جلّنارا

نعماء محمد المجذوب

قصة قصيرة

قصة: نعماء محمد المجذوب

لمست في محياها حزناً وهماً خفياً، أهي الغربة عن الأهل والوطن، أم الجهد الموصول بالدراسة؟

غمرتني لهفة شفيقة للتطلع في خفايا نفسها، ونحن في صحبة كريمة، فاستدرجتها إلى حوار مثير.

- مالي أراك يا "جلّنارا" محزونة، وقد أتيت إلينا من بلاد الثلج والصقيع؟

بعربية فصحى مضبوطة بالحركات، يشوبها لكنة أعجمية، أخذت تسرد جوانب من ذات حياتها، بمشاعر مؤثرة:

- أجل، أتيت من "طاجاكستان" إحدى مستعمرات الاتحاد السوفياتي سابقاً، التي انتشر الإسلام في ربوعها منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

بابتسام استدركت، فقلت:

- بل من عهود الخلافة الإسلامية زمن العثمانيين، الذين كان لهم الفضل في دخول الإسلام إلى عدد من الدول المجاورة لروسيا، حتى تفككت الخلافة، وأضحت هذه الدول تحت الستار الحديدي، واكتوت باضطهاد الشيوعية، الحركة الشرسة التي تتهدد الإسلام بالاستئصال، ولم يأتنا من أخبار هذه الشعوب إلا ما تناثر مع الحجاج القليلين.

- تابعتْ:

- فأنا من عائلة ذات أصول إسلامية، وللأسف، كغيرها لم تتقيد بضوابط الإسلام وأحكامه بسبب السيطرة التي ذكرت على تلك الشعوب، ومُنعنا من اقتناء المصاحف، والكتب الإسلامية، وكانت بيوتنا تُفَتَّشُ بحثاً عنها، والويل لمن وُجِدَتْ عنده، إذ يُحْكَمُ عليه بالسجن، أو الإعدام أحياناً، كما حولوا المساجد إلى إسطبلات للخيول، ومخازن لعلف الحيوانات.

لقد نشأتُ كغيري من أبناء المسلمين، بين اليهود والنصارى، وكانت دراستي في مدارسهم، وفُرضتْ علينا مبادئ الشيوعية، فكانت مع غيرها من العوامل، السببَ في جهلنا للإسلام.. حتى إذا منحتْ روسيا شيئاً من الحرية إلى مستعمراتها، ولأمد محدود لا يتجاوز السنوات القليلة، تنسم المسلمون بعضها، وتجرأوا في التحدث عن دينهم كنزهم المفقود، ولكن بسرية وهمس شديدين..

كنتُ آنذاك طفلة ألهو بما يحلو لي، لم أدرك كنه الأمور الغامضة، ولم أقدر على تفسير ما ينتاب المسلمين من حذر وكتمان.. أحسست بخطورة ما يهمسون، ويسرون، وظل الأمر محيراً في نفسي سنين طويلة.

كنت أعب من متاع الدنيا وبهجتها، كالطير الغريد في أرجاء البيت الواسع، وبين أشجار حديقته، وأزهارها، وطلباتي تلبى دونما إلحاح، فأنا وحيدة والديّ... بالرغم من كل ذلك وأنا أكبر، كنت أحس بفراغ أدور فيه وأدور، وأبحث عن شيء تتعلق به روحي، كي يطلقني من أسر الأرض، وليسمو بي في الآفاق البعيدة.

كثيراً ما كانت تلح عليّ التساؤلات في خلوتي:

"لمَ وُجدتُ في هذه الحياة؟ أمن أجل المتعة واللهو؟ أرى الصور والأشياء تتكرر، والناس يموتون، ويتركون وراءهم ما يملكون، ثم يضحون ظلالاً لذكريات تهرب إلى قاع الأذهان، بعيدة عن الأبصار. فهل خلقنا عبثاً؟!!"

كانت الحيرة تتجاذبني، وتلقيني في دُوُّامة من التصورات تسكنني، وتشتت نفسي... أتمزق، ولا أحد يدري بي..

*    *    *

نلت الشهادة التي تؤهلني للدراسة في الجامعة، ودار حوار بين والديَّ حول قرار مستقبلي، كل منهما ألقى بسهم نحو هدف يدرّ علي المال الوفير، والاستمرار في النعيم، ثم ارتأيا أن ألتحق بمعهد الطيران، وحصل ما أرادا، ثم التحقت بقسم الصحافة، ونلت الإجازة، وكلا الاختصاصين لم يرويا غليل نفسي، وبقيت روحي في تمزق، وفي فراغ لا حدود له..

