رحيل مزدوج
رحيل مزدوج
قصة: نعيم الغول
يتسلل الظلام إلى الغرفة بهدوء ومن حولها تتجلل الأشياء بالسواد.. الخزانة تبدو لها كائناً خرافياً جاثماً بجانب الحائط، طاولة الزينة مسرح استعراضي زائف.. ملاءة السرير مرتبة تحمل دعوة إلى النوم وتشي بقلته، والسرير نفسه واسع إلى حد يدخل البرودة في عظامها.. المشجب يحمل بعض ملابسها كما تحمل "الشناكل" في دكان جزار اللحم والقلب والرئتين.. تتجول عيناها في الغرفة فتغمرها موجة من الكآبة والحزن.
يطرق سمعها صوت ضحكة طفل.. تعرف صاحبها.. إنه عليّ ابنها.. يشرق وجهها قليلاً.. تفتح الباب.. صوت الضحكة لا يزال يجلجل لكنه الآن أقل علواً من قبل.. تطل في الممر.. تسرع إلى غرفته.. تقترب من الغرفة.. يخفت صوت الضحكة.. تفتح الباب.. تدخل رأسها وعلى شفتيها ابتسامة وفي قلبها يتضاحك أمل تريد أن تباغته.. تحضر السؤال عم يضحكه كثيراً.. تكتشف أن الغرفة خالية.. تغمغم "لعله خرج يلعب.. سأسأله حين يعود!"
تعود إلى غرفتها.. تجلس على السرير.. تلسعها برودته.. تتأوه.. تضع رأسها بين يديها.. تتدلى خصلات شعرها الذي انتفض فيها بياض من أثر أربعين عاماً هي عمرها. تقوم إلى الخزانة وهي تمشي مشية من لا تزال تحت تأثير البنج أو كمن يمشي في نومه.. تفتح بابها.. يخترق أذنيها صوت المفصلات.. ينصب الصوت فيهما زعيقاً مريعاً جعل ذاكرتها تنتقل إلى رنين الهاتف قبل نحو سنة.
- ألو، مدام سميحة؟
- نعم، من المتكلم؟
- زوجك إبراهيم يتردد بانتظام على امرأة في الهاشمي الشمالي.
- من أنت؟
- فاعل خير!.. طوط..طوط..طوط.
من تحت السرير تخرج حقيبة سفر كبيرة.. وتبدأ في وضع ملابسها فيها. (لا بد من الرحيل. انتظرت يوماً بعد يوم أن يتكلم... أن يلمح.. أن يشير.. دققت في قمصانه.. سترته.. أوراقه.. لا شعر.. لا رائحة عطر.. لا أثر لامرأة.. هل يحسن إبراهيم إخفاء أسراره إلى هذا الحد؟)
- فاعل خير! طوط..طوط...طوط.
تمسك بقميص نوم شفاف طويل ذي فتحتي طويلتين جانبيتين.. (هذه هي الذكرى السنوية الأولى لزواجنا.. تخيلتك وأنت تلبسينه.. قلت حبيبتي.. زوجتي.. حلالي ستجعله أجمل حين تلبسه).
يمر على شفتيها طيف ابتسامة ما يلبث أن يختفي (ترى هل أهدى لها مثله أو أجمل.. ربما كان أقصر ليتمتع بالنظر إلى جسد ابنة عشرين.. لا بد أنها في العشرين! لهذا إذن يخفي عني الأمر..)
- فاعل خير، طوط..طوط..طوط.
(إبراهيم.. لم تعودني على إخفاء شيء عني.. هل تقول لي أصغر الأشياء.. أتفه الأشياء.. وتخفي أعظمها.. تخفي أخطرها؟ لماذا تصر على إنكار علاقتك بامرأة أخرى؟ ألم يتكرر تأخيرك وغيابك منذ أكثر من سنة.. كنت تأتي قبل ذلك في موعد ثابت كأي موظف في شركة. وقت محدد لبدء الدوام ووقت محدد لانتهائه.. ثم البيت.. أنا وابننا الوحيد علي.. تأتي.. تقبلني.. تسأل عن ابنك.. تلاعبه.. تلاحقه.. تحمله على ظهرك.. لكنك منذ صيف العام الماضي بدأت تتأخر ثم بدأت تغيب عن البيت.. وحين تعود تكون منهكاً.. تقبلني بفتور.. تنظر إلى ابنك من بعيد.. إبراهيم، تغيرت كثيراً.. وأنا لم أعد احتمل!)
