الاتجاه المعاكس
الاتجاه المعاكس
عصام أبو فرحه
على تلة جميلة خضراء في اطراف سهل ( مرج بن عامر) تقع تلك القرية , ترتفع قليلا لتشرف على سهل جميل يحيط بها من جهاتها الاربع , اسمها - كما يقول كبار السن فيها – يعني منطقة مرتفعة تطل على ما حولها من الأرض , فأسمها ( الجلمة ) ولا ندري ان كانت معاجم اللغة تؤيد ذلك التفسير أم تخالفه , تبعد قريتنا مسافة خمسة كيلومترات الى الشمال من مدينة جنين , تجاور تماما ما يسمى ( الخط الأخضر ) الذي يفصل بين الأراضي التي احتلت عام 1948 وتلك التي احتلت عام 1967 , فتراها قائمة بينهما ترفع رأسها مشرئبة تنظر الى كل منهما بأحدى عينيها وتمسك كلا منهما بيد من يديها وكأنها تربط بين أوصالهما وترقض انقسامهما .
عشق ( محمود ) قريته , مسقط رأسه التي فتح عينيه على جمال سهولها وبساطة بيوتها وطيبة ناسها وخيرات بساتينها وعذوبة مائها , فلم يكن يبرحها ألا لوقت قصير برفقة والده حين يصحبه معه الى مدينة جنين لنزهة قصيرة او لشراء بعض احتياجات الاسرة .
كم أحب ذلك الشارع الذي يخرج من قريته ويتجه جنوبا ليصل الى المدينة , قاطعا سهلا أخضرا يمتد مع امتداد النظر ذات وذات الشمال , تحف جنباته أشجار( الكينا والسرو ).
تلك الرحلة القصيرة والتي لا تستغرق اكثر من دقائق معدودات كان محمود ينتظرها بفارغ الصبر , فكان يلصق رأسه بشباك السيارة الخلفي ينظر الى البيوت وهي تبتعد شيئا فشيئا , ويقول : ذاك بيتنا , وتلك هي المدرسة , ولا زلت أرى المسجد , يبقى سعيدا محدثا نفسه حتى يعجز بصره عن تحديد المعالم فيصمت حينها ويستدير محدثا والده : متى سنعود ؟؟ وكأن الحنين الى قريته يسكن نفسه مع اول غياب لها عن بصره .
منذ عامين لم يغادر الصبي قريته ولم يصحبه والده الى المدينة , فالخمسة ( كيلو مترات ) التي تبعدها المدينة صارت خمسين , وذلك الشارع الجميل صار ثكنة عسكرية تستبيحه الآليات والدبابات , وتلك السهول الخضراء صارت خنادق تحمي تلك الآليات .
ارتباط سكان القرية بالمدينة اضطرهم للبحث عن طرق بديلة , وعن وسائل بديلة للتنقل , فاستعيض عن السيارت بالجرارات الزراعيه ( التراكتورات ) , واستبدلت طرق الاسفلت بطرق ترابية وعره , وانقلبت الاتجاهات , فبدلا من الاتجاه جنوبا للوصول الى المدينة صار لا بد من الاتجاه شرقا ثم جنوبا ثم غربا ثم شمالا لبلوغ المدينة , وقد يتعذر الوصول حتى بعد اجتياز تلك المتاهة , وما ان يعتاد الناس على متاهة حتى تقطع , ليبدأو البحث عن متاهة جديدة .
صار الذهاب الى المدينة والعودة منها هما يوميا وخطرا داهما لا يجازف به الا مضطرا , كموظف أو مريض أو صاحب حاجة ملحة , وصغيرنا ( محمود ) في ذلك اليوم كان احد المضطرين لتلك الرحلة المضنية , حيث كان مريضا وبحاجة الى بعض الفحوصات في مستشفى المدينة , استقل السيارة مع والده ومضوا في رحلتهم .
محمود : الى اين انت ذاهب يا والدي ؟ المدينة تقع جنوبا وأراك تتجه شرقا" فماذا جرى ؟
قال الوالد : اصبحت تقع شرقا" ( وكأنما اراد اسكاته ) .
محمود : لكن معلم التربية الاسلامية في درس الصلاة قال لنا عليكم التوجه الى القبلة , فسألناه وأين القبلة ؟ قال : هي باتجاه الجنوب , فلم ندرك اين الجنوب , فقال لنا هي باتجاه الطريق الواصل الى المدينة , وانت تقول ان اتجاه المدينة قد تغير ,
فهل نقلت المدينة من مكانها ؟
الوالد : لا
محمود : هل نقلت قريتنا من مكانها ؟
الوالد : لا
محمود : هل كان المعلم مخطئا" :
الوالد : لا
محمود : هل اصبحت الشمس تشرق من الغرب وتغرب من الشرق ؟
الوالد : لا
محمود : أذن هل تحولت قبلة المسلمين الى قبلة اخرى ؟
قال الوالد : ( وقد قرر وضع حد لسيل الأسئلة ) لا ادري يا ولدي , ربما تحولت , ربما . !!!!!