عُتُـوُّ العَاصِفَة
عُتُـوُّ العَاصِفَة
لبابة أبو صالح
غضبتْ هي وغضبَ هو وغضبَ كل من في الدار .. وصار الغضبُ عدوى تنتقل من شخصٍ لآخر في المكان .. لم يكتفِ أحدهم بأنه غاضبٌ .. كان يصرخُ .. ينقلُ عبَر النسماتِ خشونة صوته لتصل إلى أذن كلِّ جار ..
وقف الجميع .. الكل مقطب الحاجبين .. محمرُّ الوجه .. نافرُ العروق .. الأعصاب مشدودة .. وذات الثامنة تراقب من بعيد ..
هي اعتادت هذه الحالة التي تحيل بيتهم إلى بركانٍ ثائرٍ لا يهدأ إلا بعد أن تتكسرَ عشراتُ الأطباق .. وتهتزَ الجدران .. ويستحيلَ كل شخص إلى مجنونٍ ثائرٍ هائجٍ يبحثُ عن جدارٍ يكسرُ عليه رأسه ..
تسللتْ إلى أحدهم قبل أن يحيَن دوره في ارتداءِ جُبَّةِ المجنونِ .. وتمثيلِ دورِ الغاضبِ وبمهارةٍ .. صوبتْ نظرةً غريبةً إلى عينيهِ .. أرسلتْ عبرها رسالةَ سلامْ .. لمْ يُـطِقْ نظرتها .. فأشاح عنها .. قرأ الرسالة .. كسرتْ بهذه النظرةِ الصلبة ِتلكَ الحواجز التي كان يحوِّطها بها .. لم تعد صغيرة .. لم تعدْ تجهل هذه الحياة .. بل إنها تطالبُ بالسلام .. لأجلِ تلك اللعبةِ التي تحتضِنها .. لأجلِ ابتسامةِ الوجهِ الدائري الذي رسمته على الورقةِ ذاكَ المساء .. تريدُ أنْ تلونَ الشفاهَ بالأحمرِ ..
أخيراً لمحَ في عينيها خوفَها الشديد .. ومقتَها العظيم للوضعِ بأكملِه .. هلْ آن الأوان لكي يطلقَ حمامةَ السلامِ ويُلجم أفواهَ الغضب ؟!.. هيَ ملَّتْ هذا الجنونَ .. بل كرهَته ..
عادَ بنظرهِ إليها .. كانتْ ما تزالُ ثابتةَ النظراتِ .. هلْ يسألها المزيدَ منَ الإيضاحِ ؟!..
جرعةُ جرأةٍ ألقاها إليها عبرَ نظرته .. هتفتْ :" هلْ ستبقى حمامةُ السلامِ حبيسةً ؟!"
صفعتْ الحيرةُ وجهَه ليترددَ صدى السؤالِ في رأسِه على مدى صمتِهِ .. ولمْ يتركْ التحديقَ في وجهها الدائري .. طالَ صمته .. وطالَ تحديقه .. وطالَ بحثها عن إجابةٍ بلا كلمات ..
استدارتْ بظهرها له .. خرجتْ من الغرفةِ لتدعَهُ يبحثُ عن إجابتِهِ ..
ألجمَهُ السؤالُ .. نظرَ لمن حوله .. تولَّدَ سؤالٌ آخر في نفسِه :" لماذا همْ غاضبون ؟!" ..
استدارُ أحدهم إليه بحنْق .. " ها ما بك .. أ ليسَ الزمنُ كافياً لـ... " .. أجابه بهدوءٍ : " لماذا ؟؟ " ..
ازدادَ غضبُ ذاك فصارَ يموجُ كموجِ بحرٍ هائجٍ ..
العدوى بدأتْ تصيبُ الزوجةَ .. الهدوءُ يسري إلى جسدِها ليتركَ خدراً فيه .. ثَقُلَ لسانُـها .. جلستْ على الأريكةِ خلفها تلتقطُ أنفاسَها وتتأملُ غضبَ زوجِها .. تتأملُ صراعَهُ معَ السُّكون ..
ازدادَ غضبه .. تعِبَ منَ الصُّراخِِ .. حاولَ أنْ يثيَر زوبعةً جديدةً .. الرمالُ في الصحراء ِطينيةٌ .. من سقاها بالماءِ .. منْ بلَّلَها .؟! ..
صرخَ كثيراً .. صرخَ وصرخَ و صرخَ ..حتَّى سكتْ ..
صارَ الثلاثةُ ينظرون إلى وجوهِ بعضهم البعض .. والصمتُ يغلِّف نظراتهم .. الإرهاقُ .. الجميع يلهث ..
صمتهم دفعَ الطفلةَ للخروجِ إليهم بابتسامةٍ عريضةٍ .. نعمْ فقد حققتْ انتصاراً عظيماً .. الجميعُ صامتٌ .. كفوا عن الصراخِ وتمثيلِ أدوارِ الحمقى .. اتسعتْ ابتسامَتُهَا .. تعجَّبوا من سعادتها .. لكنهم أبوا أنْ يفقدوا لحظةَ صمتِهم العجيبة بسؤالها عن سببِ الفرحِ .. فاكتفوا بالتأملِ ..
كانتْ متوجسةً تسألُ نفسها :
" أ هوَ التقاطُ الأنفاسِ برغبةِ المتابعةِ ؟؟! "
" أمْ أنها نهايةُ العاصفةِ ؟! " ..