نفسٌ أمّارةٌ بالعشق
نفسٌ أمّارةٌ بالعشق
" القصة الفائزة بجائزة العشق العالمية للعام 2009"
د. سناء الشعلان
لي نفس أمّارة بالعشق،ولي قلب لايَبْرَم بضعفه الآسر، ولي ربٌّ وحدَه من يغفر خطايا العاشقين،ويبدلهم بسيئاتهم حسنات، ويدخلهم جنات ونعيماً،ولي سيرة هلاليّة يحفظها كلّ من ركب سَرْجَ قلبه، وشنّ حرباً دامية على كائن آخر اسمه حبيبه،وسيرتي يختزلها كلّ المؤرخين والمخلوعين في حرفي حاءٍ وباءٍ، وبين منحنيات حروفهما وانزلاقاتها تسكن كلّ اللّعنة،لعنة العشق التي توهب مجاناً لكلّ من يملك نفساً مثلَ نفسي.
أنا صاحبة أسعد قلب في الدّنيا، وصاحبة الحقيقة المطلقة، ونبيّة الكلمة، أنا الملعونة بلحظاتي، المتمرّدة على السّكون، أنا وريثة كلّ الافتقاد والاحتياج والجوع والشّهوة والارتواء والتنهّدات والخلجات والارتعاشات والدّوار اللّذيذ المسحور، أنا القائمة بأمر الله في الأرض، والموكلة بكلّ القلوب خلا قلبي، ولذا حُقّ لي ما لا يحقّ لغيري من حضور لحظة خلقي، كانتْ لحظة تختصر كلّ حكايا العشق، وما أكثرَها من حكايا! لم أكن وليدة لحظة اجتماع رجل وامرأة بل وليدة لحظة اختيار ،وامتزاج روح بأخرى،أنا صنيعة ضَعْف وانتقاء،مِنْ بين ملايين الخيارات في لحظة كنتُ أنا.
ولدتُ منذورةً للعشق، ومن له أن يردّ قدره،ويبدِّل نذره؟! كانتْ عند والدي خطة آثمةُ تُختزل في وهبي أجمل ما يملكان من صفاتٍ وكروموسوماتٍ ؛لأكون مادة للفتنة ولفخار القبيلة ولجموح الرجال الآسرين المسجونين في الكلمة، فشغلتهما لحظة العشق عن مؤامرتهما الحلوة، فخرجت سليلة القبح المتعاظم على انكساره، فمن والدتي أخذتُ الشّعر الأجعد المنحول، ومن أبي أخذتُ الجسد الضّئيل حدّ الانكماش، ومن جديّ لوالدتي أخذتُ العيون الحلزونية الخاشعة كجبن أرنب، ومن زوجته أخذتُ الأنف المعقوف كأنف صقر كاسر، ومن جدتي لأبي أخذتُ المشية الطّاووسيّة ، ومن زوجها أخذتُ البشرة الكابية كحزن ، ومن جموع المورثين أخذتُ الفم الكبير والشّفاه الغليظة والأذنين الملتحمتين بأطراف شعر الرّأس والخصر المهصور كأرنب مسلوخ، والأطراف الوزغة،والأعضاء القاصرة ،ومن الرّيح أخذتُ صوتي، ومن الشّيطان الرّجيم أخذتُ نفسي المعنّاة بتمرّدها، ومن الله أخذتُ نفسي الأمّارة بالعشق.
خيوط الشّمس أوّل من عشقتُ، لبريقها يدان تحتضنان النّماء والحياة، لوهجها إرادة آسرة، لاعتلائها كَبِد السّماء سطوة خالدة، لدفئها قدسيّة دمعة يتيم،أدمنتُ على أن أدفنها في عميق عيني، لاحقتها بنظراتي الفضوليّة التي لا تعرف الملل ليل نهار، وعندما أصاب حريقها عينيّ بالمرض، منعوني عنها بقوتهم المفروضة على طفولتي الرّضيعة في المهد، ومنعوني الشّمس، وأسكونني الظلّ،كان عمري وقتها أياماً،فكان الحرمان والفقد هما أوّل ما ذقت من الهوى، أضربتُ بإصرار عن الرَّضَاع، وأعلنت ثورة على الحليب، وعندما غلبني الجوع، وهزمني العيّ، استسلمتُ ليدي الجدّة الدّاية ذات الشّامة الخضراء، وقبلتُ ذليلة بمنقوع اليانسون والنّعناع بديلاً من الحليب الذي أضربت عنه للأبد تخليداً لذكرى حبي الشّمس الذي قُتل في مهده.
