الفجر الجديد

الفجر الجديد

قصة : غرناطة الطنطاوي

هرولت بسرعة تجلب كوب ماء لأختها المتعبة، وعندما عادت إليها وجدتها جاحظة العينين، باهتة اللون والشفتين، ترتعش من رأسها إلى أخمصي قدميها. صرخت (منى) وارتمت فوق أختها مغشيّاً عليها.

تداعى الأطفال من حولهما بين بكاء ودهشة واستغراب، وتدافعوا إلى الجيران مستنجدين حائرين. وما هي إلا دقائق حتى أقبلت سيارة إسعاف حملـت الأختـين معاً.. ولكن (ليلى) لفظت أنفاسها الأخيرة قبل أن تصل إلى المستشفى، أمّا (منى) فقد أصيبت بانهيار عصبي من هول الصدمة.

بعد أسابيع أخذت (منى) تتماثل للشفاء قليلاً قليلاً، بمساعدة زوجها الذي لفّها بأريج الحبّ والحنان، فهي حياته قبل أن تكون زوجته... أمله ومستقره، كما هو أملها ومستقبلها... كم سهرت الليالي الطوال في انتظاره تخفي لواعج الحبّ والغيرة من صديقاته اللواتي يسهر معهنّ باستهتار وأنانية... أرادها أن تكون أجمل زوجات أصدقائه، وكان له ما أراد.. ركنت حشمتها وحجابها جانباً، وأخذت تتقصى خطوط الموضة المجنونة، وآخر مستحضرات باريس من زينة وعطر ولباس وقصة شعر لافتة للنظر علّها تنال إعجابه، وتشغل فراغ عقله ومكنونات فؤاده، إنه يحبها وهي تحبه ، ولكنه كالنحلة لا يستقر على زهرة واحدة، إنها الأنانية المفرطة وليس المحل الذي تعيشه.

عمله ينتهي في الساعة الثانية بعد الظهر، فيتناول طعامه على عجل، ويغرق في سبات عميق ساعة من الزمن، ثم يستيقظ ويدير جهاز الفيديو على فيلم وياله من فيلم، يحرّك الغرائز البهيمية، ويقضي على النخوة والشرف، فيترك زوجته كالزهرة الذابلة ليتسكّع في حانات المدينة إلى منتصف الليل ليعود مترنِّحاً مترنماً بألحان غير مفهومة.. ويلقي بجسده المنهك على السرير، فتهتز له جنبات البيت.. ويئنّ السرير من تحته مستنكراً مشمئزاً من عربدة هذا العربيد..

وزوجته الصابرة تتلاطمها مشاعر الحب والاشمئزاز معاً، ماذا تفعل لكي تعيد إلى زوجها رشده وصوابه.. تخلّت عن قيمها الدينية وحشمتها، وتزينت وتعطرت لعله يعود إليها، ولكن لا حياة لمن تنادي، فأغرقت هي بدورها نفسها في متاهات الحفلات الراقصة مع أختها الصغرى (ليلى) تلك الفتاة اللعوب الحسناء ذات الضحكة الرنانة والخصر النحيل الذي يتمايل مع كلّ كلمة إطراء ونظرة إعجاب، فرصيدها في حسابات الدنيا عشرون ربيعاً وجمال أخاذ، وبعض المعجبين.

في تلكم الليلة الغريبة التي شهدت موت (ليلى) ومولد (منى).. عندما عادت (ليلى) و(منى) من حفلتهما وهما في أبهج حلّة وأجمل رسم رسمته الحياة لهاتين الحسناوين، أمسك القدر فجأة بقبضة من حديد قلب (ليلى) وأخذ يعصره مستحلباً منه حياة قصيرة عاشتها (ليلى) في صحة وهناءة، صرخت واستنجدت بأختها التي أحضرت لها كوب الماء، ولكن الأجل بخل عليها حتى بشربة ماء فمنعها منها.

أخذت (منى) تعيد حساباتها مع نفسها، هل تكون هذه الدنيا بهذه التفاهة؟ إنها تتصورها كعجوز شمطاء تضحك ملء شدقيها وقد برزت أنيابها الصفر لتقضّ كل من ركن إليها.. كالثعلب الذي يبتسم لفريسته قبل أن ينقضّ عليها وبعد أن يزرع الاطمئنان والود في نفسها الساذجة.

أختها (ليلى) كانت تنوي الإياب إلى الله والتمسك بتعاليمه، بعد أن تغرف من الحياة مباهجها ومفاتنها وملذاتها إلى أن تصل إلى حدّ التخمة والإشباع، وحينها تعود إلى الله مستغفرة نادمة على ما بدر منها، طامعة في مغفرته ورحمته فالله غفور رحيم يفرح بالأوّابين التوّابين، ولكن الأجل خيّب أملها، وسخر من سذاجتها وعجّل لها المنيّة قبل أن تحقق ما كانت تصبو إليه.

ارتعدت فرائص (منى) عندما وصلت إلى هذه النتيجة. لا.. لن تعيد مأساة أختها، فالعاقل من اتّعظ بغيره.. اتّجهت إلى دولابها وأخرجت حجابها ونفضت عنه تراب الزمن المتراكم بحبّ وحنان وضمّته إلى صدرها كمن التقت ولدها بعد طول غياب.. بكت وبكت وغسلت بدموعها آثام الماضي وأدرانه، فقد ولدت من جديد بفطرة سوية نقيّة، وبقلب شفاف رقراق يستشف المعاني السامية من الدين الحنيف.

ولكن الزوج المحبّ شمخ بأنفه عالياً ، وتجافى عن زوجته، واعتبر عودتها هذه إلى الله ضرباً من الجنون، وامتداداً للمرض العصبي الذي أصابها، ولكنّ الطبيب أكّد له أنها في كامل وعيها وصحتها العقلية... وأن عقلها الباطني قد صحا من غفوته، وتغلّب على النوازع النفسية الهابطة، والأهواء المترديّة، ليثبت أنّ الفطرة لابدّ أن تسيطر على حسّ المسلم، كالفجر الذي يمزّق ستار الليل ليبزغ وينير الدروب والطرقات.

لم يقتنع الزوج بكلام الطبيب وهاج وماج وتوعّد زوجته بالطلاق تارة وبالضرب تارة أخرى، لتقلع عن حجابها وصلاتها، وقد أكّد لها أكثر من مرة أنه مسلم ويعتقد أن الإسلام خير دين. ولكن الاعتقاد شيء والحجاب شيء آخر... الحجاب ليس من الإسلام، بل هو بدعة لا تمتّ إلى الدين بصلة.. بدعة ابتدعها العثمانيون الجهلة المتعصّبون، وألصقوها بالإسلام.. وأنا والحمد لله قلبي عامر بالإيمان أكثر منك.. ثم ما هو موقفي من أصدقائي وأنت ترتدين هذه الثياب المخيفة؟ أين حبّك لي؟ وأين خوفك من السخرية والاستهزاء من الأقارب والأصدقاء.. و..؟

نظرت (منى) إلى زوجها نظرة حب وإشفاق، وعاهدت نفسها أن تقوّم اعوجاج زوجها بالحبّ والتفاهم، والصبر، والله يهدي إليه من يشاء..

وكما بزغ نور الإيمان في قلبها، عسى الله أن ينير قلب زوجها بفجر جديد يعيد الحبّ والوئام إلى الأسرة الصغيرة في ظلّ الإسلام…