طوارئ
د. نهى الزيني
"هذه صورة تخيلية وأي تشابه بينها وبين الواقع هو تشابه غير مقصود"
قبل أن تتوقف السيارة تماماً قفز فرد الحراسة الجالس في المقعد الأمامي بجوار السائق ليكون على أهبة الاستعداد لفتح الباب الخلفي ... هبط من السيارة : مهيب الطالع شامخ الهامة طويلاً وسيماً أنيقاً منتفخ الأوداج بعظمة تضع بينه وبين الآخرين حاجز صد لاسبيل لاختراقه .
صباح الخير ياريس .. صباح الخير معاليك .. حمداً لله على السلامة يافندم .. صباح الخير يابك .. ياسعادة الباشا .. الأسانسير ياولد الريس وصل .. امنع الدخول .. وسع السكة ...
صيحات ترددت بأصوات مرتفعة وجلة لاتطمح إلى تلقي إجابة ممن تستهدف مسامعه خلال دقيقة واحدة استغرقتها خطواته الواثقة من السيارة حتى باب المصعد .
باشارة خفيفة متعجلة من يده رد على تحيات طاقم السعاة والسكرتارية المصطفين في طريقه حتى مكتبه بعدها بقي وحيداً في الحجرة مع سكرتيره الخاص ، أشار له بالانصراف وأمره بأن يطلب له قهوة الصباح .
زايلت ملامحه انتفاخة الكبرياء وحل محلها توتر واضح بدا في انضغاطة شفتيه تحت أسنانه بعصبية وتلك الخطوط المبهمة التي بدأ يخطها بقلمه على أوراق بيضاء أمامه ... ذات الحلم .. الكابوس .. يتكرر دوماً في صور متعددة لكن مضمونه واحد .. سيف الاتهام المسلط على رقبته .. الاتهام الذي يقيم السدود أمام طموحات متطلعة لمزيد من النجاح والتألق .. مازال رئيساً للنيابة لكنه ليس كسواه ، إنه رئيس نيابة من الفئة المتميزة .. نيابة فايف ستارز.. نيابة أمن الدولة العليا .. حين ينطقها مُعرفاً نفسه تضغط شفتاه على الحروف لتوضيحها .. للتحقق من وصول المضمون لأذن المتلقي .. لإبراز الفرق الذي يستشعره منذ تم نقله بحركة قضائية سابقة لهذه النيابة .. نيابة أمن الدولة العليا ...
في الأنظمة البوليسية حيث تنسحق الهامات تحت أحذية ثقيلة مزدانة بالقوانين الاستثنائية وأحكام الطوارئ يصبح العمل في بعض الجهات منطلقاً للوصول إلى مناصب مرموقة وبغض النظر عن الكفاءة القانونية يطمح مثله إلى تقلد منصب النائب العام أو وزير العدل وربما منصب آخر رفيع لايخطر بباله ينتظره كمكافأة نهاية الخدمة بعد عمر طويل هذا فضلاً عن تلك المكانة الاجتماعية الرفيعة والأبهة المادية والمعنوية المحيطة بالمركز .. ولكن تباً لذاك الكابوس ..
أنت متهم بالانضمام إلى جماعة محظورة قامت على خلاف القانون وتستهدف قلب نظام الحكم .. كيف ؟ أنا إيهاب الإبياري رئيس نيابة أمن الدولة العليا .. أنت متهم بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين .. رئيس نيابة أمن الدولة العليا عضو بجماعة الإخوان المسلمين ؟ أنت متهم بالتعاطف مع الجماعة المحظورة .. انفضح ماكان مخبوءاً داخل الملف السري المحفوظ بالتفتيش القضائي : ملف تحريات الترشيح للنيابة العامة ، مجلس تأديب .. انكشف المستور .. النقل من نيابة أمن الدولة .. العزل من المنصب القضائي .. مجلس تأديب .. عدم صلاحية .. الحبس 45 يوماً على ذمة التحقيق .. إخواني .. مطارد .. ممنوع من السفر .. مستباح الحرمات.. قانون الطوارئ .. إيهاب الإبياري رئيس نيابة أمن الدولة العليا.. سابقاً .
قضبان حديدية يخطها على الورقة البيضاء الموضوعة أمامه .. الكابوس .. كنا نتجنب حتى الجلوس معهم وكانوا يشعرون بالحرج منا ويحاولون التبرير دون جدوى .. التقيت به في مناسبة عامة فلم أستطع أن أمد يدي لأسلم عليه ، كان التعذيب في السجن الحربي يتم على مسمع منه وكان يقوم "بتستيف" محاضر الاعتراف لذا شعرت بأن يده مازالت ملوثة بدماء الضحايا .. تلك الأيام السوداء .. هكذا كان والده المستشار السابق يقول ، أعتقد أن الأمر اختلف الآن كثيراً عن الماضي .. هكذا أصبح والده يقول بعدما نجح سعيه في نقله إلى نيابة أمن الدولة العليا .. لم تعد وصمة .. أصبحت مجالاً للفخر حين يحادث زملاءه من أرباب المعاشات .. أكاد لاأرى إيهاب .. تعرف كم هو شاق العمل في نيابة أمن الدولة .. العليا .. نعم سافر إلى أمريكا لمدة شهرين في مهمة عمل ، هو الآن في باريس .. يتعبون كثيراً .. المستشار حسن الإبياري ، والد إيهاب الإبياري رئيس نيابة أمن الدولة .. العليا ... الوضع الآن أصبح مختلفاً .
أنت متهم بالانضمام إلى جماعة إرهابية محظورة .. شوهدت وأنت تدخل إلى المكان وكان فيه اجتماع تنظيمي للإخوان .. لاتنكر .. التهمة ثابتة .. إخوان مسلمين ...
