مصعب بن عمير
زين الشباب
مصعب بن عمير
عبد الله الطنطاوي
كان لجيراننا بنت صغيرة، بيضاء شقراء، ذات شعر طويل جميل، يلفت النظر، لأن عمرها لا يتناسب مع طول شعرها، فقد كانت بنت ثلاث سنين، وكان طول شعرها ثلاثة أفتار. وكان اسمها أغرب من طول شعرها.. كان اسمها مصعب.
استغربت هذه التسمية، فمصعب اسم من أسماء الصبيان، وليس اسماً من أسماء البنات.. ولي أكثر من زميل وصديق بهذا الاسم.
ذهبت إلى أبيها، وسألته عن سبب هذه التسمية، فقال لي:
- عندما قرأت السيرة النبوية، شدّتني شخصية مصعب بن عمير، ذلك الشاب الوسيم الجميل المدلل، الذي ترك ما كان فيه من غنى ومال وجاه، لوجه الله تعالى، بعدما أسلم، وآمن بالله ورسوله، وكفر بالأصنام.. تلك الأحجار الصمّاء التي نحتها العرب في الجاهلية، ثم عبدوها من دون الله تعالى.
كان جارنا يتحدث في حماسة وإعجاب عن مصعب، فعرفت أنه يحفظ سيرة حياته عن ظهر قلب، فقلت له:
- لقد حببتني، يا عمي، بهذا الصحابي، وأرجو أن تقصّ عليّ قصة حياته، من أولها إلى آخرها.
فقال جارنا مبتسماً:
- ولا تتعب؟
- ولا أتعب.
- ولا تملّ؟
- ولا أملّ.
فأسند جارنا أبو مصعب ظهره إلى الكرسي الذي يجلس عليه، ثم قال:
- ما رأيك في أن تسألني عما شئت من حياة مصعب وأنا أجيبك؟
قلت:
- لا بأس.. ولكن سأستعير منك ورقة وقلماً، لأسجّل المعلومات اللازمة عنه.
نهض جارنا، وجاءني بأوراق وقلم، ثم قال:
- سلْ عمّا تريد.
فشكرته شكراً جزيلاً على تواضعه، وكرمه، ثم سألت:
- أين ولد مصعب يا عمي؟
- في مكة المكرمة.
- متى وُلِد فيها؟
فابتسم جارنا أبو مصعب وقال:
- كان عرب الجاهلية أمّيين، لا يقرؤون ولا يكتبون.. كان الذين يقرؤون ويكتبون قلائل. ولهذا، ما كانوا يؤرخون لرجالهم، ولمن يولد منهم.. كانوا يؤرّخون بالحوادث، فيقولون: ولد محمد -صلى الله عليه وسلم- عام الفيل.. هذا مثال على التاريخ عند العرب في الجاهلية. ولهذا، فإنا لا نعرف السنوات التي وُلد فيها كثير من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، مثل مصعب بن عمير وغيره.
شكرت جارنا على هذه المعلومة، ثم قلت له:
- هل لك، يا عمي، أن تحدثني عن حياته في الجاهلية؟
فازدادت ابتسامته عذوبة وأجاب:
- حياة مصعب في الجاهلية، كحياة غيره من فتيان مكة، ولكن مصعباً كان جميلاً، ويحب الجمال.. كان يلبس أجمل الثياب وأنعمها، ويحتذي أرقّ الأحذية وأطراها، وكان يحب العطر، فلا يخرج من بيته إلا بعد أن يتعطّر، فإذا مشى في طريقه، سبقته رائحة عطره، فيعرف الناس، أنّ مصعباً قادم، يعرفونه من نوع العطر الذي يحرص على التعطر به.