عاهدتُ نفسي يومها على كبتْ نفسي الأمّارة بالعشق،وعلى كبح جماحها، وبررتُ بعهدي المقدّس في عرف طهارة الأطفال لأيام أسطوريّة فلكيّة كريهة ثقيلة الخطى، فأصعب ماعلى النفس أن تعلن حرباً على ذاتها،ونجحتُ في حربي على الرّغم من كثرة القتلى ومواجع الإعدامات والنّفي والاضطهاد في وجداني.
وأعلنتُ التوبة على إثمي الأوّل في الأرض، ولكنّني من جديد اشتهيتُ الخطيئة والمعصية واللّعنة، ووقعتُ في حبّ كلّ شيء جميل، وما أكثر الأشياء الجميلة في عينين هما نافذتان على روح تضجّ بالتّفاصيل والألوان والرّوائح واللّمسات والحاجات والأمنيات المؤجّلة والأفراح المسروقة من جنّة الخلد حيث كان مسكنها الأوّل في غامض العدم. عشقتُ الفراشات الملوّنة، و زرقة السّماء، وثورة البحار، وصخب المحيطات، وسكون قيعان النّفوس، أخلصت في مشاعري وبرّي لكلّ وجوه الأمهات وأيادي الجدّات.
يا اللهُ ياجبارُ،ياخالقَ الحبّ، كم كانتْ طويلة قائمة من عشقتُ،أنتَ من وهبني قلباً عملاقاً، فهبني عمراً فيه كلّ الأعمار حتى أكون كاهنة الهُيام الخالدةَ التي أنّى كانتْ حضرتْ كلّ وجوه عشّاق الأرض والوطن والسّماء والخبز غير المغموس بدم الأبرياء ، والآلاف الآلاف من وجوه الأيتام والمعذبين والمحرومين ،ووجوه المستضعفين المنكودين، ووجوه الأيتام، وكلّ أرغفة الجائعين.
في كلّ ليلة احترفت تعاطي الممنوع المهرب من الرّائق الخالص من المشاعر لعشاقي الذين لا يحصيهم عدداً إلاّ الرب في عليائه، أحببتُ كلّ مَنْ قالوا لا ، و كلّ مَنْ قالوا نعم تومىء إلى لا، أحببتُ علياً ولمبا وجيفارا وماو وصلاح الدّين وشجرة الدّر والحلاج وجميلة بوحيرد ومصطفى كامل وعلي الزيبق ومسرور السّياف ومعروف الإسكافي وجعفر الطّيار وابن عربي وديك الجن الحمصي وفارس عودة وجان دارك وهانبيال وإليسار والمتنبي وأبا العتاهية وهوميروس والظاهر بيبرس وفراس العجلوني والشّريف الرضي و نزار قباني وعمر أبو ريشة وفيكتور هيجو و كلّ الثائرين المبتغين الشمس، وأحببتُ كذلك صبر أمي وأبي ،فقد كانا وريثي زمن الجوع والانتظار، ووهبتُ دموعي لعروس البحر، ولسندريلا صاحبة الحذاء المفقود، وسكنتُ أجساد كلّ محبوبات رجال الأرض ، ودوختُ بكلمات كلّ الشعراء، وحظيتُ بكلّ قُبَل المقبّلين، ولمسات أكفّ المشتهين، ولعنات كلّ الفاعلين وآثامهم، ثم استغفرتُ الله، فغفر لي، أليس أرحم الراحمين؟؟
ونسيتُ أسماء كلّ عشاقي؛ إذ خاط لي ساحر مغربي يهودي آثم حجاب نسيان، فعلّقته في رقبتي ليل نهار بخيط قنّب، فنسيتُ كل ّ أثامي وسعاداتي،إلاّ مجيداً الأبكم، فقد كان حبّ طفولتي الأوّل، كان قذر الملابس والجسد شأنه شأن كلّ المعدمين المنكودين، حَرَمَه النّصيب، فأضاع فمه وأذنيه، كان ألعوبة أشقياء الحارة القديمة حيث أسكن مزروعة بين أشتال أمي، حين أشفقتُ على عجزه، فأشفق على دمامتي، وعلى أنوثتي المكسورة المأسورة في جسدي المزدرى، فكانتْ له دون العالمين قبلتي الأولى، لم يكن ممن يحفظون فطرياً أبجدية الإسعاد ولغة الجسد، ولكن كان عنده أبلغُ صمت،وأحرّ دمعه،وأنا أحبّ الدّموع، أجمعها في قوارير شفّافة، وأصنعُ منها ترانيم الفرح.