الحمد لله أنه خالي وليس عمي ، اللقب مختلف .. أرجو ألا يكون هناك إبياري إخواني.. الله يخرب بيوتهم .. شعب بأكمله ، وماذنبي أنا .. الخال والد ، هاها .. لم أره منذ سنوات ، توفي في المستشفى ، كنت أعلم أن حالته خطيرة وخشيت أن أطمئن عليه ولو باتصال تليفوني ، تخلفت حتى عن العزاء .. عائشة .. إش إش حبيبتي .. صدقيني لست نذلاً ، كلنا مراقبون .. مكالماتنا .. زياراتنا .. يعدون علينا الأنفاس .. قانون الطوارئ .. من يخاف لايتحدث ، هكذا قالها علانية وزير الداخلية ، ولكن السلطة القضائية مستقلة .. أما درست في الكلية نظرية مونتسكيو .. الفصل بين السلطات ، هاهاها...
- الوارد وصل ياسعادة الباشا (تمتم سكرتير التحقيق وهو يستأذن للدخول )
- افتح المحضر وأدخل المتهمين واحداً واحدا ..
ظل على مقعده حتى الخامسة عصراً .. سين وجيم .. بعض الإجابات يُسجل في المحضر وبعضها يشير للسكرتير إشارة متفق عليها كي يكف عن التسجيل .. لابد من تستيف المحاضر ثم يصدر المحامي العام أمراً بالحبس على ذمة التحقيق ويجدد حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا .
- ألا تعلم أنه أحد قيادات الجماعة المحظورة ؟
- لاتنكر أنك شاركت في اجتماع تنظيمي في منزله لتنسيق التحرك خلال المرحلة المقبلة ...
- لماذا اعترفت بذلك في تحقيقات المباحث ؟
- تقصد أنك تعرضت للتعذيب في مباحث أمن الدولة ؟ ......
التنظيمات السرية والأعمال التي تتم تحت الأرض ... الأوراق التنظيمية ... استخدام الدين ... قلب نظام الحكم بالقوة ... أنت متهم بالانضمام إلى جماعة محظورة الغرض منها تعطيل الدستور والقانون ....
نظر في ساعته .. أشار للسكرتير كي يتركه ليستريح قليلاً وطلب فنجاناً من القهوة أخذ يرشفه وهو يكمل رسم القضبان الحديدية على الورق الأبيض أمامه ، ثم رسم ببراعة خلف القضبان كاب ضابط .. ابتسم .. ضابط أمن دولة .. إتفووو
تجمعه بأحدهم مجالس شرب في نادي العاصمة .. ملتقى الصفوة .. لايستسيغ الشراب لكنه مضطر له أحياناً كي يبعد عن نفسه الشبهة .. الاتهام المسلط .. يعترف له بما يفعلون هناك في السلخانة .. تبرق عيناه بالنشوة .. شذوذ بشري .. حين يهوي الإنسان لايمكنه الوقوف عند حد .. أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون .. لابد من "تستيف" محاضر التحقيقات .. لن ندخل في مهاترات التعذيب .. كلها شهرين ثلاثة حبس احتياطي ثم يعودون إلى بيوتهم وأعمالهم ويادار مادخلك شر ولو تقرر إحالتهم للمحاكمة فسيحصلون على البراءة .. لايهم متى ولايهم حتى أن يُنفذ حكم المحكمة أو لا .. أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون .. قانون الطوارئ
رن جرس الموبايل .. زوجته .. أوف ! لن يرد .. تصر .. كنسل المكالمة .. أغلق الموبايل .. كانت دموعها تترقرق في عينيها ليلة زفافك لكن كبرياءها رسم على وجهها ابتسامة فرح .. الظروف .. الحكمة .. والدك .. والدي .. على رأي المثل "إن خاب الواد لخاله" سامحيني ياعائشة لست نذلاً
هل كان خالك إرهابياً ؟ انتزعوه من فراش المرض إلى المعتقل .. مازلت تذكر .. كنت صغيراً تلهو معها في بيته حين تلقيت الدرس الأول فهل وعيت ؟ : لاتكذب .. قل الحق ولو على رقبتك .. كن رجلاً ولو لفقوا لك ألف تهمة .. لن يحترمك أحد لو لم تحترم ذاتك .. يمضي المنصب ويبقى الرجل أولا يبقى ...
تحاب الصغيران .. تمتد يدك لتعبث فتردها تلاوة خاشعة صادرة من مذياع مفتوح على إذاعة القرآن الكريم .. أنت موهوب في الرسم وسوف تصبح فناناً ذا قيمة .. من قال ان الرسم حرام ؟ لاتكن متنطعاً في الدين فالله هو خالق الجمال والخلق مبتدأ الفن .. المهم أن تكون نفسك أولاً وألا تفقد تفردك ....
إيهاب بك .. أبناء القضاة لابد أن يصبحوا قضاة .. تميز اجتماعي ومستقبل مضمون .. لاتستمع لنصائح خالك فلو كان فالحاً لنصح نفسه أولاً ، أضاع مستقبله وأضاع أولاده .. رغم أنها إبنة أخي فلا أراها تصلح لك .. صدقيني ياعائشة لست نذلاً
أكتم ألمك .. تخلص من كابوسك .. احبس دموعك .. مزق رسومك .. اقلب الصفحة وارفع الهامة .. انتفخ
أنا إيهاب الإبياري رئيس نيابة أمن الدولة العليا
أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون
افتح المحضر وخللي الصول يجيب المتهم اللي بعده .....