أحسست كأنّ رائحة العطر تملأ أنفي، فشعرت بالحيوية، وسألت:
- هل كان مصعب من أسرة غنية؟
- نعم، يا بني. كان أبوه غنياً من بني عبد الدار. وكانت أمّه خُناس كثيرة المال.. وكانت تحبّ أولادها، وخاصة مصعب، فتدلّله، وتعطّره، وتشتري له كلّ ما يطلب، وكانت تلبسه أرقّ أنواع الثياب وأجملها، كانت تريده أن يكون فتى مكة ومثالها.. وهكذا كان مصعب.
كان جارنا يتكلم، وكنت أتخيل مصعباً بين يدي أمّه تجمّله وتعطّره، حتى نسيت أني طلبت أوراقاً وقلماً لأكتب بعض المعلومات عنه، إلى أن نبهني جارنا، فانتبهت من سرحاني، وقلت:
- شكراً يا عمي، وسوف أسجّل المعلومات كلها إن شاء الله.. والآن.. أريد أن أعرف شيئاً عن مصعب بعد إسلامه.
أشرق وجه جارنا أبي مصعب، وأقبل عليّ يقول:
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قريش، تتحدث عنه وعن الدين الجديد الذي جاء به، في أنديتها، وعند الكعبة المعظمة، وكان مصعب يستمع إلى تلك الأحاديث التي يختلط فيها الإعجاب بالشتائم والتهديد، فتزداد حيرته، ويسأل نفسه:
لماذا كلُّ هذا العداء لمحمد؟
لماذا يسبّون محمداً ودينه الجديد؟
ولماذا يعذّبون أتباعه؟
ولماذا لم يرض محمد بدين قريش، ويعبد آلهة قريش، كما يعبدها أهله وأعمامه وزعماء قريش، وزعماء العرب؟
لماذا كل هذا العناد من محمد؟
لا بدّ أنّ هناك سراً خطيراً لا يعرفه مصعب..
ولكن.. من يستطيع أن يطلعه على ذلك السرّ، وينتشله من حيرته هذه؟
وبعد تفكير طويل، وتأمّل عميق، قرر مصعب الذهاب إلى محمد، والاستماع إليه مباشرة، لعله يتخلّص من هذا العذاب الذي يقلق راحته، ويزعج هدوءه.
عرف مصعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع بإخوانه المسلمين في دار واحد من أصحابه.. في دار الأرقم بن أبي الأرقم، يقرأ عليهم ما ينزل عليه الوحي من القرآن وآياته، ويعلّمهم أمور دينهم، بعيداً عن أعين المشركين من زعماء قريش..
ذهب مصعب إلى دار الأرقم، وقرع الباب، وعندما فتحوا له، سبقته رائحة عطره إلى خياشيم الرسول وصحبه، فعرفوا أنّ الواقف في الباب هو مصعب بن عمير، جاء يستأذن في الدخول، لسماع النبي، والتعرّف على الإسلام.
أذن الرسول الكريم لمصعب بالدخول، وأجلسه بين يديه، وقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، فبدا التأثر على وجه مصعب، والمسلمون يلاحظون تأثير الآيات في وجهه وعينيه، وفي حركات يديه واختلاجات جسده، وكانوا متلهفين لسماع شهادة الحق تنطلق من لسانه، وتنفرج عنها شفتاه القرمزيتان..
لم يطل انتظار المسلمين، فقد دعا الرسول الكريم ضيفه مصعباً إلى الإسلام، وإلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، وكانت استجابة مصعب رائعة وسريعة، فقد هتف أمامهم، بصوته العذب، وفي خشوع المؤمنين الصادقين:
- أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله.
فكبّر المسلمون، فرحاً بإيمان فتى قريش، مصعب بن عمير، وفرح النبي الكريم، بإسلام هذا الفتى الكريم، الذي كان يتأمله، ويطمع في إسلامه، لما يعرف من كمال عقله، وحسن أخلاقه، وجمال شكله، ونظافة ثوبه، ولا بدّ أنّ قلبه طاهر ونظيف، ولا بدّ أن تكون نفسه وعاء كبيراً لا يملؤه إلا هذا الإسلام العظيم، بمبادئه الكريمة، وعقيدته التي ترتفع بالإنسان، فتصفو روحه، وترقّ عاطفته، وتسمو مشاعره، فقد كرّمه الله، عندما خلقه في أحسن خلقة، وزيّنه بزينة العقل، ليهتدي به إلى الطريق المستقيم الذي يدلّه على الله، ويوصله إلى الجنة.
