سَنَةِ التخرُّج
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
لم يتمكّن من التعرّف على المكان الذي أُدخِلَ إليه منذ قليل، فقد كان معصوبَ
العينين، وعندما رُفِعَت العصابة السوداء من فوق عينيه، وَجَدَ نفسه محاصراً بين
جدرانٍ أربعة، لا يفصل بين كل اثنين متقابلين منها أكثر من مترين!.. ولم يسمع عن
وصفٍ لما يشبه هذا المـكان
حاول (ماهر) أن يتذكّر ما حدث، لكنه لم يُفلح سوى أنه -قُبَيل رفع العصابة السوداء عن عينيه- أُنزِلَ بضعَ درجاتٍ باتجاه الأسفل.. فالمكان مظلم تماماً، وبارد جداً في مثل هذا الوقت من شهر كانون الثاني، يزيده برودةً هذا الرداء الأبيض الذي اكتست به شوارع المدينة وأسطح منازلها، فَهَطْلُ الثلوج لم يتوقّف منذ الصباح الباكر، والهدوء يخيّم على المنطقة، إلا من أصوات النباح الصادرة عن مجموعةٍ من الكلاب الشاردة البعيدة!..
بعد ساعتين من وصوله إلى الزنزانة شديدة البرودة، انفتح بابها فجأةً، ووقف عنده رجل ضخم طويل، عريض المنكبين .. حملق في وجه (ماهر)، ثم مدّ يده اليسرى إليه ممزّقاً قميصه، وقائلاً له بنبرةٍ حادّةٍ وصوتٍ أجشّ :
- هل تناولتَ المقبّلات؟!..
نظر (ماهر) إليه باندهاشٍ مجيباً :
- مقبّلات ماذا؟!..
ما كاد ينهي جوابه، حتى عاجله الرجل الضخم بصفعةٍ قويةٍ أَدْمَتْ فمه، ثم أمسك بعنقه وقذف به إلى خارج الزنزانة قائلاً :
- قُم معي لتتعرّف على المقبّلات الشهية التي أعددناها لك ولأمثالك!..
تلقّفه عدد من الجنود في الساحة العامة، وبدؤوا يتقاذفونه ويركلونه، ويضربونه بسياطٍ من الكابلات الكهربائية التي كانت بأيديهم، بعد أن جرّدوه من ثيابه كلها، وما إن فقد وعيه خلال نصف ساعة، حتى قذفه أحدهم بكلتا يديه إلى بركة ماءٍ باردٍ في إحدى زوايا الساحة!..
شهق (ماهر) شهقةً مفاجئة، وشعر بأن جسمه يكاد يتجمّد من شدة البرد، وحاول أن يقف، لكنه غاص في ماء البركة وأخذ يغرق، لولا أن حملوه وأخرجوه من الماء، ثم ساروا به إلى زنزانته المظلمة، وهناك قال له الرجل الضخم موجّهاً إليه ركلةً قويةً بقدمه اليمنى قبل أن يتركه :
- أعرفتَ المقبّلات التي عندنا أيها القذر؟!..
لم يستطع (ماهر) أن ينام لحظةً واحدة، فالآلام المنبعثة من كل أنحاء جسمه شديدة، والجرح الذي في كتفه الأيمن بسبب الطلق الناريّ الذي أصيب به لدى مداهمة منـزله.. آخذ بالنـزف من جديد.. تحسّس وجهه بيديه فأحسّ كأنه كرةً ضخمةً منتفخة.. حاول أن يتحرّك فلم يستطع إلا بصعوبةٍ بالغة، أسند كفّيه إلى أحد الجدران محاولاً الوقوف، لكنّ ساقيه لم تتحمّلا، فسقط على الأرض وقد انهارت قواه بشكلٍ كامل!..
بعد ساعةٍ تقريباً، دُفِعَ باب الزنزانة بقوّة، ووقف الرجل الضخم عند الباب مخاطباً :
- قُم .. قُم واغسل جسمكَ جيداً، فهذا صنبور الماء أمامك، وإياك أن تترك بقعة دمٍ واحدةٍ على جلدك، فسيادة المقدّم ينتظرك في غرفة التحقيق، وسآتيكَ لمرافقتك بعد عشر دقائق، فلا تتأخّر!..
في غرفة التحقيق، وقف الرجل الضخم باستعدادٍ كلوحٍ من الخشب قائلاً للضابط المحقِّق :
- هذا هو المتهم (ماهر) سيدي المقدّم!..
- لا بأس .. لا بأس، ساعده في الجلوس على هذا الكرسيّ!..