في إحدى ليالي الشتاء القارس، والثلج يتساقط من الفضاء، فيغمر الجبال، ويملأ الأودية، ويكسر بثقله بعض أغصان الأشجار، والريح تزمجر، وتعصف بأجنحتها زجاج النوافذ، نهضت من سريري... أشعلت شمعة، داريتها بكفي، ووضعتها بجانبي، ثم تناولت المصحف الوحيد الذي زار بيتنا سراً من قريب، كانت الفاتحة السورة الوحيدة التي أمكنني تعلّم قراءتها من غير فهم لمعانيها.

صمتت "جلنارا" هنيهة، بان التأثر على وجهها وهي تتحدث:

- أتذكر، كيف انتابني إحساس مذهل، وأنا أثبت نظري في الآيات، وشفتاي ترددان الكلمات.. إحساس أعجز عن وصفه، وأنا أنطق حروفها بالعربية، كان جسدي يرتعش، وفؤادي ينتفض في صدري كالعصفور الذبيح، وروحي تسمو بي إلى آفاق السماء... وفجأة نهضت في مخليتي صورة مغبَّشة لجدتي وهي تصلي، حيث نسيت باب غرفتها مفتوحاً بعض الشيء، على غير عادة منها، لم تسعفني ذاكرتي إلا بهذه الصورة.

تساءلت آنذاك باستغراب:

- لمَ كانت تخفي صلاتها عن الأبصار؟

كانت ذبالة الشمعة تتردد ببطء، وتلقي ظلالاً تتحرك فوق الجدار، فتزداد صورة جدتي وضوحاً.. أخذت أقلدها، رفعت يدي، ركعت، سجدت وأنا بصمت ساجٍ.. أنا ولهيب الشمعة في صلاة، وخيال جدتي يراقبنا، هزل اللهيب، وأوشك على الهلاك، بل مات.. كجدتي مات..

تسلل شعور غريب في كياني، وخشوع سكن فؤادي، ثم دمعات تجاوبت باستحياء لما ألمَّ بي، ووجف صدري بالحب، والخوف، والرجاء، وأنا في صمت أثقل أحاسيسي، فهويت بانكسار فوق الأرض، ويداي تضغطان على صدري، ألملم مشاعر لذيذة توشك أن تفرّ منّي.. ثم أهوي في تيه، أدور فيه، أبحث فيه... عن ماذا؟ لست أدري.. وأعود من حيث بدأت..

كان الغموض فيما وراء الحياة يمزقني، وروحي لا تهدأ بين جوانحي، والتساؤلات تجول في خلدي، تتلهف لمعرفة الحقيقة، تتوق لهتك أسرار الغموض، ولتنتشلني من المعاناة، فالظلام في نفسي كثيف.. جد كثيف..

لمن ألجأ لأبوح له بما يسري في سرّي؟

لم كتمت جدتي عني ما تعلم؟

نفسي في شتات، وأمي في العمل تغرق في سيل شيوعي ضال، فرض على الرجال، والنساء، والولدان، مسيجاً بالتهديد والترهيب، ثمنه الصمت، والبعد عن أصالة الأجداد، والعيون تلتصق بالأرض بذل وخنوع، وأبي مقعد في كرسيه يتمتم بكلمات، ورأسه يتهدل بين كتفيه.

كانت التساؤلات تئنّ في صدري، وتزداد توهجاً في خلوتي، تبحث عن الحقيقة في نفسي، وفي الحياة.. في الكون.. في كل شجرة، ونبتة، ونسمة، وحبة مطر، في الطبيعة الهادئة، والصاخبة، في النحلة، والفراشة، في كل شيء تلمسه يداي، وعيناي.. الحقيقة وراء الأشياء، كيف أصل إليها.. من يرشدني، ويأخذ بيدي؟!

بدهشة سألتها:

- ألهذا الحد كنت في جهل عما وراء الطبيعة؟

- أجل، كنت، وكنا كذلك..

تابعت:

في ليلة تخللت بالأرق، انتشلتني من سهدي أمنة من نعاس، فراودني حلم، كنت فيه أسير في البحر بصحبة ناس، وساقاي تغوصان فيه، شعرت بالجزع، وخشيت الغرق، صرخت: أن ارجعوا نحو الشاطئ، نوشك على الهلاك، بيد أن صرختي ابتلعتها الأمواج.. انفلتّ من بينهم متجهة نحو أمان الشاطئ.. تابعت المسير على غير هدى، فإذا غابة كثيفة الأشجار تلوح لناظري، ويخرج منها شخص مهيب، وقور، ذو لحية بيضاء، تتلألأ نوراً، يتوكأ على عصا، اقتربت، وأبديت له تحيري، وضياعي في حديث نفسي، أرسل نظره بعيداً، وأشار نحو الشمس.