كنت أصغي إلى جارنا، وهو يتدفّق بهذا الحديث البديع عن مصعب، وعندما سكت، سألته:
- هل أخفى مصعب إسلامه عن أهله وعن المشركين؟ أم أنه ظهر به، ولم يخف من أذاهم؟
تنهّد جارنا، ثم أجاب:
- بل أخفى إسلامه، امتثالاً لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. كان مصعب يعبد الله تعالى في الخفاء.. وكان يستخفي في صلاته، حتى لا يكتشف أحد أمره، فيتعرض للعذاب، مثل سائر المسلمين الذين كان المشركون قد اكتشفوا أمر إسلامهم، فصبّوا عليهم نيران غضبهم، وعذّبوهم أشدّ أنواع العذاب.
- وهل بقي مصعب مدة طويلة على هذه الحال؟
- لا .. لم يخف حاله على أمه، فقد لاحظت تغيّر حياته، ولكنها لم تعرف السبب في ذلك التغيّر. حاولت أن تعرف السرّ، ولكنها لم تصل إلى شيء، حتى جاءها من يكشف لها سرّه، فقد رآه يصلّي كما يصلّي محمد وأصحابه.
- وماذا كان موقف أمّ مصعب من ابنها يا عمي؟
- كان موقفاً شديداً.. جنّ جنونها.. كيف يترك مصعب دين آبائه وأجداده، ويؤمن بمحمد ودينه الجديد؟
حاول مصعب أن يهدّئ من ثورتها، ولكنها كانت تزداد حدة وشدة عليه، وعندما قال لها:
- أنا أحبك يا أمي، وأريد لك الخير، والخير كل الخير في الإسلام، والشرّ كل الشرّ في الأصنام، تلك الحجارة الخرساء الطرشاء التي لا تسمع، ولا تتكلم، ولا تعي شيئاً، ولا تدفع عن نفسها ضراً، ولا تجلب لها نفعاً، وبإمكانك، يا أمي، أن تحطميها بالفأس، وأن تضربيها بالعصا، وأن تلقيها على الأرض، وتدوسيها بقدميك.
ثارت عليه أمه، وانهالت عليه بالضرب.. سبته وشتمته وهددته بالحبس، ثم حبسته، وهو صابر صامد محتسب، حتى تمكن من الإفلات من حبسها، والتخلص من تعذيبها، بالهجرة إلى الحبشة.
عقدت الدهشة لساني، فلم أستطع الكلام والسؤال، وشاهد جارنا دهشتي، فتابع يقول:
ولكنّ مصعباً وإخوانه المهاجرين، سمعوا أن قريشاً هادنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فعاد مصعب إلى مكة مع بعض المهاجرين، ولكنهم وجدوا قريشاً ما تزال مصرّة على كفرها وعنادها وإيذائها للرسول الكريم، وأصحابه المستضعفين، فنصحهم النبي الرؤوف الرحيم بهم، أن يعودوا إلى الحبشة من جديد، فعاد مصعب، وعاد معه بعض إخوانه، والحزن ملء قلوبهم ونفوسهم، لأنهم يفارقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه وأصحابه تحت رحمة الأشرار من زعماء مكة وطغاتها.
ولكن مصعباً لم يصبر طويلاً على فراق حبيبه وقائده محمد صلى الله عليه وسلم، فعاد إلى مكة المكرمة، غير مبال بما سوف يصيبه من الأذى والشر، على أيدي طواغيتها.
