شامَّ السيف بعد القلم

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

ظهرت عليه دلائل الجهد وأعياه التعب ، لقد خرج بعد أن صلى الصبح جماعة في المسجد متخذاً من الغلس رداءً قبل أن يظهر نور النهار، وتختلف الأرجل، وتتابعه الأعين الفضولية ، وعبر أحراج الصنوبر المحيطة بمدينته توارى قاصداً وجهته ، وهاهي الشمس قد اقتربت من كبد السماء وصار الظل يساوي أصله ، فتوضأ لجمع الظهر والعصر جمع تقديم . وبعد الانتهاء من الصلاة قرر أخذ سنة من النوم لتستجم نفسه، وتستعيد عضلاته ومفاصله حيويتها، فهو لم يتوقف منذ أن غادر المسجد يسير بين أكمات وأجمات .

     وما كاد يغمض له جفن حتى هب مسرعاً وركب حماره وتابع السير ، لم تُْثنِه أوضار التعب لأنه كان مشغول البال، فأساطيل الصليبيين تحاصر جزيرة ميورقة وأخواتها ، ورجالها يدافعون عنها ، ولم يحمله على هذا القصد إلا أمر المجاهدين.

     اتخذوا من شعاف جبال بلانسة موطئاً،  وهم ممن نذروا نفوسهم للجهاد لا ينتمون بالكلية لهذه الجزر ، يُِغيرون على قواعد الأعداء في عقر دارهم، وقد فشا في الناس أنهم هجموا على سواحل كتالونية المقابلة لجزر ميورقة ودخلوا كنيسة، وقتلوا من فيها .

     لم تكن فيما حوله وهو يسير، عين تطرف، على حد ظنه، والحقيقة أنه ما إن جاوز محل استراحته فرسخاً حتى أخذته عين رصدٍ لم يشعر، بها ورافقته بكل سكينة لتعرف وجهته ، ولما تبين أنه يقصد جبال بلانسة وأخذ يقطع تخومها وأكماتها السهلة ، أعطى الحارس إشارة لمن يليه فسار مسرعاً يخبر أميره أبا حفص عمر بن سيري من أهل ميورقة بحار ابن كريهة ما عرف الاستقرار يصدق عليه قول الشاعر عمر بن أبي ربيعة :

     أخا سفر جواب أرض تقاذفت    =      به فلوات فهو أشعث أغبر 

     سارع الأمير مع العين لستجلاء أمر الغريب وهما يتحدثان في أمره إلى حيث يتوقعان ملاقاته ، وأخذا بالاقتراب خفية، فلما لاح لهما، طلب الأمير من مرافقه المكوث في مكانه،  وتابع الدنو حتى إذا كان على مرمى بصره أشار للراصد بالعودة إلى محله، وخرج له، وسلم عليه واعتنقه ثم جلسا ساعة يتهامسان وعادا سوية إلى عرين المجاهدين .

    فاجتمع نفر من المجاهدين حول الأمير وزائرهم الغريب فتكلم أبو حفص يُعرّف بعضهم إلى بعض ، وأخبرهم بانضمام أخ لهم إلى الجهاد المبارك . واستخف الطرب الزائر فأنشأ يقول للمجاهدين حيّا الله وجوهاً لا تأنس إلا بملاعبة الجياد، في بلد قلقة المهاد، لا تصلح لغير الجهاد .

   رمقه شاب في ميعة الصبا واقترب منه ثم عاد أدراجه،  ففهم الأمير مقصد المجاهد الشاب، فالضيف متقدم في العمر، ولا يصلح لحرب كر وفر، وتحمل مشاق الإبحار ليلاً وحمل عدته وصعود الجبال بخفة الغزلان،  وهذا دأب مجاهدي هاتيك الناحية ، فتحدث الأمير ليدفع لبس فهم هذا الشاب ومن حوله ، وأخبرهم أن أبا العباس من أهل تحصيل المنقول والمعقول ، لذا فهو ذو خبرة، وابن هذه الجزيرة، وقد يشير علينا بما لا نعرفه ، وأكمل بأن جهادنا المبارك، مثلما يحتاج لقوة الذراع، فإنه لقوة العقل أحوج .

   كانت عادة المجاهدين أن يبدأ نهارهم بصلاة الصبح جماعة ثم يعكف كل منهم على أوراده ، ومن ثم يتوجهون لسوح التدريب والمهارة ، وقبل انتصاف النهار يجلس بعض من يختارهم الأمير أبو حفص الساعات، يُخرج لهم خرائط، ويُسرُّ إليهم بمهمات، بينما يتولى نائبه شوؤن الحراسة وجمع المعلومات ، فصلاة الظهر وراحة قليلة،  وبعد صلاة العصر يجتمع الأمير ونائبه والعرفاء ، وقبيل المغرب يعكفون على أوراد المساء، فإذا صلوا المغرب تحلقوا يتحدث كل يوم واحد منهم بخاطرة شرعية أو من تجاربه في الحياة حتى صلاة العشاء فالنوم .

   في سهرة الاستجمام الروحي، كما كان يدعوها المجاهدون تحدث الأمير عن التوحيد وأثره في العمل ، وعلاقة التلازم بينه وبين الإخلاص . ثم التفت نحو ضيفه أبي العباس يستزيده، وفي نفسه كان يريد إجازة كلامه ، حمد الله أبو العباس وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وقال: ملخص توحيد الله ثلاث مبان: الأولى توحيد الربوبية وهي أن توحد الرب في أفعاله جل في علاه فلا تعتقد نفعاً أو نصراً.... إلا من الرب ، ولا يتسقيم إيمان المرء إلا بتوحيد الألوهية وهي أن توحد الله في أفعالك أنت أيها المكلف، فلا تقاتل إلا لله ولا تصلي إلا لله..وعقيدة الكمل من الله التوحيد التام الذي لا يتطرق إليه ريب في الأسماء والصفات للمولى عز وجل .