جلس (ماهر) على الكرسيّ متأوِّهاً، ونظر إلى الضابط الذي أمامه، مستعيذاً في نفسه بالله من الشيطان الرجيم!.. خاصةً بعد أن تغلغل الخوف إلى قلبه لدى سماعه صراخ السجناء الذين يُحَقَّق معهم في غرفٍ أخرى مجاورة، فضلاً عن أصوات السياط التي تنهال عليهم فتلسع أجسادَهم!..
أمسك المقدّم (حيدر) بعودٍ من الخيزران كان على المكتب الذي أمامه، واقترب من (ماهر) حاملاً بيده الأخرى إبريقاً من ماء الشرب النقيّ قائلاً له :
- خذ .. اشرب .. فلا شك أنك عطشان!.. ولا تعتب على أولئك الجنود الحمقى، سامحهم، فأنت كما يبدو طيّب القلب، ومثقّف، ومتفهّم.. أليس كذلك؟!..
هز (ماهر) رأسه موافقاً، مع ابتسامةٍ صفراء ساخرةٍ على شفتيه!..
- لكن قل لي : مَن الذي ورّطكَ في هذه المؤامرة الخطيرة على أمن الدولة؟!.. أراك صريحاً وصادقاً، مَن ورّطكَ يا (ماهر)؟!..
- .. .. !..
- لا .. لا !.. يبدو أنك مُتعَب، حسناً، قُم .. قُم وتمدّد قليلاً على هذا السرير الذي أمامك، ريثما أطلب لك بعض الطعام!.. لكنني أريدك أن تفكّر بعمق، وتُعيننا على الإمساكِ بكل خيوط المؤامرة، ولن ننسى لك هذه النخوة الوطنية!..
- لم أفهم يا سيدي!.. كل الذي أعرفه وأتذكّره، هو أنّ رجالكم داهموا بيتنا للقبض على ابن عمي (حسام عبد العزيز)، فلم يجدوه عندنا، فاعتقلوني رهينةً عنه حتى يُسلّم نفسه!..
- لكنك تعرف أين يختبئ الآن، ولدينا معلومات موثوقة تفيد بأنك مشترِك معه في المؤامرة!..
- سيدي : لا أفهم ما تقول!.. فأنا طالب في الجامعة، في السنة الأخيرة من كلية الهندسة، ولا وقت عندي للسياسة، ولا أحبها، وملفّي لديكم .. راجعوه!..
- إذن أنتَ لن تعترف؟!..
- لا شيء عندي أعترف به، صدّقني!..
- خُذْ إذن.. خُذْ .. خُذْ، (منهالاً عليه بعود الخيزران)!..
صفّق الضابط (حيدر) بكفّيه ملتفتاً إلى باب الغرفة، منادياً على الرجل الضخم :
- (نَعّوم) .. أيها الملعون .. خُذْ هذا الحيوان من أمامي .. خُذه بسرعة!..
ما كاد ينهي كلامه، حتى اقترب (نَعّوم) من (ماهر)، فأمسك بوسطه، وحمله إلى خارج الغرفة، ثم قذف به عند باب الزنزانة قائلاً :
- قُم .. قُم أيها اللعين، ماذا فعلتَ مع سيدي المقدّم؟!.. قُم بسرعةٍ وأغلق الباب، وإلا علّقتكَ بهذا الحبل كالمعلاق، لتكونَ عبرةً لغيرك!..
الليل يُرخي أجنحته في كل مكان، والقمر المدوَّر يظهر ويغيب فوق الغيمات الداكنة التي بدأت تتحرك مسرعةً، فيخفِّفُ بعضاً من ظلام الليل المخيف، لكنّ أشعته غير قادرةٍ على اختراق ثقوب الجدار الخارجيّ لزنزانة الطالب (ماهر)، الذي بَسَطَ كفيّه أمامه داعياً الله عز وجل بخشوعٍ وحرقة :
- اللهم هوِّن عليّ محنتي، وثبّتني .. يا رب أشكو إليك ضَعفي فلا تضيّعني .. اللهم ليس لي إلا أنتَ ففرّج عني كربي وحزني .. اللهم ارحمني واغفر لي، وامكُر لي ولا تمكُر عليّ!..