عاد مصعب، وقد تغيّرت حاله، لما أصابه من الفقر والجوع والتعب، فلما رآه المسلمون، نكسوا رؤوسهم خجلاً وحزناً، ونظر إليه الرسول الكريم، وهو على تلك الحال فقال عليه السلام: "الحمد لله الذي يقلب الدنيا بأهلها.. لقد رأيتُ مصعباً وما بمكة فتىً من قريش، أنعم عند أبويه نعيماً منه، ثم أخرجه من ذلك، الرغبة في الخير، في حبّ الله ورسوله."
فما ملكتُ نفسي، فهتفت:
- الله أكبر.. ما أعظمك يا سيدي يا مصعب، وما أروع تضحيتك في سبيل عقيدتك.
- واستمر مصعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلى أن كانت بيعة العقبة الأولى، عندما آمن بعض أهل المدينة من الأوس والخزرج بالله ورسوله، سرّاً، فبعث النبي مصعباً إلى المدينة المنورة، ليدعو أهلها إلى الإسلام، ويقرأ عليهم القرآن، ويعلّمهم أمور دينهم.
- وهل استجاب أهل المدينة لمصعب؟
- كل الاستجابة.. لأنهم عرفوا في مصعب داعية، صادقاً فيما يقول، زاهداً بما عندهم، ذا أخلاق عالية، لا يغضب، ولا يسبّ ولا يشتم، ولا يقول إلا خيراً، فأحبّوه، وأقبلوا عليه، وآمنوا بما يدعوهم إليه، حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة.
فسألته وأنا أتصوّر زعماء الأوس والخزرج كزعماء قريش:
- وزعماء المدينة؟ ألم يكونوا كزعماء مكة؟ ألم يقفوا في وجه مصعب؟ ألم يحاربوه؟.
أجاب جارنا في هدوء:
- الأمر في المدينة، يختلف عمّا في مكة.. أهل المدينة وزعماؤها لم يكونوا مثل زعماء مكة.. كان زعماء المدينة من العقلاء والمنصفين، ولهذا، عندما كان الواحد منهم يثور في وجه مصعب، كان مصعب يتحمّله، ويصبر عليه، حتى يهدأ غضبه، ثم يقول له:
- لقد سمعنا ما قلت، أفلا تجلس لتسمع ما نقول؟ فإن رضيت به قبلته، وإن كرهته تركته.
وكان ذلك الزعيم يجيبه بقوله: أنصفت. ثم يجلس ويستمع إليه، فيقرأ مصعب بعض الآيات، حتى إذا رأى أثرها عليه، دعاه إلى الإسلام، فلا يملك الرجل إلا أن يستجيب له.
- ما شاء الله .. ما شاء الله.. معنى هذا أنّ مصعباً لم يجد مشقة في دعوة الناس إلا الإسلام في المدينة.
فقال جارنا أبو مصعب:
- لا بد من المشقة، ولكن مصعباً تغلّب على الصعوبات والمشقات بصبره العجيب، وبجدّه واجتهاده.. وقد استعصى عليه زعيم قبيلة الخزرج: عبد الله بن أبي بن سلول.. كان هذا الرجل يستعدّ ليكون ملكاً على الأوس والخزرج، فجاء مصعب، وأصلح الإسلام بين القبيلتين المتنازعتين، أعني الأوس والخزرج، وصار المسلمون إخوة متحابين، وتناسوا ما كان بينهم من عداوات وخصومات ودماء في الجاهلية، ولم يعودوا في حاجة إلى ملك كعبد الله بن أبيّ، كما تخلّصوا من وساوس اليهود، ومن إفسادهم وفسادهم. لقد أنقذهم الإسلام من ضلال الجاهلية، ومن مكر اليهود وفسادهم..