كانت الشمس في أبهى شعاعها، وجمالها، والسماء لا كدر فيها، والنسيم يهفهف برقة تنعش نفسي، وأشعر بالأمان والاطمئنان.

هدأت الرؤيا هواجسي.. ثم بعد أيام سرت في أحد شوارع موسكو، لفت نظري لوحة لمعهد اللغات، دفعتني الرغبة لأتحسس ما فيه، فعلمت بعد السؤال عن شاغر للغة العربية، فحظيت به، وتملكتني الغبطة.

بتهلل وفرح قلتُ:

- إنه لشيء جميل، جميل جداً، وبعد ذلك، ماذا فعلت؟

تابعتْ بسرور:

- درستُ اللغة العربية خلال السنة، ثم رأيت أن أتابع لأستوعبها وأتقنها بشكل أفضل، وعاودتني الحيرة من جديد، وأنا أتساءل عن السبيل لذلك. ثم كانت الرؤيا التالية:

حلمت بأني أمشي في طريق يكتنفه الظلام، ينتهي عند جبل يلتحف بالظلام أيضاً، أصابني الهلع، لملمت شتات نفسي، وقررت الرجوع، في هذه الأثناء انبعث صوت من السماء سكن سمعي، يحثني على التقدم، ثابرت، فإذا كوة تفتح في ذلك الجبل، والنور يتدفق منها تدفقاً عجيباً... صحوتُ، والنور يملأ قلبي، ودموع الخشوع تنهمر فوق وجهي.. لقد علمتُ بأنه الحقيقة التي أبحث عنها..

سألتُها بدهشة:

- هل كان لهذه الرؤيا أثر في إحداث تغيير في مجرى حياتك؟

بلهجة فيها التفاؤل قالت:

- تأكدتُ بأن عليّ المثابرة في تعلّم العربية، الوسيلة الصحيحة التي تمكنني من تفهم معاني آيات كتاب الله، وشريعته، وبعد تفكير، هداني الله لاختيار الأردن، ويسر لي ما أردت من السفر، والانتساب إلى جامعة آل البيت، حيث التصقت بأبناء عرب مسلمين، ليسهل تفهمي للغة القرآن الكريم..

لا أنسى نصيحة والدي المقعد، وهو يهمس بها سراً، وترسخ في ذهني، بوجوب العودة إلى الإسلام.. طمأنته بقولي:

- أعرف يا والدي ما أريد، وأخطط لما أريد..

قلتُ بإعجاب:

- حسن ما أردت، وماذا فعلت؟

عرفت صفات "جلّنارا" الرائعة أثناء صحبتي لها، كانت قوية الإيمان بالله، شفافة في روحها، متزنة في عقلها، صائبة في تفكيرها، مستقيمة في سلوكها، متحضرة بطبعها، سكن الإسلام قلبها، وصدقته جوارحها، ملكت الهمة المتوثبة نحو الهدف السامي، استطاعت بعزيمتها، وإقبالها على تعاليم دينها أن تتطهر من لوثات الشيوعية، وإلحادها، ومبادئها الآسنة، فأقبلت على العبادة بقلب خاشع، كأنها تسابق الزمن، عساها أن تكفر عن أيامها السابقة، وتزكيها من آثام الماضي.. فكان لهذه التربية النفسية، والسلوكية، والعقلية، عوامل دعتها إلى النجاح..

قلت بانبهار:

- سبحان الله!! لا يستطيع إنسان أن يقدر نعمة الإسلام حق قدرها، ويعرف فضل هذا الدين العظيم، إلا أن يكون قد سبق له معرفة شرور الإلحاد، وما ينتج عنه من مفاسد، وآثام، ويرى كيف تعطل التفكير السليم، وتشوّه الفطرة النقية، وتطمس البصيرة النيّرة، وكيف تجعله دائم الالتصاق بالأرض، يجري وراء المتعة المادية، والحسيّة فقط.

خفت صوتها، وتأوهت بعمق، وأنا أسألها عن أخبار دراستها، فقالت بشيء من الأسى:

- لا أخفي عليك بعض ما أشعر تجاهها، إنها مهمة ضخمة وشاقة، ولكني سعيدة بها، لأنها تتعلق بالدعوة إلى الله، وأحمده على ما زودني من الجرأة، وسأدعو جهاراً في بلدي، بعد أن خرجت على تقاليد الجاهلية العصرية.

