المقامة الخيطية

المقامة الخيطية

بقلم: أحمد جمال

قال الراوي:

كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، أمير عظيم الشان، مرهوب الجانب واسع السلطان. لكنه ضحل الثقافة ضامر العرفان، لا يخاطب الناس بالعقل بل بالمال والصولجان. وكان له وزير صدق، ينطق من غير خوف بالحق، جمع نفائس الحكمة وأسباب العلوم، وأُلهم دقائق المعرفة والفهوم، مع إخلاص للأمير عجـيب، وحـرص عليه وعلى سمعته غريب. سكن قلب هذا الوزير فطفحت آثاره على ظاهره، وبدت في أفعاله وأقواله، في حالي الشدة والرخاء، والنعم والبلاء.

وكان للأمير مجلس سمر. يحضره مَنْ جابَ الأرضَ وطوّف في الآفاق، ومن شيَّبته الأيام وحنَّكته السنون والأعوام من الأعيان والكبراء والسادة والشرفاء ينثرون في خرائد المعرفة وفرائد الحكمة، مما يغري الأمير بالحديث فيندفع فيه بقصد أو غير قصد أمام جُلاّسه مِن صيارفة الفكر. هؤلاء الذين ينقدون الكلام كما ينقد الصيرفي الدنانير فيعرف خالصها من مغشوشها وجيدها من زيوفها.

ولما رأى الوزير الأبيُّ والخِلُّ الوفيُّ، من السمّار الاستهجان لتخريف الأمير العظيم الشان، حيث يبدو كلامه كخلط الأطفال بجانب رصين كلام جلسائه وسامق علمهم وبديع فهمهم، عزم على أن ينبه مولاه لهذا الخطر، وأن يبذل غاية جهده لتلافي ما ينتج عنه من أذى وضرر.

وفي لقاء ودّي للغاية رُتّب له بعناية، تمّ بين الأمير والوزير في ركن جميل من أركان القصر الواسع الكبير اتفاق بعد بحث ودرس ، خلاصته أن يشير الوزير بعينه إشارة مخصوصة كلما تورط الأمير بحديث ساقط أو كلام بارد هابط، تبيهاً له لكي يصحح الكلام أمام هؤلاء الجلساء الأعلام.

ولم تنطل طويلاً هذه اللعبة على هذه النخبة، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى عرفوا السر، وأصبح المضي في هذه الطريقة والإصرار عليها محض شر. كيف لا والوزير النحرير ما كان يكفّ عن الإشارة بعد كل عبارة، ولم تكن عينه تتوقف في مجلس الأمير عن الحركة، ولم يكن للأمير في هذه الحركة أدنى بركة.

وأدرك الوزير ما حدث ففكر في الأمر ملياً ثم عقد على جناح السرعة مع الأمير جلسة سرية، بعيداً عن أعين الإعلاميين لبحث هذه القضية القومية. وتطلّع الأمير إلى وزيره الميمون ومستشاره المأمون يلتمس عنده الحل لما يواجهه من مشكلٍ على مكانته العظمى بات يطل، ولم يخيب الوزير الظن، ولا برأيه على الأمير المبجل بخل أو ضنّ، فقد أشبع الموضوع من قبل اللقاء درساً فقال على الفور:

- أيها الأمير الخطير تجلس أنت يا سيّدي في جانب من البساط الممدود، وأجلس أنا قبالتك في الجانب الآخر، وأربط في إحدى أصابع رجليك الطاهرتين خيطاً يكون طرفه الآخر في يدي، وتجعل الخيط تحت البساط مواراة له عن العيون وإبقاء لهذا السر في حيّز المكنون. فإذا ما تكلم مولاي كلمة تنكرها عقول جلسائه شددتُ الخيط شدةً لطيفة، ثم إذا اقتضى الأمر، أتبعتُها بأخرى قد تكون عنيفة.

وفي أول مجلس بعد ذلك الاتفاق وكانت الأمور قد رتبت على أحسن ما يرام، وأَكمل نظام. اندفع –والعيون متوجهة إليه- مولانا الأمير الهمام يتحف الحاضرين ببعض إنجازاته، ويطلعهم على طرف من صولاته وبطولاته فقال:

- بينا نحن في إحدى رحلات الصيد ذات يوم، نبغي أن نصيد طيراً في الجو أو حيواناً بحرياً يجيد العوم، إذا بطير كبير، كأنه الفيل يحوم فوق الركب النبيل، حتى سدّ الأفق العريض الطويل، فما كان منّي إلا أن فوَّقْتُ السهم ورميته رمية واحدة بارتياح، فخرّ بذلك السهم كسير الجناح، عديم الصياح.

فلم يلبث أن تمتم الحاضرون إنكاراً واستغراباًُ:

- طير كأنه الفيل! رباه كيف يطير وهو جد ثقيل؟ إننا لم نسمع لهذا من قبل بمثيل. ما هذا الكلام الذي يزري بالعقول ويستخفّ بالأحلام؟

وهنا شدّ الوزير الخيط بعد أن رأى استغراب الجميع ضخامة الطير. فقال الأمير مصححاً على الفور:

- لا أقصد أن الطير في حجم الفيل تماماً، لكن يخيّل لمن يراه أول الأمر أنه كذلك وما هو بذلك. لكن ربما كان في حجم البقرة، فاصفحوا عن التعبير بتلك الفقرة.

ومرة أخرى أسرع الوزير إلى الشدّ بعد ما رأى عند الحاضرين عودة الأخذ والردّ، مما حمل الأمير مرة أخرى على أن ينقص الطير من أطرافه فقال:

- لا تفهموا من كلامي أنه كالبقرة الكبيرة بل هو أشبه ما يكون بوليدها الصغير الذي لم يمض على خروجه إلى الدنيا سوى زمن يسير.

لكن بعض الحاضرين لم ينحسر مدّ إنكاره، فزاد الوزير في الشدّ وهنا أراد الأمير أن يحسم الأمر فضغط الطير، إلى آخر حدّ وأقلِّ قدْر. فقال:

- إن المرء إذا تمعّن في هذا الطير يراه كالجدي الصغير أو كالأرنب البري الكبير.

فقال الحاضرون:

- يا مولانا الأمير ما هذا التقليص الخطير الذي يكاد العقل من هوله يطير، إننا لنعجب كيف صغر الطير من فيل كبير إلى جدي صغير.!

فالتفت الأمير إليهم وقال، وهو يشير إلى الوزير في غضب:

- اسألوا هذا اللعين فعنده السر الدفين، وقد كاد خيطه يقطع إصبعي الغالي الثمين، ولا أراكم عما أقصده غافلين.

وهكذا تمّت الحكاية، وسكت الراوي عن بقية الرواية.

وإننا لنرفع بهذه المناسبة أحرّ التهاني وأعظم التبريكات، إلى شركات إنتاج الخيوط، ونبشرها بموسم رائع وأرباح خيالية، إذا طبّقتْ هذه النظرية الخيطية. واللهُ تعالى، على أن يبدّل خسائر شركات الخيوط أرباحاً قدير، وبالإجابة جدير.