سألت جارنا أبا مصعب عن دور اليهود في المدينة فقال:
- كان اليهود يعيشون في المدينة.. وكانوا يفسدون بين قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج، ويثيرون العداوة والبغضاء بينهما، وكانت القبيلتان تقتتلان بسبب إفساد اليهود، ليبقى الأوس والخزرج تحت رحمة اليهود، وتحت وطأة الديون التي كانوا يستدينونها منهم، حتى جاء مصعب، وأسلم على يديه خلق كثير من القبيلتين المتخاصمتين، وصار يصلّي بهم، ويخطب فيهم الجمعة، ويصليها معهم، وكان يزرع في نفوسهم حبّ بعضهم لبعضهم الآخر، حتى صاروا إخواناً في الله، متحابين متعاونين.
وعندما توقف جارنا عن الكلام قلت له:
- تابع يا عمي أرجوك، فسيرة هذا الرجل العظيم بديعة ورائعة.
فقال، والنور يطفح من وجهه الوسيم:
- كان مصعب يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاح الدعوة، وإقبال الناس على الإسلام، ثم استأذنه بزيارته في مكة المكرمة، فأذن له، وجلس مصعب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى له ما جرى معه في المدينة، ففرح الرسول الكريم فرحاً عظيماً، وقال له مصعب:
- إن الإسلام قد فشا في المدينة، حتى دخل كل بيت فيها، وسوف ترى من وفودهم في هذا الموسم، ما تقرُّ به عينك.
وجاءت الوفود من المدينة إلى مكة في موسم الحج، وهم مصممون على إنهاء حالة الاضطهاد التي يتعرض لها النبي الكريم وأصحابه..
والتقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتين، هما: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي..
كانوا تواعدوا مع رسول الله عند شِعْب العقبة، وتسلّلوا إلى هناك، مُسْتَخْفين عن أعين قريش، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عمّه العبّاس بن عبد المطلب.
فسألته: هل كان العباس مسلماً؟
ُفأجاب أبو مصعب:
- لا .. لم يكن مسلماً وقتها.. إلا أنه أحبَّ أن يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويطمئنّ على ابن أخيه، لأنّ أمره يهمّه.
وهناك بايعوا رسول لله، فطلب منهم الرسول القائد أن يختاروا من بينهم اثني عشر نقيباً، ثم عادوا إلى المدينة، وبقي مصعب مع النبي الكريم شهرين في مكة المكرمة، ثم هاجر إلى المدينة المنورة، وكان أول المهاجرين إليها.
سألت جارنا أبا مصعب:
- ألم يزر مصعب أمه في مكة يا عمي؟
- بلى.. زارها، بعد أن زار النبي الكريم، واستأذنه في زيارتها.
- وكيف كان استقبالها له؟
أجاب أبو مصعب، وهو يصعّد الحسرات:
- كان استقبالها له سيّئاً.. استقبلته بقولها: إنّك لعلى ما أنت عليه من الصَّبأة بعد؟ تزور محمدً قبل أن تزور أمك أيها الولد العاقّ؟
- ما معنى الصبأة يا عمي؟
- كانوا يسمّون المسلمين صابئين، لأنهم تركوا دين آبائهم، وآمنوا بالله ورسوله. ولذلك قالت له: إنه صابئ.
- فماذا أجابها مصعب؟
- قال لها مصعب: بل أنا على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أنا بالصابئ، وما أنا بالعاقّ.
وأرادت أمه أن تحبسه فهدّدها مصعب بقوله: لئن حَبَسْتني، لأقتلنَّ مَنْ يتعرّض لي.
فقالت له، وهي تبكي:
- اذهب لشأنك.
فقال لها مصعب:
- يا أمّي، إني لكِ ناصح، وعليك شفيق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله.
فصاحت أم مصعب:
- والثواقب.. لا أدخل في دينك، فيُزْرى برأيي، ويضعف عقلي، ولكنّي أدعك وما أنت عليه، وأقيمُ على ديني.
وقال جارنا أبو مصعب:
- صدق الله العظيم.. إنك لا تهدي من أحببت، ولكنّ الله يهدي من يشاء.. وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له.