اغرورقت عيناها بالدموع، وتوهج زهر الجلّنار في وجنتيها، وصمتت، فسألتها باستغراب:

- هل تشعرين بضيق، أو ألم من الاغتراب؟

شرقت بدمعها، وأجابتني:

- أشعر بمثل ما تقولين، لقد زهدت بمتاع الدنيا، واغتربت في سبيل الله، بيد أني ألاحظ في نفسي ضعفاً في قدرتي على استيعاب العربية كما ينبغي، وأخشى أن أعود خائبة، ولم أتمكن من تحقيق مرادي.

- لا أظن ذلك، لا.. إنك تملكين قوة الإيمان، والرغبة لتأمين مستقبل دعوي، ولديك الهمة والعزيمة، فبلا شك أنت في معركة  متواصلة مع نفسك، تقدرين أن تغالبي بإرادتك مواطن الضعف، وتتحدي الصعاب، وتذللي العقبات.. فلا تدعي الهواجس، والوساوس، وسوء التصور، تسيطر عليك، اطمئني لقدر الله، فهو الذي يسوسك كي تصلي إلى المستوى الذي ترغبين.

ساد صمت بيننا، ثم أفرغت من نفسها شحنة من شكوى:

- أحياناً.. أحس بصدمة تؤلمني وأنا في قاعة المحاضرات، فأخشى أن تصيبني بلبلة تجعلني أهرب من الواقع..

بُغِتُّ من قولها، وبسرعة سألتها:

- ماذا تقولين؟

بلبلة.. هرب.. ما الأمر الذي صدمك وأنت في الجامعة مع إخوة وأخوات لك في الدين، وقد بلغت بإيمانك مبلغ اليقين، وخالط الإسلام قلبك وعقلك؟!

بتأسف شابه شيء من الجزع قالت:

- إني أعيش بين عذابين: عذاب الغربة، وعذاب الكدح والجهد المضني في تفهم مواد الشريعة، فأعاني كأمثالي المغتربين المتلهفين على المعرفة للعربية وأمور الدين من مشكلة..

- ما هي؟

- المدرسون في الجامعة يعاملوننا بنفس الطريقة التي يعاملون بها الطلاب الذين رضعوا لبان العروبة والإسلام، فلسنا مثلهم، نشأنا في أحضان الشيوعية، وتلقينا الإلحاد منذ طفولتنا بلغتنا القومية.. فهلاّ يحسون بمعاناتنا، وينظرون في أمرنا، فيذللوا العقبات، كالتحديات المعرفية، واللغوية، ويشعروننا بالثقة والطمأنينة، لدينا العزم، والحماسة، وأهالينا يضعون آمالهم فينا... فلا نريد العودة صفر الأذهان، فدراستنا، وتحصيلنا المعرفي بشريعة الله ليست نهاية المطاف، بل هي البداية لمرحلة جديدة، سنقبل عليها بالجهاد الطويل، والكفاح المرير، ونحتسب غربتنا، ودراستنا في سبيل الله.

ضغطت على كفّها مشجعة:

- اصبري، وجاهدي في هذه المعركة، ولا تزرعي في نفسك عوامل اليأس والضعف، واثبتي، لا يعتريك جزع، أو هلع، ولا يعتصرك ألم، تفاءلي بالله سبحانه.

غمرت وجهها بكفيها، تخفي دموعاً حملتها ضغط المعاناة، وبصوت مختلج رددت:

- حسبي الله، عليه توكلت.

بابتسامة تزرع في صدرها الأمل، قلت:

- حسُّك المتيقظ، ونفسك الوثابة بهمتك، وتعلقك بالرجاء بعون الله، عوامل تهون عليك الصعاب، والتحديات.

*    *    *

لقد التفت الأخوات المتمسكات بالعروة الوثقى حول (جلّنارا)، وأبدين استعدادهن للتخفيف عنها.... ساعدنها في العربية، وفهم المواد.

كم كانت فرحتهن غامرة حين تلقين نبأ نجاحها، وفوزها، وتخرجها داعية لتحمل رسالة الإسلام بوعي إلى شعبها، ولتكون الأسوة الصالحة.

في المطار كنّ يودعنها، وهي تشكرهن، وتردد دعوات مباركة،... ارتحلت وهي واثقة من استعلاء إيمانها، وإسلامها، وسَكْبُ زهر الجلنار على وجهها، يمتزج فيه الامتنان بالحب الأخوي في الله.