رماد العصفور الأصهب
رماد العصفور الأصهب
بقلم : هيفاء محمد المجذوب
عند عتبة الرصيف، أمام ذلك الدكان الذي غابت زواياه خلف أكوام الخشب، جلس علي الطفل الجميل ذو الخصل الصهباء، التي تتهادى على جبينه كأشعة الشمس على حقول القمح، يلعب بكرته الخضراء، يحمل في قلبه براءة السبعة الأعوام ..
يلعب كعادته محلقاً في سماء طفولته البريئة أمام دكان أبيه النجار، لا يمل القفز
كالغزال الصغير داخل الدكان يقلد والده في حفر الخشب..
لم يكن عليٌ كبقية الأطفال، يرتدي صدرية المدرسة، أو يحمل حقيبة الكتب، مذ ذلك اليوم الذي توسلت فيه أم علي مدير مدرسة الحي ألا يحرم ابنها الجلوس في الصف كبقية أقرانه..
قال لها أنه لا يوجد مكانٌ لمن هم في حالة علي ً، فمكانه ليس في المدرسة، وإنما مع الأطفال الذين يعانون مثله التخلف العقلي .. عادت أم علي تبكي مرارتها في حضن زوجها..
ما ذنب ذلك العصفور الأصهب إن شاء الله أن يخلقه مختلف عن بقية الأطفال؟!
ومرت الايام ليكبر علي ملاكاً جميلاً وسط أخواته الخمس وأمه وأبيه والجدة ، التي لا تنفك تردد كلماتها الحكيمة : يا أم علي وأبا علي.. إن الله الكريم- سبحانه- قد عوض علياً بزيادة في قلبه المفعم بالحب والحنان..
وهاهوعلي يوزع البسمة على كل من يعرفه، يتنقل كالعصفور من بيت لآخر، يعشقه الجميع في الحي، ثم يعود لزاويته الحبيبة ليكمل اللعب بكرته الخضراء أمام الدكان..
وفي يوم كئيب حزين، لم يكن علي أمام الدكان، وإن كانت لا تزال كرته الخضراء تسأل عنه.. أين هو ذلك العصفور الأصهب؟! ورويداً رويداً تعالت الأصوات في الحي وجميع الأماكن القريبة: علي.. علي.. أين أنت ؟؟
ساعات وساعات.. ولا شيء غير الصدى، يردد السؤال عن العصفور الأصهب الذي غاب عن عشه منذ ثلاثة أيام..
ولا زالت الكرة تتنتظره أمام الدكان؟! وأمه التي اعتكفت في سريرها غائبة عن الوعي، وجدته الحاجة تمسك المسبحة القديمة لا تنفك تصلي : اللهم لا أسألك رد القضاء.. ولكن أسألك اللطف فيه..
وبينما كان أبو علي يجلس يحتضن رأسه بكفيه أمام الدكان، يستجدي الكرة بنظراته لعلها تنطق لتخبره عن مكان العصفور الصغير .. يأتي ذلك الخبر الغريب.. لقد عثروا على علي في الحوش القريب.. ولم يحس أبو علي بنفسه إلا وهو بين الأعشاب الضخمة التي تسكن الحوش، ويردد في نفسه:
ما الذي أتى بعصفوري الصغير إلى هنا؟؟
وكان ذلك المشهد الفظيع.. لم يكن عليأ الذي هناك! وإنما فردة حذاء، وثياب محروقة..
أين هو ابني؟؟ أجيبوني؟!
صرخ أبو علي.. وجثا على ركبيتيه عندما أخبروه.. أن تلك الكومة الصغيرة من العظام المحروقة.. قد كانت عليأ علي.. علي؟! هذا ليس علياً.. لا يمكن أن يكون.. رحمتك يا رب ! صرخ أبو علي بصوتٍٍِ مخنوق، والدموع تنهال من عينيه تحاول أن تغسل بعض الرماد الذي تراكم فوق ما تبقى من ذلك العصفور المذبوح ..
فعلي لم يكن يعرف ببرائته، وطفولته، وقلبه الكبير، أن الذي يحمل له لوح الشوكلاته وعلبة العصير.. وحش من وحوش البشر، يبحث عن ضحيته، ولعاب الشهوة يسيل من أنيابه.. لقد تكالبت على ذلك العصفور الأصهب وحوش ثلاثة، مزقت بمخالبها وأنيابها برائته وطفولته.. وبينما كان يتلوى ألماً والوحوش تنهش أوصاله، خافت الوحوش أن يفضح جريمتهم فأكملوا لعبتهم لعبة الشهوة الحقيرة.. وأحرقوا بماء النار جسد علي وريشه الأصهب.. فانطلقت روحه عصفوراً بجناحين ذو ريش أصهب، لينضم إلى طيور الجنة... ولتبقى بقايا جسده ورماد خصل شعره الأصهب شاهداً على جريمة أولئك الوحوش، الذين باعوا أرواحهم إلى الشيطان..
واليوم.. وبعد أعوام على تلك الجريمة البشعة، لا زالت روح ذلك العصفورالأصهب تخفق بجناحيها في نفس المكان الذي أعتاد علي اللعب فيه مع كرته الخضراء.. ولازالت هناك وحوش أخرى تختبئ وراء أقنعة مختلفة، تنتظر فرصتها للانقضاض على ضحية جديدة.. فما أكثر سارقي البراءة من عيون الأطفال؟! وما أكثر المتعاقدين علي بيع روحهم للشيطان..