الجمر الملتهب

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

بينما كنت أتأمل خلايا حديقتي المتواضعة الغناء ، جذبني منظر الوردة الزهرية الوحيدة ، يحيط بها طوق أحمر ، وقد عانقَتها أمها الشجرة وأمسكَت بها بقوة ، متحدية عوامل الهدم والتعرية ، وقفت مركزا مشدودا فاحصا مفكرا ، شعرت أنها تخاطبني بلسان الحال ، ودهشت لفصاحة خطابها ، قلت كم أنت أقوى من لسان المقال ، تفحصت كل نبتة وزهرة في مكونات حديقتي ، ولكنها لم تكن لتقدر من أن تؤثر على قوميتي أو جنسيتي .

لم أتردد ثانية واحدة ، فقد رفضت قطفها بقوة وكم أسعدني كثيرا وجود مجموعة من البراعم من حولها تستعد لميلاد جديد .

استسلمت سريعا استسلام الطفل لثدي أمه وحنانها ، وأعترف أنها سلبت مني الإرادة ، فرائحتها وجمالها وصفاتها أوقع في قلبي إيقاعا خاصا ، أدى إلى أن أنجذب إليها بالكلية جذبة من نوع خاص ، يشبه انجذاب الريح والغمام لمنخفض جوي مندفع من مكان سحيق .

شعرت أنها تبادلني نفس الشعور، فقد استسلمت أيضا لي ، فكنت أقربها وأداعبها وألامس وجنتيها ، أحسست أن ثمة لغة تجمع بيني وبينها بغير حرف ولا كلمة ولا لسان .

خاطبت روحي روحها، وخاطب وجداني وجدانها ، وخاطب قلبي قلبها ، ولكنها سبقتني في الخطاب ، فالفضل يرجع إليها ، لأنها متمسكة بجذورها التي تضرب في الأرض بعيدا .

عكفت أترجم من عبير فوح حديث عطرها ، كل لغات العالم التي توارت عن العيون والأسماع ، إلا لغة واحدة رفضت أن تتوارى  عن الأسماع والأبصار ، إنها لغة هالتها الحمراء التي تحيط بها وتحضنها وتطوقها بطوق الود والوفاء ، تقسم لها قسم الديمومة والعهد الذي لا ينقطع صداه ، نموت وتحيى فلسطين نموت وتحيى فلسطين .

كانت تغازلني ، وكنت أحدق بعيني إليها وهي تنظر مبتسمة ، يبدو على محياها البشر والسعادة واليناعة ، انطبعت صورتها في أوتار قلبي ، وتضاريس عقلي ، وخلجات نفسي ، جعلتني أسافر معها بعيدا ، وأغور معها في سبر الزمان ، أسافر مع الثوان والأيام والسنين ، أطير وبصحبتي راحلتي .

كنت أبادلها التحية ، وكانت تنظر إليّ بوجنتيها الناعمتين ، تشير إليَّ بإيماءةٍ جعلتني أفهم عميق مدلولاتها في ثنايا روحي ، فوشحتني بوشاح لم أعهده من قبل ؛ لأني عشت يتيما منذ نعومتي ، فقدت أبي وأمي ولم أكن أذكر من حياة أبي وأمي إلا النذر اليسير: أنهما تعارفا في البلاد النائية ..... فلم أشهد لي عما ولا خالا ، ولا ما نزل منهما ولا ما علا من الأقرباء ، فقد كنت مقطوعا من شجرة القربى .

جلست إلى جوارها اعزف على آلتي الموسيقية ، بوتر خيمتي الممزقة البالية إلا من آثار الطيف والترانيم ، رغم محاولات الرياح العاتية لقلعها ، أطير بصحبة خيالي إلى عوالم الأشباح ، وفي ثنايا روحي كل أختام وتواقيع العصر .

تصفحت عينتي من جديد خلايا حديقتي التي كانت في قلبي عشرين دونما ، وهي في حقيقتها عشرون مترا ، كانت تسعني وتسع عيالي الكثيرين ، كما كانت تتسع لأصدقائي ولجيراني ، فمكان الضيق يتسع لألف صديق .