قلت أستحثّ جارنا أبا مصعب على متابعة الحديث:
- وكيف كانت حياة مصعب في المدينة يا عمي؟
- كحياة سائر المهاجرين الذين أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها.. حياة قاسية، عانوا فيها من الفقر والجوع، ولكنها كانت حافلة بروح الأخوّة والإيثار، وبالدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله.. ففي المدينة، أذن الله للمؤمنين بالقتال في سبيله، ولإعلاء كلمته، وقد خاض مصعب غزوة بدر، تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كان مصعب يحمل لواء الرسول القائد، وكان بطلاً شجاعاً، قاتل المشركين قتال الأبطال، لأنّ حامل اللواء يجب أن يكون بطلاً من الأبطال.. وانتصر المسلمون في غزوة بدر، وقتلوا من المشركين سبعين مشركاً، فيهم أبطال قريش وطغاتها كأبي جهل، وأسروا سبعين مشركاً، كان منهم أبو عزيز، أخو مصعب، فلمّا رآه مصعب، قال لآسره:
- شد َّ يديك به، فإنَّ أمّه ذات مال ومتاع، فلعلها تفديه منك.
فقال له أخوه أبو عزيز بن عمير الذي كان يسمع مقالته:
- يا أخي .. هذه وصيّتُك بي؟
فقال له مصعب:
- إنه أخي دونك.
فهتفت:
- الله أكبر. أخوه في الإسلام مقدَّمٌ على أخيه من أمّه وأبيه؟
وقال جارنا أبو مصعب، وقد ظهر التعب عليه، فقد أطلت عليه الحديث:
- وقاتل مصعب في غزوة أحد، وكان يحمل لواء الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.. قاتل كالأسد الهصور.. فجاءه ابن قميئة، وحمل عليه بسيفه، فضرب يده اليمنى فقطعها، فاستلم مصعب اللواء بيده اليسرى وهو يقرأ بصوت عال:
﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾.
فحمل عليه ابن قميئة مرة أخرى وضرب بسيفه يده اليسرى فقطعها، فحنا مصعب على اللواء، وضمّه بعضديه على صدره، وهو يتلو قول الله تعالى:
﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾.
فحمل عليه ابن قميئة مرة ثالثة برمحه، فأنفذه في صدره، فاندقَّ الرمح، وفاضت روح مصعب، وارتفعت فوق سحابة من عبير إلى الفردوس الأعلى، حيث الأنبياء والشهداء والصدّيقون والصالحون، والحور العين..
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، وتلا قول الله تعالى:
﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً﴾.
ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب، وتذكّر أيامه الماضيات في مكة، فقال:
"لقد رأيتك بمكة، وما بها أحد أرقَّ حلّةً ولا أحسن لمّة (أي شعراً) منك، ثم أنت مُشَعَّثُ الرأس في بُرْدة".
وقال الصحابيُّ الجليل: خبَّاب بن الأرت، يروي حكاية تكفين مصعب:
"هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنّا من مضى أو ذهب، لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد، لم يترك إلا نَمِرةً (أي كساء) كنّا إذا غطَّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطّي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: غطّوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر."
ووقف الصحابيُّ المجاهد عامر بن ربيعة رضي الله عنه يُدلي بشهادته في مصعب وقال:
"كان مصعب بن عمير، رضي الله عنه، لي خِدْناً وصاحباً منذ يوم أسلم إلى أن قُتل رحمه الله بأحد.. خرج معنا إلى الهجرتين جميعاً بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أرَ رجلاً قطُّ كان أحسن خُلُقاً، ولا أقل خلافاً منه."
ورأيت جارنا أبا مصعب يمسح دمعات فرّت من عينيه، وهو يختم حديثه عن الداعية الشهيد مصعب بن عمير، بصوت متهدّج باك، فنهضت مستأذناً، وأنا أقول له:
- شكراً يا عمي على حديثك الرائع عن مصعب، ويحق لك أن تسمّي ابنتك بمصعب، وعندما أكبر ويأتيني ولد، سوف اسمّيه مصعباً إن شاء الله ..