وهكذا استمرت الحال غير أنه ذات يوم، وأبو العباس حديث عهد مع المجاهدين، كان جالساً، وإلى القرب منه بضعة مجاهدين، يتلون كلام الله ويتدارسونه بينهم ، اختلفوا على معنى آية. كان أحدهم من أهل قرطبة، وهي قبلة أهل العلم في الأندلس، وذكر أقوال المذهب المالكي في استنباط حكمها، وخلافَه مع أخ له كان ظاهرياً، واحتدم النقاش، فجلس إليهم أبو العباس يرقب الآراء، وحين لم يتفقوا تحدث قائلاً : لو أذنتم لي!. عهدُنا بأهل العلم في الأندلس أنهم يفتون بمذهب الإمام مالك في كل شيء عدا أمر الجهاد فالرأي عندهم على مذهب الإمام الأوزاعي، المذهب السابق لمذهب مالك هنا

وأفاض في المسألة وحسم الخلاف .   

وفي خاطرة لأبي العباس تحدث عن التربية الجهادية الفردية ، وأفاض في أجر المرابط ، وعند انتهاء كلامه تقدم إليه أحد المجاهدين يريد البيعة على الرباط ما أحياه الله ، فقال الشيخ على شرط واحد أن لا تستدين، فقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، أن للمرابط أجر شهيد وإن مات على فراشه ، والشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين ، وعلى هذا بايع .

وفي سهرة دعوية وفد نهارها ثلة من المجاهدين كانوا في مهمة ، وبعد صلاة المغرب قدم الأمير رجلاً يدعى أبا عبد الله الطرطوشي، نسبة لطرطوشة، وهي مدينة في مقاطعة كتالونية ، فقال في هذه الغزوة أغرنا على معقل من أكبر معاقل فرسان المعبد – الداوية – والحمد الله أجهضنا حملة للأعداء في رحمها ، وهنا تدخل أبو العباس قائلاً من أفتاكم بالهجوم على كنيسة ، وقتل رجال منقطعينن للعبادة؟! قال أبو عبد الله: إنها ليست محلاً للعبادة، وإنما هي وكرٌ لجمع السلاح والمقاتلة فيه من شتى أنحاء أوربة، وبمباركة البابا نفسه ، قال أبوالعباس وما الدليل ؟ فقال أبو عبد الله: سيفي هذا، وألقاه إليه، فإذا هو سيف نقش عليه الصليب. وأكمل أبو عبد الله: إنه من فيء الكنيسة الأولى، وأنا ابن مقاطعة كتالونية، وأُتقِن لغتهم، وعندما أكون هناك استطلع الأخبار لا يفرقون بيني وبين أبناء جلدتهم، فكما ترى أمي قوطية .

وخلال فصل الربيع والصيف التالي، ومن ثم الخريف، عرف المجاهدون أن أبا العباس يحمل أوقاراً من العلم، فكانوا في ضحوة النهار تجلس إليه طائفة بعد أخرى ، ثم تطور الحال بأن قسمهم إلى مجموعات ورتبهم إلى مستويات ، وكانت فترة بعد العصر للتخصص، فحلقة للتفسير، وأخرى للفقه ....

وما إن انتهى فصل الصيف حتى تمكن من كان من المجاهدين طالباً للعلم أن يأخذ إجازة من الشيخ ، وتحولت جبال بلانسة من مأوى مطاريد إلى جامعة، فثمة حلقة متخصصة في الفقه وثانية للتفسير وثالثة لعلوم القران .....

ويدخل فصل الشتاء وليس عدواً لطاعن في السن مثلُ البرد . ومع قسوة ظروف المعيشة التي يحياها المجاهدون ونقص الغذاء ، يكون الثالوث الفاتك لمن بلغ من العمر عتياً: السن وقلة الطعام والبرد ، لكن  عزيمة أبي العباس أكبر من تكوينه الجسدي ، فيلزم الفراش ، مما حدا بالأمير أبي حفص أن يقرر سفر الشيخ إلى مدينة دانية في عدوة الأندلس ، فيأبى الشيخ هذا القرار مما يضطر الأمير لاستخدام صلاحياته فيقول له: ألستُ أميرك ولي عليك حق الطاعة فأنا آمرك بالسفر ، وعند غروب يومٍ شتوي أضاف منظره خلفية كآبة للمشهد ، تجمع المجاهدون على سفوح شاطئ وهم يودعون الشيخ وأعينهم تفيض من الدمع وهو في مركب حوله بضعة بحارة من خيرة رجالاتهم ، كان أكثرهم تأثراً أميرهم أبو حفص الذي بكاه  إلى حدِّ النحيب ، والتفت إلى المجاهدين قائلاً: أتعرفون من هذا ؟.

هذا فضيلة الشيخ العلامة أحمد بن علي الأنصاري المكنى أبا العباس بن مواق عالم ميورقة ومحدثها وأعلم علماء الأندلس في العقود، أتاكم يعلمكم أمور دينكم.

 [هذه في الأساس أربعة أسطر ذكرتها كتب التراجم عن هذا الحبرالعالم العامل ، أخذها خيالي الذي طالما طاف بين الأسطر في تاريخ الأندلس الثر ، فهي وإن كان للخيال الجزء الأكبر غير أني لا أظنه جاء ببدعاً من القول لا تمت للحقيقة بصلات .]

قصه حدثت بالفعل وستحدث مرات.... ومرات.....؟