أنهت ترتيب ملابسها.. أمسكت بصندوق حليها.. فتحته.. تململت أمام عينيها إسورة.. تمسكها.. تلبسها.. تدور عيناها حولها.
- حصل جميع موظفي الشركة على مكافأة.. ادخرتها للذكرى السنوية الحادية عشرة لزواجنا.. اشتريت هذه الإسورة لك.. ليتني أملك أكثر لأشتري ما يليق بمعصمك.
(يومها قبّل معصمي وألبسني الإسورة.. قال إنه يريد أن تشهد يدي له عند قلبي).
- فاعل خير، طوط.. طوط..طوط!
(إذن لماذا يا إبراهيم تذهب إلى امرأة غيري.. أتعرف امرأة أخرى؟ أتعشق غيري؟ لابد أنها أصغر مني.. أحلى مني.. أبعد أن ذابت شمعة عمري من أجلك ومن أجل ابننا.. تتركني من أجل امرأة أخرى؟ يا للعار.. لم أحد احتمل).
تقذف بالصندوق بعصبية إلى داخل الحقيبة. يقع بصرها على حافظة صور. تفتحها.. تطالعها صورة لها وهي في الخامسة.. كانت تبكي.. تتذكر أنهم صوروها وهي تبكي و هم يضحكون.. ويطوف في خاطرها سبب بكائها: صديقة لها أخذت لعبتها.. وتتذكر أنها كانت بدلاً من أن تتشاجر معها.. تنزوي وتظل تبكي حتى يعيدوا إليها لعبتها.. تتوقف عند صورة أخرى لها.. كانت في الخامسة عشرة.. صديقتها معها في الصورة.. كانتا تتنافسان.. صديقتها تسعى للحصول على الدرجة الأولى.. هي للحصول على حب المعلمة.. لكن المعلمة كانت تميل إلى صديقتها.. تحمر غيظاً (لا بد أنها كانت تتزلف للمعلمة بطرق حقيرة).. تطوي الصفحة.. تقلب الحافظة بسرعة.. تبدو الحافظة كشريط سينمائي.. لحظات اللقاء الأولى.. الحب.. الخطبة.. الزواج.. علي. تتذكر عملية الولادة المتعسرة.. إنقاذ الجنين.. تلف الرحم.. استحالة الحمل مرة أخرى. تتابع صفحات الحافظة.. تتوالى صور علي.. صور له في اللفة.. صورة له وهو عارٍ في حوض الاستحمام.. صورة على دراجة.. صورة وهو يركب حافلة الروضة لأول مرة. صورة عيد ميلاده الثاني عشر.. تتوقف الصور.. تنتهي.. تغلق الحافظة تضعها في الحقيبة.. تسمع صوت ضحكة علي تجلجل على مقربة من باب الغرفة.. تنهض.. تفتح الباب.. تطل في الممر. تذرعه ركضاً.. تفتح باب غرفته تختفي الضحكة.. تحضر السؤال عم كان يضحكه كثيراً. تكتشف أن الغرفة خالية.. معتمة.... موحشة.. باردة تطاطئ رأسها.. تغمغم "لعله خرج يلعب.. سأسأله حين يعود".
تعود إلى غرفتها تتجه إلى الخزانة.. حزمة الرسائل ما زالت حيث وضعتها آخر مرة.. تتناولها.. تجلس على السرير.. تفتح الحزمة.. تقرأ الرسائل.. رسائل ما قبل اللقاء الأول.. رسائل ما بعد اللقاء الأول.. بقيت رسالة واحدة.. بعد الزواج.. الرسالة التي قرأتها عشرات المرات.. تفتحها ويدها ترتعش وتقرأ" رجاء، لم أعد احتمل وسوستك وشكوكك التي لا تنتهي ورفضك أن نعرضك على طبيب أخذت ابني وسوف تصل إليك ورقة الطلاق بعد أيام. وداعاً. إبراهيم."