تساقطت دموع حرّى من عيني (ماهر)، وبدأت الطمأنينة تدخل قلبه، فأخذ يفكّر ويفكّر، ويحدّث نفسه المتعَبَة :
من أين أتتني هذه المصيبة يا إلهي؟!.. فلم يبقَ لي إلا ستة أشهرٍ لأتخرّج من كلية الهندسة المعمارية، وأمي الحبيبة الحزينة لا تصدّق نفسها أنها ربّتني حتى صرتُ رجلاً، فأنا وحيدها وسندها بعد استشهاد والدي الحبيب في الجولان منذ خمسة عشر عاماً!.. آه يا أم ماهر كم عانيتِ حتى كبر وحيدُك، وكم بنيتِ من آمالٍ عِظامٍ لأرفع رأسكِ عالياً، ولتفخري بابنكِ المهندس، الذي تحمّلتِ من أجله الجوع والبرد والحرمان، ورفضتِ (لسواد عيونه) الزواج بعد استشهاد رفيق العمر!.. ما تزال كلماتكِ الحلوة تقرع مسامعي يا أمي الغالية :
- سأزوّجكَ يا ابني بنتَ الحلال الجميلة التي تليق بكَ، وها أنت ذا ستصبح مهندساً عظيماً، وها هي ذي (سلوى) جاهزة : بنت ذكية نابهة، مؤدّبة مهذّبة جميلة، بنتُ أسرةٍ وناسٍ محترمين، وقد تحدّثتُ مع أمها بشأنكَ، وهي موافقة وراضية، وكذلكَ (سلوى) الغالية .. فأنتَ ستتخرّج من الجامعة هذا العام، وهي كذلك ستنال شهادة الثانوية العامة .. وهكذا، ستصبح الأمور كلها جاهزةً تماماً خلال أشهر قليلةٍ وحسب!.. وكم أشتاق لرؤية أحفادي أولادك وبناتكَ يا ولدي الحبيب وقرّة عيني (ماهر)!..
تنهّدَ ثم اتكأ إلى الجدار الذي خلفَه، ورقدَ متهالكاً، ثم غطّ في نومٍ عميقٍ لم يصحُ منه إلا عند الفجر، عندما قرع الحارسُ بابَ الزنزانة بشدّةٍ صارخاً :
- انهض.. انهض، تحقيق!..
في غرفة التحقيق سأله الضابط :
- أينَ أخفيتَ الأوراق التي أخذتَها من ابن عمّكَ (حسام)؟!..
- صدّقني يا سيادة النقيب أنّ هذه المعلومة لا أصل لها، فأنا أصلاً حجّمتُ علاقتي مع ابن عمي وأصدقائه، منذ أن طَلَبَتْ إلي والدتي ذلك، منذ أكثر من سنة، ولا أعرف شيئاً مهمّاً عنه منذ ذلكَ الوقت!..
- ماذا تعرف عن (حسام)؟!..
- لا أعرف شيئاً مهماً يفيدكم، سوى أنه كان دائماً ينتقد الحكومةَ انتقاداتٍ عامة كغيره من الناس!..
- تمام .. ماذا كان يقول أمامك؟!..
- كان يقول مثلاً : إن السلطة فاسدة، ورجالها يظلمون الناس، ويعتقلون الأبرياء، ويكتمون على أنفاس الشعب، ويزوّرون الانتخابات، وينهبون مؤسّسات الدولة، وينتهكون حرمة المساجد، ويجبرون الأطفال على الانتساب إلى منظمات الحزب.. و..
- تمام .. نعم .. نعم، وماذا أيضاً؟!..
- ويحاربون الحجاب، ويعذّبون السجناء من غير ذنب، والعسكريون ورجال المخابرات يتسلّطون على الناس، ويضايقونهم، وينتهكون حُرُماتِهِم!..
- وماذا أيضاً؟!..
- هذا كل ما كنتُ أسمعه منه!..
- وأنت ما رأيك بالذي كان يقوله؟!..
- لا رأي لي يا سيدي، فأنا كل همي في هذه الدنيا أن أكسبَ رضى أمي التي ليس لها في هذه الدنيا غيري، وهي كانت تنصحني ألا أتدخّل بالسياسة، وقد أَطَعْتُهَا بشكلٍ كاملٍ يا سيدي!..
- ألا تحب ابن عمكَ (حسام)؟!..
- في الحقيقة أحبه كثيراً يا سيدي، فهو صاحبي وصديقي، عشنا طفولتنا معاً ، وكبرنا معاً، وهو صاحب أخلاقٍ رفيعة، وأدبٍ جمّ، كما أنه كان يضحّي كثيراً من أجل مساعدتي ومساعدة الناس من حوله بشكلٍ عام!..
- لقد عثرنا على بعض الوثائق والأوراق في بيت أحد الطلاب المتَّهمين، وفيها عثرنا على اسمكَ واسم ابن عمك عنده، فما الأمر؟!.. ماذا تقول؟!..
- أقسم لك يا سيدي، بأنه لا علاقة لي بهم، وقد يكون أحدهم يحمل اسماً يشبه اسمي : (ماهر)!..
- (ماهر) الذي عثرنا على اسمه -حسب معلوماتنا الدقيقة- هو الذي مزّق صورة السيد الرئيس عند باب السوق، وهو الذي كان يكتب الشعارات المضادة للحكومة على الجدران، وهو الذي اشترك في محاولةٍ لاغتيال أحد ضباط سرايا الأمن .. أتعرف ما عقوبة كل هذه الجرائم؟!..