أحببتُ مجيداً حتى أحتلّ جارنا ذو العضلات المفتولة والشّعر الخيليّ مكانه في قلبي، كان يصطحبني معه إلى السّينما مع بناته الخمس المنحوتات بعناية إلهية واضحة على هيئة دمى جميلة،كان يعدّني ابنتَه، ويشفق على استحياء على أنوثتي القردة، وكان كلما حملني بيديه القويتين ، ووضعني في مقعد قاعة العرض في السّينما الذي لا تصل قدماي إلى قاعدته، فيتمرجح شبشبي البلاستيكي البرتقالي القديم في الهواء، أحلم بأن أملكه روحاً وقلباً، وأعد بإخلاص خصلَ شعره الذهبيّة بقصائد خالدة، لكنّه ما كان ليبالي بصغيرة بشبشب برتقالي بلاستيكي وإن أهدته قصيدة.
أمّا جابر فكان معنياً بالقصائد والكلمات، ولها دفع عمره،أنا أحببتُ جابراً، ولكنّه أحبّ الكلمات أكثر مني، وكتبَ القصائد، وثوّر السّاكنين، وحمل السّلاح، ومات مشبوحاً على دكّة التعذيب، وما قال لا،فتوحّمتْ به كلّ النّساء الحبالى، وحملتُ منه العذارى بالثائرين دون أن يلمسهن ، فغدا لي جيشٌ من الضّرائر والمنافسات، وأنا كمِسلة في كفِّ قتيل ،لا أحبّ الشّركاء،فلتحبّ كلَّ النّساء جابراً، وليحبّه الوطن، أمّا أنا فلي أن أعانق الفَقْد.
للحق سرعان ما غار اسم حامد بين حشد أسماء قائمتي الحاضرة الغائبة،حيث حسّان الهبيلة، وجبر أبو ريحة، وسلمان أبو بربور، وعباس اللّص، وكايد اللّقيط الذي يعيش في دار الأيتام، ولا يعرف له ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، وحسين الذي يعيش في علبة كرتون بجوار كلبه الأعور، ومخلد الألثغ الذي يقلب الراء غيناً،وناصر ابن الوالي الذي يصلّي دون وضوء، ويعاشر بنات الهوى في حوزة أبيه العلميّة،وكيمو المخنّث الممزّق بين عالمي الأنوثة والرّجولة،وسليمان الغجري الذي يحبّ قرده وموسيقاه ورحيله المتصل أكثر مني، وطارق الذي يعيش مع دزينة أخوة صغار في غرفة صغيرة في مخيم نسيه النّسيان،وعددٍ كبير من أولاد الجيران والمدينة والدّراسة الذين ماعدتُ أحفظ أسماءهم أو أتذكّر وجوههم، ولا سوء في ذلك؛ فللعشّاق جميعاً وجه واحد واسم واحد، ومن حفظ اسماً واحداً منها ،فقد حفظ كلّ الأسماء.
وبقي اسم حبيبي الخالد الذي يجيء ولا يجيء مرقوماً في المجهول،وفي انتظاره اجتهدتُ أن أتعلّم مهنة الخياطة كي أطرح على من أحبّ عباءة من صنعي ،أشك فيها سيلاً من النّجوم والكواكب والمجرّات.
وسريعاً أتقنتُ الخياطة ؛فقد كنتُ أتمثّل في تعلّمي لها حكمة:" من يدرز ينجح"!!! ونجحتُ؛لأنّني درزتُ دون توقف ليل نهار، وصنعتُ بعد سنين عجاف عباءة الغائب المتأخر. طويتها على غير هون، ومسّدتُ عليها بعطفي الخفيّ، وغلّفتها بتعويذة أثيرة، وانتظرتُ أن يأتي الحبيب، ومرّ العمر، وشاب الشّعر الأجعد، وتقبّض الأديم،وتقوّس الجسد الهزيل ذو المشية الطّاووسيّة المزعومة، وغادرني ضيف لذيذ حلو اسمه الشّباب.
واعترافاً بريادتي وتمرّدي،فقد عُيّنتُ رئيسة فخريّة لحزب الحبّ، ولرابطة المشاعر الجيّاشة،ولدارة العواطف، ورئيسة تحرير لمجلة السّعداء، ومستشارة في محطة المحظوظين الفضائية،فضلاً عن تأليف كتاب موسوعي عن العشق وطرائقه وأبوابه ومنافذه،وبات شعار مريديّ في الحياة قول الشّاعر:
ماتُبْتُ عن عشقي ولا استغفرته ما أسخفَ العشّاقَ إنْ همُ تابوا!!
ولكنّني كنتُ أجزم بأنّ الله سيغفر لي، نعم سيغفر ؛لأنّني على الرّغم من كلّ قصص عشقي لم أعشق قطُّ،فأنا امرأة تملك كلّ الحكايا وعباءات الانتظار،لكنّها أبداً لا تملك حكاية لها مع حبيب غير ورقي، وهذا قدر الأنفس الأمّارة بالعشق والمولعة بكتابة الرّجال الذين لا يأتون حقيقة إلاّ على الورق، ولا شيءَ غيرَ الورقِ، فنفسي أمّارة بالكتابة أيضاً!!!