استوقفتني هذه المرة البراعم الوردية ، والتي هي في الغد القريب ورود يانعة في ريعان شبابها ، وقلت في نفسي : كل شيء في وقته جميل .

فجأة وجدت نفسي في مكان بعيد أتلحف في عباءة الصمت ، يدثرني الاستغراق ، وكأن يدا لطيفة تلقي بي في بحر راكد اشتد ركوده ، وإذا بطيف نور يطل مداعبا خلجاتي ، يهمس في قلبي تارة وفي أذني تارة أخرى ، فهل أنا في شك أم يقين أحقيقة ما يحدث أم خيال .

تطايرت عباءة صمتي التي كانت تزملني آنفا في الأثير ، تطايرت تطاير أثير الخمر الآخر في الوعاء المتسع .

وعلى إيقاع ونغم وترانيم وتسبيحات ، هي في حقيقتها الشاهدة والمشهودة .

نسيت في لحظتها أو كدت أنسى ، من عظيم دهشتي وانفعالي ، أن أمسك باليد التي أغرقتني في ذلك البحر التائه في ظلمات العصر الجليدي ، والذي أنساني : هو ذاك البحر العملاق الذي لا تسعه عبارة ولا تصفه إشارة ولا تحده مقالة ، فهو بحر عميق لا ساحل له ، قَطَعْته وجُلت به يمنة ويسرة ، شرقا وغربا ، طولا وعرضا ، ذهابا وإيابا ، سألت أحشاءه وجزيئات مائه وذرات نسيمه فأيقنت فعلا أنه لا شاطيء له ، مع أنني لم أكن في شك فالرائد لا يكذب أهله .

تنفست الصعداء ، فكم سمعت عن بحار وأوحال ومستنقعات ومياه آسنة أغرقت في أوحال طينها الكثيرين  .

اعتليت البحر متحزما بحزام النجاة ، معتليا زورقا لا يجاريه ولا يدانيه زورق منذ فجر التاريخ ، رغم أنني كنت أجيد بامتياز الغوص ، كنت واثقا أن شمسه لا تغيب ، وأن موجه متقلب بتقلبات الهواء ، فشمرت عن ساعدي وأعددت عدتي التي لا تفنى من أجل لحظة مواجهة المفاجأة .

وعلى الرغم من وحدتي في أعماق البحر الذي يتيه في ثناياه كل بحّار لا يمتلك البوصلة ، ويغرق به كل غواص لا يجيد فن الغوص والسباحة ، إلا أنني اتخذت من بوصلتي هاديا ودليلا ، فالبحر هو البحر لا تدركه الأبصار العمياء ولا القلوب المقفلة الجوفاء .

ولا زلت أبحث عن تلك الجزيرة في وسط البحر كي أحط عليها راحلتي ، ولكنني لن أتيه أبدا .

حانت لحظة الوداع والبحر في قلبي يبني له عرشا وملكا وجيشا ، وكم كنت أخشى على الوردة وبراعمها من عوامل التعرية ، ومن عبث العابثين ، وذنوب التائهين ، وأعاصير الريح الصرصر العاتية .

ودعتها وقد امتقع لون وجهي ، ونحل عود جسدي ، فهي القمر في ليلة اكتماله وأنا العليل الفقير الحزين أشكو الهوى ، وأصرخ النوى ، وأقاتل الجوى في أوحال أدغال هزائمهم ، ومن بيني وبينهم البحر ، من فوقه مصباح يوقد من نور شجرة خلد السماء ، ودعتها كعروس تنتظر ليلة زفافها تخشى على نفسها الليل ، وقد رسمنا معا من مداد لون طوقها لوحة الخلود من تحت ومن فوق البراكين !!!.

ودعتني بحفل صامت ينتظرنا ، وقد غير مني جمالها كل موقع في كينونتي ، جمال يقيني ويُغثني من هجير الغد ، على أمل أن نلعب معا على رمال بحر عكا وحيفا ويافا وسدود والمجدل وغزة ، ونقضي على حمم البراكين .