- وما علاقتي بهذه القضايا كلها يا سيدي؟!..
- علاقتكَ أنكَ أنتَ (ماهر) الذي نبحث عنه؟!..
- والله العظيم يا سيدي لستُ أنا الذي تقصده؟!..
أشار الضابط إلى الجنديين الواقفين عل يمين (ماهر) ويساره، قائلاً :
- خذاه، وقوما باللازم، حتى يعترفَ بالحقيقة!..
بعد تسع ساعاتٍ من التعذيب المتواصل في قبو التعذيب، أعيدَ ماهر إلى زنزانته وهو يئنّ، وقد كُسِرَت ذراعه اليسرى، وتهتّكَ لحم وجهه وبطنه، وغطَّت الدماء النازفة صدره وقدميه وفخذيه ورأسه!.. وغاب في رقادٍ عميقٍ، لم يصحُ منه إلا في الصباح الباكر، على صوتٍ مجلجلٍ يتلو أسماءَ عشرين مسجوناً، مع أوامر بالتوجه إلى ساحة السجن الخلفية فوراً!..
- هل قرؤوا اسمي؟!.. يا إلهي .. نعم .. لقد سمعتُهم ينادون على اسمي : (ماهر عبد العزيز)!.. نهض متثاقلاً، جرّ قدميه متألماً، خرج إلى الساحة متأخراً، ليجدَ أعواد المشانق تتدلى منها أجساد تسعة عشر رجلاً ما يزال بعضُهم يُكبّرون ويهلّلون!..
- يا إلهي!.. ما هذا الذي أراه؟!.. ساحة إعدام؟!.. اللهم استر يا رب!..
تقدّم إليه أحد الجنود الواقفين، سائلاً :
- ماذا تفعل هنا؟!..
- لقد قدمتُ بناءً على الأوامر التي سمعتها من الميكروفون!..
- ما اسمك؟!..
- ماهر عبد العزيز!..
نظر الجنديّ إلى قائمة الأسماء التي بين يديه، ثم هز رأسه، وتوجّه إلى ضابطٍ برتبةٍ كبيرةٍ كان يقف قريباً منه، تبادل معه حديثاً قصيراً، ثم عاد إلى (ماهر) مبتسماً :
- ليس لدينا أعواد مشانق جاهزة الآن، فهؤلاء المعلَّقون أمامك لم يتركوا مشنقةً واحدةً لك!.. لكن لا بأس، اقترِب.. اقترِب.. ثم تناول من على منضدةٍ أمامه سكيناً حادةً من سكاكين الحلاقة، وأمسك بكتفي ماهرٍ دافعاً إياه بقوّةٍ إلى الخلف، باطحاً إياه أرضاً!..
صرخ (ماهر) من الألم، فَدَاس الجلاّد ببسطاره على رأسه، شاداً ذقنه إلى الخلف، وقام بِحَزّ عنقه على مقربةٍ من إحدى بالوعات الساحة، وسط ذهول (ماهر)، الذي حشرج متمتماً بكلماتٍ متقطّعةٍ مع دفقات الدم المتدفق من أوداجه : الله ..أك..بر.. لا إ..له إ..لا الله!..
بعد دقائق قليلة، دخل الضابط الكبير إلى غرفةٍ من غُرَف التحقيق .. أدار قرصَ المذياع الموضوع على المكتب الذي أمامه، ليستمع إلى المذيع الذي يقرأ تصريحاً صحفياً رئاسياً :
السيد الرئيس : (نحن نحارب الإرهاب منذ ثلاثين عاماً، ومستعدّون لتقديم خبراتنا إلى الآخرين في هذا المجال)!..
قرع أحدهم باب غرفة الضابط الكبير، فأذِن له بالدخول .. دخل ضابط برتبة مقدَّم، يرافقه جنديان يجرّان شاباً مكبّلاً بالأغلال، ورأسه قد أُدخِلَ في كيسٍ من القماش الأسود .. ألقى الثلاثة التحية العسكرية لسيادة العميد .. ثم قال الضابط المقدَّم لرئيسه العميد وعلامات البهجة بادية على محيّاه :
- سيدي : أقدّم إليكَ المجرم الفارّ من وجه العدالة : (ماهر خير الدين)، الذي مزَّق صورة السيد الرئيس عند باب السوق، وصاحب الشعارات المعادية المكتوبة على الجدران، والمشترِك في المحاولة الآثمة لاغتيالكم الشهر الماضي سيدي .. فقد قبضنا عليه متلبِّساً منذ نصف ساعة، واعترف فوراً بكل جرائمه!..